
طوني فرنسيس
عشيَّة تشييع قائدَي "حزب الله" حسن نصرالله وهاشم صفي الدين في بيروت سارعت القيادة الإيرانية إلى دعوة الإيرانيين إلى المشاركة الكثيفة اليوم الأحد في جميع مدن بلاد فارس وفي توقيت متزامن في مراسم وداع الشخصيتين اللتين اغتالتهما إسرائيل في الحرب التي دارت بينها وبين الحزب خريف العام الماضي.
أبدت إيران اهتماماً يفوق الوصف بتكريم الراحلين، خصوصاً نصرالله، وأرسلت إلى بيروت وفداً رفيعاً لوداع جثمانه برئاسة رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف ضم وزير الخارجية وعشرات ممن تولوا قيادة الحضور الإيراني في لبنان والمنطقة، وفي المناسبة ارتأى مستشار قائد الحرس الثوري الذي يتولى قيادة الفصائل التابعة لطهران في الإقليم العميد إبراهيم جباري تكرار التهديد بـ"تدمير إسرائيل وحرث تل أبيب وحيفا"، مستعيداً دور قاسم سليماني وحسن نصرالله في "تربية قادة شجعان وأقوياء، جميعهم مناهضون للاستعمار"، ومؤكداً أن "إيران الإسلامية هي الفائزة والمنتصرة في ثلاثة عقود من النضال ضد أميركا".
احتاجت إيران خامنئي جنازة نصرالله لتعيد تلميع صورتها المقاومة في الداخل قبل الخارج. فهي اتهمت في أوساط مناصري الراحل بأنها تخلت عنه وعن حزبه، وقيل في أحاديث أخرى إنها "باعتهما"، إما خوفاً من إسرائيل وأميركا، وإما تواطؤاً، وذهب آخرون إلى القول إنه لو نفذت إيران تهديدها بعد اغتيال إسماعيل هنية بضرب إسرائيل لربما كان نصرالله وصفي الدين لا يزالان حيَّين، لكن الرد لم يحصل و"الوعد الصادق 3" لا يزال ينتظر الزمان والمكان المناسبين في إشارة إلى تضعضع الموقف الإيراني الذي يعلي الصوت دفاعاً عن غزة و"حزب الله"، ثم ينكفئ فعلياً عن موجبات المواجهة.
تحتاج إيران إلى الجنازة أيضاً للتعويض عن هزيمة مشروعها الاستراتيجي الذي صاغته تحت شعار دحر إسرائيل وتحرير القدس وأسست في سبيله تنظيمات ومواقع. فدعمها لحرب "حماس" و"الجهاد" في غزة أسفر عن تدمير القطاع ووضع خطة تهجير الفلسطينيين موضع التنفيذ، وزجها بـ"حزب الله" في معركة إسناد "حماس" وحلفائها أسفر عن ضرب قدرات هذا الحزب ومقتل قادته وكوادره وتدمير أجزاء واسعة من جنوب لبنان، والأخطر من ذلك عودة الاحتلال لأجزاء كان قد أخلاها لدى انسحابه قبل ربع قرن، وإيران في الختام اضطرت إلى الموافقة عبر "حزب الله" على اتفاق مع إسرائيل يقضي تنفيذه على القدرات العسكرية لهذا الحزب إلى الأبد.
ربما كانت إيران ومعها حزبها اللبناني يعتقدان أن توقيع الاتفاق مع إسرائيل سيوفر لهما هدنة لالتقاط الأنفاس بانتظار أن يفتح "صمود" نظام بشار الأسد الباب أمام تغيير في المعادلات يسمح باستعادة قوة الردع الخادعة في استعادة ربما لتجربة إسقاط اتفاق الـ17 من مايو (أيار) 1983، لكن اتفاق العودة لتنفيذ القرار 1701 بصيَغِه الجديدة كان إيذاناً بسقوط بشار وهربه، ومعه خرجت إيران كلياً من سوريا بعد عقود من التحالف والسيطرة بمعية آل الأسد.
تعويضاً عن كل هذه الخسائر انبرت إيران لتقيم عزاءً وطنياً مقاوماً لنصرالله في إيران هو أكبر حتى من العزاء الذي أقيم لقاسم سليماني قبل خمس سنوات، وتستنفر في الوقت عينه معظم أنصارها في "الأممية الخمينية" فترسلهم إلى بيروت، من حوثيي اليمن إلى "حشديي" العراق، وصولاً إلى إبراهيم الزكزاكي الذي جعلته رئيساً لحركة شيعية في نيجيريا قبل أن تطرده هذه البلاد الموبوءة بـ"بوكو حرام" فتستضيفه إيران السخية.
كانت مشهدية الواصلين إلى العاصمة اللبنانية بهدف المشاركة في التشييع الكبير غنية بالتعابير. لقد حمل الواصلون أعلام إيران وصرحوا بمذهبية المناسبة ولم يتركوا أي معنى لبناني لها على رغم الجهد الذي بذله ورثة نصرالله في القيادة لإضفاء الطابع الوطني، ليس على مراسم الوداع فحسب، وإنما على كل الحرب التي خاضها الحزب منفرداً، وبقرار إيراني، ضد رأي غالبية اللبنانيين بطوائفهم وأحزابهم، بما فيها أحزاب حليفة قدمت تغطية كبرى لسياسات "حزب الله" على مدى أعوام سابقة، ومحاولة منهم للقول إنها في الأساس حرب مفروضة على رغم فداحة أثمانها، دفاعاً عن لبنان ضد الأطماع الصهيونية.
انتهى التشييع، وهو في رأي كثر تشييع لمرحلة إقليمية بأكملها في سياساتها وشخوصها، لكن ليس واضحاً ما إذا كان الحزب الذي "يستمد قوته، لباساً ومشرباً وثياباً وسلاحاً ومعاشات وتعويضات، من إيران"، سيستخلص دروسه أو سيحاول قراءة تجارب "الجنازات اللبنانية الكبرى" التي حفل بها نصف قرن من الصراعات في لبنان وعليه. فلم يكن نصرالله الذي أكسبته الرعاية الإيرانية بعداً مذهبياً وسياسياً أبعد من حدود بلاده، الزعيم اللبناني الأول أو الوحيد، صاحب المكانة في طائفته ومذهبه، أو في وطنه، الذي يقتل في سياق نصف قرن من الصراعات التي تختلط فيها أسباب الصراع السياسي الداخلي بحسابات قوى الخارج المستفيدة، لكنه مثل هؤلاء الآخرين ارتبط غيابه بموازين قوى تتعدى معادلات المنافسة الداخلية وشروطها المحدودة، وغالباً ما كانت هذه الموازين متصلة بمشاريع هيمنة وتنفس ذات بعد إقليمي ودولي.
لقد خسر لبنان في خلال الـ50 سنة الماضية، وضمن مسلسل التصفيات لقادته كمال جنبلاط (1977)، وكان قائداً لطائفته ولحركة وطنية يسارية علمانية، وجاء الاغتيال في لحظة التقاء مصالح النظام السوري مع إسرائيل على تقاسم النفوذ والإمساك بلبنان الدولة والأرض، ولم يكن اغتيال بشير الجميل (1982) بعيداً من المعادلة نفسها. وفي عام 2005 اغتيل رفيق الحريري في لحظة تواطؤ إيرانية - سورية على وضع اليد على ساحل المتوسط الشرقي العربي في مواجهة العرب الآخرين، وعندما اغتالت إسرائيل حسن نصرالله اختارت توقيتاً يناسب البازار الإيراني - الأميركي الدائر عشية تقدم دونالد ترمب إلى الرئاسة الأميركية.
خلاصة القول إن الطوائف اللبنانية المتصالحة والمتعايشة فقدت جميعها قادتها الأساسيين عندما كان المشروع الإقليمي، سيطرةً أو غزواً، يتقدم على المشروع الوطني اللبناني المقتنع بأن لا قيامة لأي طائفة، وأي لبناني، خارج نطاق حدوده البلدية، اللبنانية، أي إنه "لا أحد أكبر من بلده"، كما قال رفيق الحريري قبيل اغتياله.
لقد أصيبت الجماعات اللبنانية على التوالي بطعنات في الصميم. كمال جنبلاط لم يكن مجرد شخصية سياسية لدى أنصاره، وبشير الجميل "لا يزال حياً" فيهم، ورفيق الحريري السني كان بمساحة وطن.
حسن نصرالله هو أيضاً، بالنسبة إلى طائفته ولكُثر، قائد لا يعوض، والتعويض الوحيد المرتجى هو في أن يذهب حزبه وأنصاره إلى حيث ذهب اللبنانيون الآخرون بعد تجاربهم المريرة وفقدانهم قادتهم في ظروف أسوأ بكثير وعلى يد أعداء كان يفترض أن يكونوا شركاء.
لقد اختار أنصار جنبلاط وبشير والحريري، ومعهم كثر، شعار الدولة ولبنان أولاً، وهذا ما ينتظر اللبنانيون من "حزب الله" أن يفعله الآن بعد تشييعه التاريخي لقائده الأبرز.
اندبندنت