ضجروا من رجال الدين... هل يبحث الإيرانيون عن نظام علماني؟

ضجروا من رجال الدين... هل يبحث الإيرانيون عن نظام علماني؟


11/04/2022

يوسف بدر

 لم يكن رجال الدين يتربعون على عرش السلطة في إيران اليوم، لولا العلمانية الأصولية التي ظهرت خلال حكم الدولة البهلوية التي أسقطتها ثورة 1979. إذ إن التاريخ الإيراني يقوم على علاقة جدلية في حركته؛ أي التضاد مع الواقع المادي والفكري المحيط به. وبناءً على ذلك، فقد دعم رجال الدين، بعد سقوط الدولة المَلكية القاجارية عام 1925، أن يستمر النظام الملكي في إيران؛ خشية من تبعات نموذج نظام الجمهورية الذي نشأ في تركيا عام 1922. وهو ما استغله رضا شاه بهلوي في كسب تأييد رجال الدين، لتتويجه ملكاً على البلاد. ثم وعلى أخطاء العلمانية الأصولية، صعد "الملالي" إلى السلطة.

الهامش والمركز

غالباً ما تكون هناك علاقة تضاد بين الهامش والمركز، فالمعارضة السياسية والاجتماعية غالباً ما تكون في علاقة عكسية مع السياسة والأيديولوجيا التي تحملها السلطة الحاكمة. وعلمياً، فقد طبّق رضا شاه سياسة علمانية أصولية رسمياً، أراد منها تغيير وجه إيران الاجتماعي والثقافي، فقام بحظر الزي التقليدي للرجال والنساء، وقيّد حركة رجال الدين وقضى على هيمنتهم داخل المجتمع. 

وفي مواجهة هذه السياسة، اتخذ المهمشون سياسة أصولية ومتطرفة ضد السلطة الحاكمة؛ فتم اغتيال عدد من الشخصيات التي تروّج للعلمانية، مثل المفكر الإيراني أحمد كسروي. وتأسست منظمة "فدائيو الإسلام" على يدي نواب صفوي، ودعت إلى العمل بالشريعة الإسلامية ومناوأة نظام الشاه. 

لقد كانت العلمانية فرصة لرجال الدين لكي يجدوا مَن يسمعهم من المهمشين في المجتمع الإيراني؛ إذ كانوا يقدمون خطاباً جديداً قادراً على اجتذاب الجماهير نحوهم، تحت شعار الإسلام هو الحل. فبينما كان الملوك البهلويون (رضا ومحمد شاه) يحاربون نفوذ الإسلاميين ويعتبرونهم أداةً في يد بريطانيا، كان الإسلاميون يقودون الشارع الذي يعاني الفقر وغياب العدالة الاجتماعية، لتشكيل جبهة مضادة للحكومة المركزية.

انقلاب الوضع

بعد إطاحة الحكم البهلوي عام 1979، جاءت حكومة المهندس مهدي بازركان الذي طمح بخلفيته الوطنية وأفكاره التلفيقية بين الإسلام والليبرالية إلى إقامة حكومة إسلامية وطنية ديموقراطية. لكن هذا الأمر لم يعجب زعيم الثورة آية الله الخميني، الذي طمح إلى تأسيس الجمهورية الإسلامية على نظام ولاية الفقيه، فاستقالت حكومة بازركان، التي يمكن اعتبارها آخر وجه رسمي للعلمانية في إيران، وبعدها تمت تصفية السياسيين والمفكرين العلمانيين أو دفعهم للخروج من إيران.

ودائماً ما يحافظ نظام ولاية الفقيه على عدم الخروج من شرنقة الثورة إلى فضاء الدولة. والسبب هو الخشية من الدولة العلمانية؛ فطوال الوقت نسمع المسؤولين ورجال الدين هناك، يرددون اسم الثورة وتعاليم مرشد الثورة في كلامهم.  

لكن الوضع تغير الآن، فالإسلاميون في السلطة، ورجال الدين لديهم نفوذ في كل مكان؛ ما جعلهم عرضة للنقد بعدما تكدست ثرواتهم، وانتشر التمييز والفقر والفساد السياسي في ظل حكمهم. وهو ما جعلهم يفقدون المصداقية والثقة داخل المجتمع. 

والآن، بات جانب كبير من الإيرانيين يشير إلى أن المشكلة تكمن في نظام ولاية الفقيه، الذي وضع بلدهم تحت هيمنة رجال الدين، في ما يشبه النظام الثيوقراطي. 

وأصبح المعارضون لهذا النظام يطلقون عليه النّكت والطرائف السياسية والدينية اللاذعة، ويتبادلون على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع الفيديو التي تظهر فساد رجال الدين، ويضعون "هشتاغ" من قبيل "ما لم يُضع الملا في الكفن، فليس هناك وطن"، "الموت لنظام ولاية الفقيه"، للتعبير عن فساد هذا النظام. 

