قصص من "العزل الطوعي".. هؤلاء لم يتجاوزوا فزع كورونا

قصص من "العزل الطوعي".. هؤلاء لم يتجاوزوا فزع كورونا


09/09/2020

عادت مظاهر الحياة إلى طبيعتها بعد 4 شهور من الإجراءات المشددة على وقع انتشار فيروس كورونا، واتفقت الحكومات والشعوب اتفاقاً ضمنياً قوامه التجاهل، بعدما أرهق العزل عجلة الاقتصاد وأثقلت وحدته النفوس، وبات الخلاص معقوداً في سيرورة الحياة، غير أنّ ثمّة من لم تشملهم المعادلة الضمنية، ومازالوا عالقين، ليس في أعراض الفيروس، ولكن في الفزع والقلق منه، على نحو تحوّل إلى اضطراب نفسي في بعض الحالات، تطلب تدخل الطبيب.

الأثر النفسي الثقيل والتجربة الصعبة التي خاضتها ليلى جعلتها غير قادرة على الخروج من "عزلها الطوعي"

تحكي هدير أشرف لـ"حفريات" عن نوبات الفزع التي تنتابها حتى الآن في الزحام، والتي تتجسّد في أعراض جسدية من اضطراب في التنفس وتشنجات، ولأنّ هدير تعمل في مجال المجتمع المدني، ولديها دراية بكيفية التعامل مع تلك الحالة، كانت تستطيع السيطرة عليها، كي لا يتفاقم الوضع، غير أنّ شعور القلق والخوف يتملكها كلّ مرّة في الزحام؛ أي يتملكها كثيراً حين عاد الزحام إلى مصر، مع قرار التعايش مع الفيروس.

 ثمّة من ما زالوا عالقين، ليس في أعراض الفيروس، ولكن في الفزع والقلق منه

لجأت هدير إلى استشاري نفسي عبر الإنترنت، نصحها بالهدوء ومواجهة مظاهر الخوف داخلها، خاصة أنّ تلك الفترة ترفع اضطرابات القلق والعصبية والتوتر، وشيئاً فشيئاً استطاعت هدير أن تتحسّن، وتُحجّم مظاهر القلق والخوف، فتجبر نفسها على الخروج والتعايش مع الالتزام بإجراءات الوقاية من الفيروس.

وما زالت ليلى (اسم مستعار) تعاني من القلق والوساوس الشديدة من الفيروس، غير قادرة على تجاوزه، أو التعامل على نحو طبيعي، رغم أنها عملياً يُفترض أن تكون أكثر اطمئناناً من غيرها، حيث سبق أن أصيبت هي وزوجها بالفيروس وتعافت منه، أي باتت لديها الحصانة لمواجهته.

اقرأ أيضاً: "كورونا" يتسلل إلى صفوف موظفي الأمم المتحدة في سوريا... كم عدد المصابين؟

والأثر النفسي الثقيل والتجربة الصعبة التي خاضتها  ليلى جعلتها غير قادرة على الخروج من "عزلها الطوعي"، تقول لـ"حفريات": ما زلت أشعر بأعراض الفيروس نفسها؛ حرقان في الحلق، ووجع في الجسد، وارتفاع في الحرارة، كلما اختلطت بالناس، وحين سألناها عن تفاصيل تجربة إصابتها رفضت الإجابة قائلة: إنّ الأمر ما زال أصعب من أن ترويه.

 ليلى: ما زلت أشعر بأعراض الفيروس نفسها كلما اختلطت بالناس

والعزل الطوعي هو العزل الذي لجأ إليه البعض دون أمر من طبيب أو إصابة بالفيروس أو حتى أعراضه، بالتزامن مع عودة الحياة إلى طبيعتها، حيث دفعت سيرورة الحياة تلك إلى مزيد من القلق والتوتر لدى هؤلاء، ممّن باتوا يشعرون أنّ الفيروس أصبح أقرب إليهم، فقرّروا أن يعزلوا أنفسهم في منازلهم، كوسيلة للدفاع أمام الحديث عن موجات ثانية من كورونا.

يقول استشاري الطب النفسي جمال فرويز: إنّ أعراض القلق والتوتر التي يشعر بها البعض والالتزام بالعزلة الطوعية، رغم عودة الحياة إلى طبيعتها، ترجع بالأساس إلى الطبيعة الشخصية للفرد؛ أي إنّ الأفراد الذين لديهم ميل إلى التشاؤم وتوقّع الأسوأ والقلق ضمن سماتهم الشخصية، هم أكثر ميلاً للوقوع في تلك الاضطرابات.

اقرأ أيضاً: فيروس كورونا: نتائج مُبشّرة للقاح الروسي وتصريح هام لمنظمة الصحة العالمية

ويصنف البعض تلك الاضطرابات والقلق من التعامل مع البشر، بـ"متلازمة رجل الكهف"، والتي ارتبطت بعمال المناجم، ممّن يميلون إلى العزلة بحكم عيشهم في أجواء منعزلة معظم الوقت، لذلك يعجزون على التعامل على نحو طبيعي مع الآخرين.

غير أنّ الدكتور فرويز يرى، في حديثه لـ"حفريات"، أنّ العزل الطوعي والقلق الزائد من الإصابة بالفيروس هي أعراض عارضة، مرتبطة بالأجواء ذاتها، "فإمّا أن يواجهها الشخص بذاته، وإمّا بزيارة طبيب، لكنها في النهاية لا تخلف أزمات عميقة، ويمكن السيطرة عليها".

العزل الطوعي هو العزل الذي لجأ إليه البعض دون أمر من طبيب أو إصابة بالفيروس أو حتى أعراضه

وتنطبق نظرية فرويز على نهال عبد السلام (29 عاماً) ، وهي أم لطفل عمره 4 سنوات، ظلت حبيسة المنزل طيلة 5 شهور لا تخرج سوى في محيط منزلها لجلب المستلزمات أو زيارة والدتها، زاولت العمل من المنزل، ورفضت أيّ عرض من صديقاتها للخروج، وهي بطبيعتها شخصية قلقة.

تقول نهال لـ"حفريات": وصلت إلى مرحلة الشعور بالخوف من الناس، ليس فقط بسبب الفيروس، ولكن من التعامل معهم بعد تلك الفترة الطويلة من العزلة، إلّا في نطاق عائلتي الضيق، والتواصل هاتفياً مع صديقاتي.

اقرأ أيضاً: هل اقترب خطر موجة كورونا الثانية في الدول الخليجية؟

تتابع: بعد 5 شهور اضطررت أن أذهب إلى العمل لحضور اجتماع، وبعدها قابلت أصدقائي لأوّل مرّة، في البداية كنت قلقة متحسّسة، ولكن بعدما عدت إلى المنزل، شعرت بأنّ الأمر أبسط ممّا كنت أتوقع، وأنّ القلق الزائد والتوتر ربما يكونان أخطر من الفيروس ذاته.

 تعثر في الحديث

ولم يتوقف الأمر عند القلق لدى شيماء يحيى (28 عاماً) التي ظلت ملتزمة بالعزل الطوعي حتى قبل أسابيع قليلة، بعدما لاحظت صعوبة في النطق (تهتهة) تعتري حديثها من كثرة العزلة وعدم فتح نقاشات حية.

تقول شيماء لـ"حفريات": منذ منتصف آذار (مارس) مع تفشي الجائحة، قرّرت العُزلة تجنباً للإصابة، خضت حياة مختلفة تماماً عمّا عهدته بحكم طبيعتي الاجتماعية، بتّ لا أنطق في اليوم سوى كلمات معدودة، فأنا أعيش مع والدتي فقط، ومعظم الوقت مع شاشة الهاتف.

اقرأ أيضاً: قفزة في إصابات كورونا داخل تركيا... وهذا السياسي يعلن إصابته

تتابع: لم أكن أخرج سوى للتسوق في محيط المنزل، وبدأت ألاحظ صعوبة في الحديث (تهتهة) عند طلب الأشياء من الباعة، وبدأت أدرك أنّ ذلك بسبب فترة العزل الطويلة، فقرّرت تجاوز القلق والخوف، والخروج ولقاء صديقاتي مع اتخاذ التدابير الاحترازية، وبالفعل تجاوزت الأمر رغم صعوبة ذلك في البداية، حيث كنت أشعر برهاب من التعامل مع الناس بعد فترة العزل الطويلة.

اكتئاب

وعلى خلاف العزل الطوعي الذي خاضته شيماء وخلف عندها تعثراً في الحديث، كان العزل الذي دخلته أحلام مصطفى (اسم مستعار) وأسرتها أكثر وطأة، حيث خلف عندهم قلقاً واكتئاباً تطلب تناول عقاقير لبعض الوقت.

تقول أحلام لـ"حفريات": طيلة 6 شهور خضعنا لعزل حازم نابع من فزع من الفيروس، لدرجة أنّه طيلة تلك الفترة لم نخرج سوى مرّة واحدة إلى طبيب العيون في زيارة اضطرارية، حتى التسوق كنا نجريه عبر الهاتف، ونعقم المشتريات جيداً قبل إدخالها للمنزل.

شيماء: خضت حياة مختلفة تماماً عمّا عهدته وبت لا أنطق في اليوم سوى كلمات معدودة

تتابع: كانت تنتابنا حالات فزع وهلع، وصعوبة في النوم، استشرنا طبيباً نفسياً، فوصف لنا بعض أدوية الاكتئاب، تناولناها لنحو شهرين، وقد نصحنا بالإيمان بالله، والخروج من العزلة مع أخذ الاحتياطات، لكنّ ذلك لم نستطع أن نفعله ببساطة.

تشير أحلام إلى أنّ زوجها طلب إجازة إضافية بعد عودة العمل إلى المكاتب، وخلالها حاولوا التأقلم، وقطع العزلة، وخرجوا يوماً واحداً لتناول الطعام في الخارج، وعادوا بعدها لمدّة أسبوعين يترقبون زيارة الضيف الثقيل.

لم يتوقف الأمر عند القلق لدى شيماء يحيى بعدما لاحظت صعوبة في النطق تعتري حديثها من كثرة العزلة وعدم فتح نقاشات حية

وقد مثلت ضرورة العودة إلى العمل لزوج أحلام، وهي أم لطفل، طوق النجاة، حيث استطاع بالانتظام في العمل من جديد والتعامل مع زملائه، والخروج، وكسر حاجز الفزع والقلق الذي سيطر على حياته، حتى أنه على حدّ وصف أحلام "بات غير مبالٍ رغم اكتشافهم حالات في نطاق عمله".

فيما تأقلمت أحلام التي ما زالت تعمل من المنزل، مع الإجراءات المشددة، حيث الحفاظ على مسافة مع غيرها، والخروج أحياناً مع استعمال الكمامة، ومنع تناول الطعام من الخارج، وهكذا، غير أنّ ذلك لا يمنعها من الاشتياق إلى الحياة قبل كورونا، والتي عادت إلى الكثيرين بفعل التجاهل، فيما هي ما زالت بعيدة عنها.

اقرأ أيضاً: ما هي العقاقير التي يستخدمها الأطباء لعلاج كورونا؟

وبات واضحاً في مصر أنه لا أحد ما يزال قابعاً في منزله، مختبئاً من الفيروس، فقد عاد الزحام إلى الشوارع، وعادت غالبية الأنشطة كما كانت قبل كورونا، فلم يطرأ تغير حالياً على حياة الغالبية، سوى باستخدام الكمامة في مترو الأنفاق والمحال والمطاعم، كإجراء شكلي بروتوكولي، حيث يسارعون إلى نزعها بمجرّد الدخول.

غير أنّ قصة واحدة من قصص هؤلاء "المعزولين طوعاً"، بفعل خوف مشروع في ظلّ عدم اكتشاف مصلٍ للفيروس حتى الآن، تبرهن على خطأ الاعتقاد الأوّل، والتدقيق يعكس أنّ البعض ما زال خارج نطاق الصورة الجمعية، وربما أكثر ممّا نتوقع، فمثلاً تدوينة عبر فيسبوك بسؤال عمّن ما زال يخشى الخروج وقيد العزل الطوعي، جاءت الإجابات بـ11 مرّة "أنا"، أو الإشارة إلى شخص يعرفونه بالحالة نفسها، في نطاق 2000 صديق فقط.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية