حركتا "فتح" و"حماس" تتجولان في موسكو؛ أعني أنّهما في جولة حوارات هناك، وقد مرت أعوام طويلة وهما على الطريق السريع للحوار والتفاوض، وما يزال بينهما ما صنع الحداد من اختلاف في الرؤية والنهج والأفكار وطريقة التفكير، حتى ذهب الطرفان بخلافاتهما كلّ مذهب، ولم تستطع سبعون عاماً من النكبة والظلم والدم والاحتلال، أن تجمع الكلمة أو توحد الصف، وأن تجعلهما تلتقيان على فهم مشترك ورؤية واحدة، لكن المسافة من موسكو إلى فلسطين طويلة جداً، والمسافات الطويلة حتماً ستخلق تشويشاً واضحاً في الرؤية.
لم تستطع سبعون عاماً من النكبة والظلم والدم والاحتلال أن تجمع كلمة حركتي فتح وحماس أو توحد صفهما
"فتح" و"حماس"؛ ليستا مجرد فصيلين، وهما يذهبان دوماً إلى أيّ حوار بهذا الاعتبار الجارف، إنهما دولتان، أو شبه دولتين، بشبه شعبين مختلفين كلّ منهما له قضيته وحربه ومواجهاته، في رأس حماس أفكار سوداء عن فتح، وفي رأس الأخيرة أفكار لا تقل قتامة عن الأخرى، ولو لم يكن هذا صحيحاً وحقيقياً لما امتد الانقسام الذي وصل حد الصراع لأعوام طويلة.
لم يبدأ الانقسام كما يتم التأريخ له بنشوء سلطتين سياسيتين وتنفيذيتين، في صيف عام 2007، في الضفة الغربية وقطاع غزة، إحداهما تحت سيطرة حركة فتح في الضفة الغربية والأخرى تحت سيطرة حركة حماس في قطاع غزة، بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية في مطلع عام 2006، وليس أيضاً من تاريخ أوسلو 1993، إنها أبعد من هذا التاريخ، منذ أن نشأت الحركتان تماماً، لكن الذروة في الانقسام خلقها أوسلو وخلقتها سلطتا 2007 في الضفة والقطاع.
اقرأ أيضاً: حماس تقيد الصحفيين.. ما هو قرارها الجديد؟!
المقلق في حوارات الحركتين؛ أنه دائماً ما يكون هنالك قبول من طرف ورفض من طرف آخر، وشروط من طرف وتحفظات من الآخر، وهكذا يبقى جدل الشروط واللاشروط قائماً وحاسماً في دفع الانقسام إلى الأمام.
في موسكو اليوم؛ تلتقي إلى جانب الطرفين الزعيمين، عشرة فصائل أخرى، لبحث الأوضاع الداخلية، لكن التصريحات تشير إلى أنّ ملف المصالحة ما يزال مغلقاً، وأنّ ما تمّ هو نقاش عام للتحديات، منها التهويد والاستيطان، واللافت عبر مسارات الحوارات البينية أنّ الاستيطان والمصالحة أكبر عقدتين في حبل الوصل بين الطرفين من جهة، وبينهما وبين إسرائيل من جهة أخرى، فالمصالحة عورة الحوارات البينية، والمستوطنات عورة المفاوضات.
اقرأ أيضاً: لماذا رفضت حماس أموال قطر؟
هكذا يمكن فهم هذه الحالة المربكة التي وصلت إليها العملية السلمية، حتى أنّ الإسرائيليين أنفسهم يدركون هذا الأمر، وفي الوعي السياسي الإسرائيلي تجري كثير من النقاشات والحوارات العاصفة حول هذا الشأن، وللمثال التاريخي؛ نذكر ما جرى من نقاش واسع داخل إسرائيل، وعرضته صحيفة "هآرتس"، بنسختها الإنجليزية في 10 نيسان (أبريل) 2001؛ حيث كتبت الصحيفة: (إنّ حكومةً إسرائيلية تقول إنّ هدفها هو التوصل إلى حلّ للنزاع مع الفلسطينيين بالوسائل السلمية، وإنها تحاول حالياً وضع حدّ للعنف والإرهاب، عليها أن تعلن نهاية البناء في المستوطنات).
أيضاً -كمثال من تاريخ المفاوضات- وزير الخارجية الأمريكي، جايمس بيكر، في 22 أيار (مايو) 1991، قال في الكونغرس: "كلّ مرة أذهب فيها إلى إسرائيل للبحث في عملية السلام يواجهني الإعلان عن بناء مستوطنات جديدة، ولا أعتقد أن هناك عقبة أكبر من الأنشطة الاستيطانية والتي لا تفتر، بل تستمر في وتيرة حثيثة".
اليوم موسكو وغداً سيكمل الطرفان جولات عواصم الدنيا بحثاً عن اتفاق مفقود يكرس حالة اللاسلم واللاحرب
إنّ عملية السلام المتعثرة دائماً مرهونة باستمرار بأعمال الاستيطان، لأنّه من جانب فلسطيني يشكل تهديداً خطيراً لفكرة الدولة الفلسطينية لاعتبارات جغرافية، ومن جانب إسرائيلي يشكل تهديداً خطيراً أيضاً لكيان الاحتلال من جهتين (جغرافية وديمغرافية)، وهذا ما يجعل إسرائيل تتمسك بقوة بفكرها الاستيطاني الذي شكل على مدار تاريخ الاحتلال قوة حقيقية دافعة لفكرة قوميتها اليهودية، وللدقة؛ فإنّ كلّ الأحاديث والنقاشات لم تقل بوقف الاستيطان، وإنما كان الحديث دائماً عن تجميده وحسب، وبهذه اللغة تكون عملية السلام دائماً مفخخة، ويؤشر بوضوح إلى أنّ جملة "السلام العادل والشامل والدائم" ليست بالمصداقية التي نتوقعها؛ لأنّ تجميد الاستيطان اليوم وإطلاقة غداً أو بعد غد لا يعني شيئاً.
اقرأ أيضاً: إغلاق مؤسسات حماس الإعلامية: أزمة مالية أم انعكاس لأزمات إقليمية؟
أما عملية بناء دولة فلسطينية فهي مرهونة أولاً بالمصالحة، قبل أي شيء آخر، لا يمكن لمتخاصمين أن ينجحا في تحقيق هدف مشترك، واختلافهما المتنامي والمستمر، يجعل دوماً الظروف مواتية للفشل.
كانت حوارات الطرفين متعددة، ويتم عزفها على أوتار متنوعة عربياً ودولياً، ولنا أن نقرأ أوراق اتفاق مكة، في شباط (فبراير) 2007، أو أوراق حوارات مصر، في أيلول (سبتمبر) 2009، وأوراق حوار دمشق في تشرين الثاني (نوفمبر) 2010، وليس انتهاءً بأوراق حوار القاهرة، الذي أنتج اتفاق مصالحة في 2017.
اليوم موسكو، وغداً سيكمل الطرفان جولات عواصم الدنيا، بحثاً عن اتفاق مفقود، يكرس حالة اللاسلم واللاحرب بين فلسطين والاحتلال، وهي حالة تخدم الكيان الصهيوني أكثر من الارتهان لشروط السلام والتقيد بلوازمه وأحكامه.