قراءة في كتاب "تجلّي الإله": من منح الاجتهادات الإنسانية قداسة العقائد؟

قراءة في كتاب "تجلّي الإله": من منح الاجتهادات الإنسانية قداسة العقائد؟


26/02/2019

ثمّة مشكلات كبيرة في حياتنا الراهنة ناجمة عن أفكارنا حول التراث التي تبدو ضبابية، عاجزة، حتى الآن، عن حسم إشكالية علاقة الماضي بالحاضر، التي يُؤطّرها "القيد"؛ فإمّا أن نُقيد التّراث بسلاسل من الحاضر، أو يُقيّدنا التّراث بأغلالٍ من الماضي، فما زلنا لا نعرف ما الحدود التي ينبغي أن يقف عندها تأثيرُ السلفِ على حياتنا الراهنة؟ ولا المناطق التي على الخَلَف أن يُحكّموا عقولهم واجتهاداتهم فيها؟ ولا كيف يُمكننا إعادة تموضع الفكر الديني لينسجم مع السياسي والعلمي في توجيه حركة الاجتماع البشري بكلّ مشكلاته وتعقيداته؟

أصبح المذهب الديني السائد هو ما تعترف به السلطة السياسية فتغيّرت معها مواضع ترسيم المذاهب في الحياة العامة

في محاولةٍ للإجابة عن تلك الأسئلة وغيرها، سعى الدكتور أحمد سالم، أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة طنطا، إلى الخروج بالبحث الفلسفي في مجالات الفكر الإسلامي من الإطار النظري منبتّ الصلة بالواقع، إلى الالتحام بمشكلات الواقع الاجتماعي والسياسي، وذلك في كتابه الأخير: "تجلّي الإله.. جدلية الإلهي والإنساني في الثقافة الإسلامية".

يُمكن إجمال أهمّ الأفكار التي عالجتها الدراسة في ثلاثة محاور، أولها: تجليات الإله في مُدونات علم الكلام، والأديان الإبراهيمية، والمذاهب الإسلامية، فأوضح كيف تشكّل الجدل اللاهوتي بين اليهودية والمسيحية والإسلام، وكيف أدّى اعتقاد أتباع كلّ دينٍ أن تصورهم عن الإله هو التصور الحق وما عداه على باطلٍ إلى محاولات كلٍّ منها نفي الآخر، كما تتبّع الباحث الجدل الدائر حول الإله إثباتاً ونفياً في ذاكرة الثقافة الإسلامية، وما اعتراه من تطوّر حجج المؤمن والمُلحد في صراعهم الممتد عبر التاريخ، كاشفاً عن الثنوية التي حملتها شعوب فارس إلى الفكر الإسلامي بتحوّلها إلى الإسلام.

اقرأ أيضاً: محمد إقبال وحلم المعتزلة المتأخر أحد عشر قرناً

وانتهى في هذا المحور إلى أنّنا لم نتعرف بعدُ على المذاهب الإسلامية؛ لأنّنا لا نعتمد في دراستنا لها على مصادرها الأصلية، إذا إنّنا ندرس أفكار أهل التوحيد والعدل (المعتزلة)، والجهمية والشّراة وغيرهم من الفرق والمذاهب من خلال مدوناتٍ كتبها خصومُهم من أهل الحديث (أهل السنة)، فننظر إلى المذاهب من منظور ما كتبَه الأسلاف في لحظة خصومةٍ تاريخية.

معظم قناعاتنا حول المذاهب جاءت من منظور ما كتبَه الأسلاف في لحظة خصومة تاريخية

وأكد الباحث على أنّ النزاع السياسي وليس العقائدي هو ما أوجد تلك الخصومة المذهبية، فخلافهم حول صفات الألوهية كان محدوداً مقبولاً، لكن الخلاف السياسي حول الإمامة (الخلافة) جعل كلّ فرقة تدّعى أنّها الناطقة حصرياً باسم الحقّ؛ كي تمنح موقفها السياسي قوةً بادعاء أنّ الله تعالى يقف إلى جانبها بوصفها الفرقة الناجية في مواجهة غيرها من الفرق الهالكة.

فقضية "خلق القرآن" ظلّت مجرد قضية لاهوتية معرفية خِلافية بلا تكفير متبادل بين الفرق الإسلامية فترةَ التزامِ تلك الفرق بالصمت عن معارضة الحكم الأموي، لكن عندما تدخّلوا في سياسة دولة بني أميّة، واتّهموها بالظلم، وخرجوا على سلطتها، اُستدعيت معاني التكفير وتُهم الزندقة والقتل، فالسلطة السياسية وإن كانت تقتل لأسباب سياسية إلا أنّها تذرعت بذرائع دينية.

اقرأ أيضاً: هل تسهم الأشعرية بتفكيك خطاب التطرف والكراهية؟

فقد خطب خالد بن عبد الله القسري يوم عيد الأضحى، وقال: "أيها الناس ضحّوا تقبّل الله ضحاياكم، فإني مُضَحٍ بالجعد بن درهم، فإنّه زعم أنّ الله لم يتخذْ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عمّا يقولون علواً كبيراً، ثم نزل فذبحه".

اقرأ أيضاً: المعتزلة قادوا ثورة العقل لتعرية ظلم السياسة ومفاسدها

وأصبح المذهب الديني السائد هو ما تعترف به السلطة السياسية؛ وإذا ما تغيّرت أحوال السياسة تغيّرت مواضع ترسيم المذاهب والفرق في الحياة العامة، فعندما اعتلى مذهب المعتزلة السلطة في العهد العباسي حاولوا ترسيم مذهب خلق القرآن بقوة السلطة السياسية حتى جنوا على أنفسهم، وعلى تراثهم العقائدي؛ فالسلطة السياسية التي رسمت مذهب المعتزلة في خلق القرآن هي السلطة نفسها التي أقْصَت المعتزلة بعد ذلك عن المجال العام السياسي والاجتماعي، ورسمت مذهباً آخر في العقيدة، والسلطة التي اعترفتْ بأنّ كلام الله محدث في فترة (٢١٨ -٢٣٢هـ).

عندما اعتلى مذهب المعتزلة السلطة في العهد العباسي حاولوا ترسيم مذهب خلق القرآن بقوة السلطة السياسية

وفي هذا الشأن يقول الكتاب: "وقد تجلى الموقف السلبيّ من المعتزلة سنة ٤٠٨ هـ حين أصدر الخليفة القادر بالله كتاباً ضد المعتزلة يأمرهم فيها بترك الكلام، والمناظرة في الاعتزال والمقالات المخالفة للإسلام، وأنذرهم إن خالفوا أمره بحلول النّكال والعقاب، وانتهج السلطان محمود في غزنة نهج أمير المؤمنين القادر، واستنّ بسنّته في قتل المخالفين، ونفيهم وحبسهم، وأمر بلعنهم على المنابر، وصدر في بغداد كتاب سُمّي "الاعتقاد القادري" في ٤٣٣هـ ، وقُرئ في الدواوين، وذُكر أن هذا اعتقاد المسلمين، وأن من خالفه فسق وكفر".

ويعلق سالم على ذلك بقوله: "كل هذا يؤدي بنا للقول إنّ الخلاف بين هذه المذاهب حول شروط السلطان، هو الذي أججّ الخلاف بينهم حول صورة الإله، وذلك رغم أنّ عقيدة هذه الفرق جميعاً هو التوحيد وشهادة أنّ لا إله إلى الله، وأن محمداً رسول الله".

اقرأ أيضاً: "الإخوان" وأحلام حكم العالم باسم "الخلافة"

وفي المحور الثاني انتقل الباحث إلى مناقشة تجلّي الإله من خلال التشريع والفتوى في وعاء الاجتماع، فكشف كيف اتّسعت دائرة الفقه وإنتاج الأحكام للسيطرة على المجال العام، وبلغ من توسعها أنّها لم تقف عند ما هو كائن، بل امتدّت إلى ما يمكن أن يُتخيّل أن يكون، وأحياناً إلى ما يستحيل أن يتحقق، وفي مخادعة فكرية ما نزال نتجرّع مرارة كأسها، قُدّم الفقه بوصفه صوت الله وليس صوت المجتهد في فهم مراد الله، وقُيّدت مدارات العقل المسلم، وانتصرت الثقافة الإسلامية لأقوال الفقهاء على حساب مقاصد الشريعة، وأغفلت الواقع المتغيّر.

اقرأ أيضاً: هل جنى التصوف على حضارة الإسلام؟

وتوقّف الكتاب عند التشريعات الفقهية التي حددت طبيعة علاقة المسلم مع الآخر المغاير في الدين تلك التشريعات التي رغم ارتباطها بسياق تاريخي خاص إلا أنّه يتمّ استدعاؤها إلى واقعنا الراهن، فاستدلّ الباحث بالعديد من الشواهد على أنّ فقه أهل الذمة ما يزال فاعلاً إلى الآن في حياتنا، ليس مع المغاير عقائدياً فحسب، بل والمغاير مذهبياً.

التصوف يرى معركة الإنسان الأولى تبدأ من داخل نفسه مع نوازعها وشهواتها بغية تطهير النفس الإنسانية

في الوقت نفسه لم يُغفل الباحث انتصارات الحداثة وتطور حركة الاجتماع البشري على جمود الفقه والفقهاء في قضايا إلغاء الرق، وأحكام أهل الذمة، وتطوّر تشريعات المرأة، وتشريعات الاقتصاد، وأوضح كيف أنّ جمود الفقه الإسلامي هو ما جعل الحداثة تفرضُ قوانينها الوضعية من خلال جيل من المصلحين حاولوا أن يُقدّموا اجتهادات جديدة تجعل التشريع مسايراً لتطور حركة الاجتماع البشرى.

وفي المحور الثالث والأخير "تجلّي الإله في التصوف الإسلامي"، خلص الباحث إلى أنّ التصوّف هو السبيل لتجلي الإله في قلب الإنسان محبة وليس خوفاً، واختياراً وليس إجباراً ورجاء وليس خوفاً.

اقرأ أيضاً: لماذا يكره السلفيون التصوف؟

فالتصوف، على خلاف الفقه، يرى معركة الإنسان الأولى تبدأ من داخل نفسه مع نوازعها وشهواتها؛ بغية تطهير النفس الإنسانية؛ لتكون مرآة لتجليات الله عليها.

ويشير سالم كيف تطوّرت علاقة الإنسان بالله تعالى في التصوف لتحلّ المحبة محلّ الخوف، إذ اتخذ كبار المتصوفة من الشّعر أداةً للتعبير عن تجاربهم الوجدانية مع محبة الله وعلاقاتهم به، فتكوّنت قناعة صوفية بنسبية المعرفة الإنسانية في إدراكها لله تعالى، لتصبح الأديان مجرد طرائق للوصول إليه، وهذا ما يرى الباحث أنّه يُمكننا البناء عليه في الانفتاح على الآخر، وتقديم نظرة متسامحة للمغاير في الدين والثقافة.

اقرأ أيضاً: هل يصلح التصوف ما أفسده الفقهاء؟

أخيراً إنّ تركيز الكتاب على تنوّع تجلّي الإله في الثقافة العربية، يُخرجنا من حالة المساجلة والمغالبة والإقصاء المستمر مع خطابات أخرى حاضرة فينا، وإن زعمنا غيابها أو تغييبها بما يستنزف طاقاتنا، ويضعف من محاولة التعايش بيننا، فالحالة الإقصائية تُؤسس لخطاب التطرف القائم على نبذ الحوار وتبنِّى العنف، وجَعْل الأفكارِ الإنسانية لها قداسة العقائد.

عمليات التفجير المتكررة في عالمنا ليست مواد متفجرة سريعة الاشتعال، بل أفكار تحوّلت إلى دين مقدس في عقول بعض الشباب، فقرر الموت من أجلها، ولا سبيل لمواجهة تلك الحالة إلا بمثل هذه الدراسات القادرة على الدخول إلى المناطق المسكوت عنها في تراثنا؛ للكشف عن تعددية تُثمِّن الثابت المشترك، وتتجاوز عن المختلف بشأنه، تعدديّة نوعية تُثري الفكر، ويتسع بها خيارات الفعل والترك.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية