لننقذ هويتنا الموؤودة!

لننقذ هويتنا الموؤودة!


18/03/2019

ليس بدعاً القول إنّ الهوية تتنازع تحديدها مقاربتان أساسيتان: جوهرانية واسمية، وأنّ الأولى تحيلها إلى مفهوم ساكن لا يقبل التبدل، ويرزح تحت عبئه الثقيل المنتمون إليه في وضع المستكينين فاقدي القدرة على السير إلا في طريق مرسوم مسبقاً. أما الاسمية فالهوية -وفقها- لا تعدو أن تكون اسماً لمسمّى لا يمكن القبض على فحواه بصورة نهائية؛ ولهذا فإنّه يتغير مع كل تغير يطرأ على فهم هذا المسمّى، ومع كلّ محاولة لكشف ماهيته التي يستحيل أن يتطابق ما يُعرف عنها معها.

اقرأ أيضاً: الهجرة والهوية والإسلام من وجهة نظر يمينية..موت أوروبا الغريب
ومن هذه المقدمة يمكن بسهولة الاستنتاج أنّ أهم سبب من أسباب الحالة الستاتيكية التي تعاني منها مجتمعات توصف بالمتخلفة هو اتخاذها منهجاً من مناهج انتقاء الهوية بنوعها الأول، ولا تختلف النتيجة في حال انتقائها بالرجوع إلى الماضي، أو بمناصبته العداء والاستبدال بالهوية المنتزعة منه هوية جوهرية أخرى مستوردة من سياق آخر.

الهوية العشائرية تكون أحياناً عاملاً أكثر قدرة على عقد الأواصر من قدرة أيّ خلاف سياسيّ أو أيديولوجيّ على فكّها

وإذا كنا نحمّل أنظمة الاستبداد مسؤولية تخفف مجتمعاتنا -محقين في ذلك بلا شك- فإنّ مسؤوليتنا عن تعبيد الطريق لمغامرين من العسكر للوصول إلى مراكز النفوذ المطلق لا يمكن إغفالها. فقبل أن يصل هؤلاء القادمون من بيئات ريفية منسيّة إلى مواقع الاستئثار بكل مفاصل الحياة كانت نخبنا المدينية والريفية قد جوهرت الهوية إما بنكوص معاكس لسير التاريخ، أو بالارتكان إلى عمق أيديولوجي مفارق. وهي جوهرة تُفقد بسكونها الفرد والجماعات القدرة على الإبداع واستنفاد الجهد في إضافة وحذف عناصر جديدة للهوية تبعاً لمراحل التقدم في سيرورة مقاربة الواقع. ولهذا فإنّ تغلغل التيارات الظلامية، وانخراط نسبة لا يستهان بها من الشباب فيها ليس أمراً متعذراً فهمه ما دام القاسم المشترك مهيمناً على الاختلافات الجزئية.

اقرأ أيضاً: أين مناهجنا العربية من بناء الهوية والمواطنة؟ 
في أنموذج أكثر تعيناً لما نقول، جرى انسجام بين مجتمع إحدى قرى ريف دير الزور التي لم تتعرض لغارات النظام؛ بسبب ولاء أبنائها له، وبين أمراء داعش الذين اختاروا تلك القرية مقراً لهم. ويبدو الأمر مستغرباً لأول وهلة؛ لأنّ المفروض أنّ الولاء للنظام كفيل بالحكم عليهم بالكفر من جانب أمراء داعش، ولكن ما يقوله المطلعون على بواطن الأمور: إنّ أمراء التنظيم هؤلاء مهاجرون عراقيون ينتمون إلى الأصل العشائري نفسه الذي ينتمي إليه معظم أبناء تلك القرية. وهو ما جعل الهوية العشائرية عاملاً أكثر قدرة على عقد الأواصر من قدرة أيّ خلاف سياسيّ أو أيديولوجيّ على فكّها.

جوهرة الهوية لم تعد مجرد نتيجة لبنية فكرية متخلفة لنخب ولجماهير، وإنما لفقدان الشعور بالأمان بسبب تغوّل أجهزة القمع

وفي شرق سورية أيضاً - بالرجوع إلى الوراء إلى خمسينيات القرن الماضي- تجمّع أبناء إحدى أكبر عشائر المدينة في ساحة رئيسة من ساحاتها، وهم يرددون أهزوجة فحواها أنّ الدولة قد أصبحت تابعة لعشيرتهم؛ فقد تمكن أحد قيادات البعث من أبناء العشيرة من الاكتساح في انتخابات البرلمان؛ بسبب الدعم العشائري الذي لم ينكره هذا القياديّ البعثيّ في مذكراته، على الرغم من أنّ الشعار الذي يرفعه يتجاوز نظرياً كلّ الانتماءات المحلية الضيقة. المفارقة في شرق سورية الذي ذكرنا المثالين من واقعه الجديد والقديم أنّ جوهرة الهوية لم تعد مجرد نتيجة لبنية فكرية متخلفة لنخب ولجماهير، وإنما باتت؛ بحكم فقدان الشعور بالأمان بسبب تغوّل أجهزة القمع، اختياراً براغماتيّاً لأفراد العموم، وبيان ذلك هذا القياديّ البعثيّ الذي ينتمي إلى إحدى أهم عشائر المدينة، والذي اختزل أبناء عمومته الدولة كلها في عشيرتهم عقب نجاحه في انتخابات البرلمان. هذا الرجل لو عاد إلى الحياة لما صدّق أنّ الوحدة العشائرية التي استثمرها لغايات أكبر قد تحولت إلى صفوف متأخرة في السلم التفاضليّ العشائريّ مثل غيرها من عشائر المدينة. وعلة ذلك أنّ جوهرة الهوية أصبحت فعلاً إرادياً لأفراد المجتمع عن طريق عدّ المرء من ذلك المجتمع الانتماء العشائري الأصيل هو الانتماء الذي يجد جذوره في الريف، على الرغم من الانقسام العموديّ بين المدينة والريف. وهو إمعان في جوهرة الهوية لا يكفي لتفسيره البحث عن أمان سلبه النظام الاستبداديّ فحسب، وإنما يدخل في تفسيره تراجع الصبغة الحضرية وابتلاع الريف للمدينة، وارتماء معظم زعماء العشائر في أحضان النظام بعد فقدانهم جزءاً كبيراً من رمزيتهم، وهي عوامل تجعل الهوية العشائرية المرتبطة بالريف قادرة على تحقيق النفع أكثر من غيرها، وهو نقل لها من موقع إلى آخر من دون المسّ بجوهرها المفترض ولا يتسع المقام لضرب أمثلة على الهوية الستاتيكية في مناطق أخرى منها المدن الكبرى، وإن كانت في الأخيرة هوية استاتيكية بشكل آخر ذي قشرة حداثوية.

اقرأ أيضاً: الإسلام السياسي.. وتمثيلات خطاب الهوية
إنّ تشويه الهوية بقولبتها وتجميدها يجعل السعي من أجل الحرية سعياً قابلاً للاختراق من قوى الاستبداد ومن تيارات الظلام، ولا يمكن ألا يفرز المفرزات المنتنة التي تُزكم رائحتها الأنوف.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية