
حَظِيت زيارةُ رئيس البرلمان، والقائد الأسبق للحرس الثوري الإيراني؛ محمد باقر قاليباف إلى بيروت باهتمام أكبر بكثير من الاهتمام الي حظيت به زيارة وزير الخارجية عباس عراقجي. فقد بات يُنظر إلى عراقجي في طهران باعتباره وزيرًا دون حقيبة وزارية؛ إذْ تبدو وزارة الخارجية الإيرانية اليوم أبعد ما تكون عن عملية صناعة القرار في العلاقات الدولية للنظام الإيراني. ويعودُ ذلك إلى تفاقُم المخاطر الإقليمية نتيجة التصعيد الإسرائيلي - الإيراني، ودُخول النظام الإيراني عمليًّا في "حالة الحرب" بعد الضربة الصاروخية الإيرانية الأخيرة على إسرائيل. وهو ما يجعل هذا النوع من القرارات حِكرًا على الدولة العميقة، والنظام السياسي بشقَّيْه: مؤسسة "بيت القائد"، ومؤسسة "الحرس الثوري".
وفي الواقع، يتمتّع قاليباف بشخصية سياسية ذات كاريزما خاصة، وحضور مؤثر في إيران. كما أنّ لقاليباف وزنًا سياسيًا يفوق بكثير ذلك الوزن الذي يتمتّع به عراقجي؛ فبينما يُعدُّ قاليباف أحد أقطاب النظام السياسي ورموزه الأساسيين، يُعتبر عراقجي من وجوه التكنوقراط الموالي للنظام، والمؤتمر بأمره. وهؤلاء التكنوقراط عادةً ما يكونون من المتخصصين غير المنتمين لاتجاهات سياسية بارزة، أو ولاءات ثانوية واضحة، ويتّصفون بالطّاعة الكاملة، والانضباط والتّماهي مع وجهة النظر الرسميّة، مقابل تغييب وجهة النظر الشخصية تمامًا فيما يتعلق بالأحداث والتحوُّلات.
ومع ذلك، هذا ليس السّبب الوحيد لنجاح زيارة قاليباف، وفتور زيارة عراقجي؛ فقاليباف الذي يقود اليوم المؤسسة التشريعية، يُمثّل النظام السياسي الإيراني بأكمله؛ فهو علاوة على مكانته في رأس السلطة التشريعيّة، يُعدُّ من الشخصيات المقرّبة من القائد الأعلى علي خامنئي، كما أنه أحد القادة التاريخيين البارزين والمؤسسين للحرس الثوري الإيراني. ويُظْهِرُ كلُّ هذا أنّ قاليباف، شكليًا على الأقل، يعكس إرادة القائد الأعلى، والدولة العميقة، والشعب الإيراني. وفي المقابل، يمثّل عراقجي الحكومة، التي تفتقرُ إلى التأثير والصلاحيّة فيما يتعلّق بالسياسات الإقليمية الإيرانية، خصوصًا في الأوضاع الراهنة.
هذا الوضع يُشير إلى حالة الازدواجية المُتنامية التي عادت للظهور في المشهد السياسي الإيراني منذ رحيل حكومة المحافظين بقيادة إبراهيم رئيسي، الذي قضى في حادثة تحطم الطائرة التي كانت تُقلِّهُ في مايو الماضي. ووحّدت حكومة رئيسي الخطاب الإيراني إلى حدٍّ كبير، عبر تبنّي الحكومة للخطاب الثوري، ونتيجةً لقرب الحكومة من "الحرس الثوري"، ومكتب القائد الأعلى، علي خامنئي. وانتهى هذا المسار من التماهي بين الدولة العميقة والحكومة مع مجيء حكومة مسعود بزشكيان، التي أعادت إلى المشهد شخصيات بارزة في التيار الإصلاحي، مثل وزير الخارجية الأسبق محمد جواد ظريف؛ ما أدّى إلى اتّساع الفجوة بين خطاب الحكومة، وخطاب الدولة العميقة.
وليس من المستغرب، في هذا السياق، أنْ يقفَ الإعلام الإيراني بكلّ ثقلِه خلف زيارة قاليباف. فقد تمّ تصويره كبطلٍ يقتحمُ منطقة الخطر، ويقودُ طائرته بنفسه، مُستعرضًا مهاراته كجنرال سابق، وطيّار مُرخَّص. وقد التقى قاليباف أثناء الزيارة عناصر من "حزب الله" اللبناني علنًا، مُتجاهلًا التهديدات الإسرائيلية، كما زار أخطر مواقع القصف في الضاحية الجنوبية لبيروت، مُدليًا بتصريحات قويّة من فوق الرّكام.
وعلى العكس من الاستقبال البارد الذي حظي به عباس عراقجي في بيروت، وما تسّرب من الكلمات القاسية (وقيل أيضًا النابية) التي سمعها من المسؤولين اللبنانيين، بدت لقاءات قاليباف أكثر وُدّية، وشمولية؛ ممّا عكس شعورًا عامًا بالارتياح في الأوساط الإيرانية إزاء استمرار دفء العلاقة مع الحكومة والمقاومة في لبنان، بالرغم من حالة السخط الطاغية في المجتمع اللبناني حيال إيران، ودورها في كل ما يحصل للبنان من تدمير على يد الآلة العسكرية الإسرائيلية.
ولا أعرفُ ما الذي حمله قاليباف في جعبته إلى بيروت ليحظى بهذا الدفء والارتياح في لقاءاته الرسمية وغير الرسمية، لكن ربما يعودُ ذلك جزئيًّا إلى وعي اللبنانيين بمكانة الرجل في النظام الإيراني، أو ربما خشيتهم من إغضاب عناصر "حزب الله"، الذين يرون فيه شخصية خاصة؛ فهو الصديق المُقرّب لقاسم سليماني، وحسن نصر الله، وأحد رموز "الحرس الثوري" التاريخيين. ويبدو لي أنّ الدولة اللبنانية لا تزال للأسف، واقعةً تحت هيمنة "محور المقاومة". وهي إن لم تخرج من تحت عباءتهم الآن، فلا أعرف متى ستفعل ذلك.
وممّا أثار دهشتي وارتيابي أكثر، ذلك الصّمت الإسرائيلي الذي رافق الزيارة، والانضباط العسكري غير المعهود خلالها. إذ لم تُستهدف طائرة قاليباف، أو تُنْذَرُ بمغادرة الأجواء اللبنانية، رغم استعراضه في الوصول إلى بيروت، كما لم تُقصَف المواقع التي زارها، على الرغم من تواجُد عناصر "حزب الله" العلني من حوله في مختلف المواقع التي طاف عليها. صحيحٌ أنّ مثل هذا الانضباط الإسرائيلي شوهد أيضًا خلال زيارة عراقجي، إلّا أنّ عراقجي التزم بدوره بانضباطٍ مُقابلٍ، ولم يحاول اختبار الصّبر الإسرائيلي، بينما بالغَ قاليباف في هذا المسار الخَطِر من التحدّي العلني للإسرائيليين.
وربّما سيتعيّن علينا أنْ ننتظر طويلًا لمعرفة أسباب، ودوافع هذا "السلوك المنضبط"، و"غير المعهود" من قبل إسرائيل. وعلى الرغم من أنّ القوانين والأعراف الدبلوماسية، والدوليّة تقتضي مثل هذا الانضباط خلال الزيارات الدبلوماسيّة حتى في حالات الحرب، إلّا أنّ سلوك إسرائيل طوال العام الماضي كان مختلفًا تمامًا، وبما وضع إسرائيل خارج تلك السياقات القانونية، والاعتبارات الدبلوماسية، وبالتالي يحق لنا التساؤل: لماذا سمحت إسرائيل بتمرير حفلة الاستعراض الإيرانية التي قادها قاليباف؟ وهل سمحت بذلك من نفسها أم اضطرت إليه؟