العنف المتبادل

إذا نظرنا إلى الحادثة الأخيرة، التي تعرض فيها ثلاثة من رجال الدين لهجوم بالسلاح الأبيض في الحرم الرضوي في مشهد، والتي لا تقف وراءها دوافع دينية أو مذهبية للمهاجم، بل دوافع اجتماعية، نجد أن الحكومة الإيرانية أولت اهتماماً بهذه الحادثة وحاولت تجنيد الإعلام لإظهارها على أنها حادثة متعلقة بأمور شخصية أو مذهبية؛ للتغطية على شيء أكبر، وهو الغضب الاجتماعي من رجال الدين، إذ يعلم النظام أن اعترافه بغضب الشارع يعني اعترافه بعدم رضا المجتمع عن النظام الإسلامي الحاكم. 

أيضاً، وعلى مدار سنوات، تكررت حوادث العنف اللفظي والمادي تجاه رجال الدين واستباحة دمائهم وحرماتهم. وعلى سبيل المثال، تمتلئ الأخبار بأعمال العنف التي يتعرض لها رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تعاملهم مع المواطنين. 

لكن النظام هذه المرة، وفي ظل الأوضاع المعيشية الصعبة التي يمر بها المجتمع، يُخشى كثيراً من تجاوز الاحتجاج والاعتراض على رجال الدين إلى أشكال أخرى قد تصل إلى مهاجمة النظام ومؤسساته.

نموذج للسّطوة

في مدينة مشهد، بطبيعتها المتعددة بين الرفاهية والقيود الدينية، نجد رجل الدين المتشدد علم الهدى، الذي هو إمام جمعة مشهد وممثل الولي الفقيه في محافظة خراسان رضوي، يمارس سطوته في هذه المدينة لدرجة تتجاوز قوانين الدولة.

ونجد هناك انقساماً داخل المجتمع، بين مَن يدافع عنه إلى درجة الفداء والاعتقاد في شخصه، ومن يعتبره رجل دين مستبداً يحرك أنصاره ورجاله من جماعة "حزب الله" لفرض سطوته على المدينة، ويحتمي بالنظام بتقربه من المرشد الأعلى، علي خامنئي، الذي يصفه بالحفيد الحي لنبي الإسلام، وبمصاهرته مع الرئيس إبراهيم رئيسي. 

ونموذجاً لسطوة هذا الرجل، هو يتصدى لإقامة الحفلات الموسيقية داخل المدينة، أو يحرّض ضد النساء، مثلما تم منعهن من حضور مباراة إيران ولبنان في تصفيات كأس العالم في مدينة مشهد، بإلقاء رذاذ الفلفل الحار عليهن.

ولم يكن علم الهدى مجرد رجل دين صاحب فتاوى مثيرة للرأي العام؛ بل لديه أفكار وقدرة على التنفيذ، بخاصة أن لديه قدرة كبيرة على التأثير في الجماهير، فقد عارض تعطيل صلاة الجمعة بسبب وباء "كورونا"، وتركز خطبه الدينية على حجاب المرأة والفصل بين الجنسين وتحريم الموسيقى ومحاربة المظاهر الغربية، ومنها تعلم الإنكليزية.

وهكذا، تجعل سطوة رجل دين الإيرانيين، لا سيما من الأجيال الجديدة، يختزلون الحل في الخلاص من النظام الديني الحاكم، والحل لا يكون إلا في البحث عن نظام معارض لنظام ولاية الفقيه، ما يعطي الفرصة لعودة نظام علماني إلى حكم إيران، إذ يشير تقرير مجموعة تحليل الاتجاهات في إيران وقياسها لعام 2022، إلى أن التحولات الفكرية بين الأجيال الجديدة في إيران تذهب نحو العلمانية رفضاً لكل الاتجاهات المفروضة.

المحصّلة

إن رجال الدين صعدوا إلى السلطة في إيران على أخطاء العلمانية الأصولية التي اتبعتها الحكومة البهلوية قبل الثورة.

باتت هناك أصوات من داخل المجتمع الإيراني تنادي بالخلاص من سلطة رجل الدين، ما يمهّد لعودة العلمانية من جديد كحل بديل للنظام القائم.

إن السطوة والاستبداد اللذين يمارسهما بعض رجال الدين أصحاب الزعامة في المدن الإيرانية، يعززان من فرص العنف المتبادل داخل المجتمع الإيراني، بما يهدد استقرار النظام الحاكم، مثلما حدث في عهد الشاه؛ إذ كان العنف المتبادل بين جهاز "السافاك" والمعارضة سبباً لشحن نفوس الشعب ضد النظام البهلوي الحاكم وإسقاطه.

عن "النهار العربي"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية