رغم جهود مؤسسة الأزهر في إعادة نشر أعمال أعلامه الكبار مثل؛ محمود شلتوت، ومحمد البهي، ومحمد مصطفى المراغي، ومحمد أبو زهرة، وغيرهم، لكن تظلّ أعمال الشيخ عبد المتعال الصعيدي (1894-1966) واجتهاداته العميقة محل تجاهل كبير، وإذا وضعنا في الاعتبار أهمية الظرف التاريخي التي تمر بها المنطقة، فإننا في حاجة إلى إعادة تسليط الضوء على هذه القامة، التي ما تزال معظم أعمالها مخطوطة بخط يده في مكتبة الأزهر، خاصة حول التجديد والحدود، وهي من الإسهامات التي تعبر عن اجتهاد قامة في تاريخ الأزهر .
الحرية الدينية أساس الإسلام
يرى الصعيدي أنّ الحرية هي أحد القيم المركزية في الإسلام، الذي عُني بالحرية العلمية والسياسية والدينية، ويؤكد أنّ الحرية الدينية تكشف حقّ الإنسان في اختيار عقيدته، وأنّه لا يكون لغيره من الناس سلطان عليه في ذلك؛ فالحرية الدينية، كما يقول، من الحقوق الإنسانية التي لا يصحّ أن يفترق فيها دين عن دين، ولا أن يفترق فيها جنس عن جنس، "فلكلّ إنسان أن يعتقد ما يشاء في الدنيا، وحسابه على الله تعالى في الآخرة، وليس من حقنا أن نحاسبه بشيء على ما يعتقده؛ لأنّه إنسان عاقل يتحمل مسؤولية اعتقاده، ولا نتحملها نحن عنه".
رغم جهود الأزهر بإعادة نشر مؤلفات أعلامه الكبار لكن تظلّ أعمال الصعيدي واجتهاداته العميقة محل تجاهل كبير
ولقد احتكم الصعيدي، في موقفه من حدّ الردة، إلى الآيات التي تؤكد الحريات الدينية مثل:
"إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" [القصص: (56)]
"وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" [يونس: (99)]
"لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ " [البقرة: (256)]
"وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا" [الكهف: (29)]
اقرأ أيضاً: من صفحات التجديد: الشيخ الصعيدي وتطبيق الحدود
ورغم أنّ القدماء يقولون إنّ آيات القتال قد نسخت آيات الحرية؛ فإنّ الصعيدي يرفض هذه الدعوى بالنسخ، ويؤكد أهمية قاعدة "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"؛ لأنّ الاختيار شرط في صحة الإسلام، ولذا لا يجوز إكراه الناس على قبول المعتقد الديني.
أحكام الردّة في الفقه الإسلامي
ويذهب الصعيدي إلى أنّ الفقه الإسلامي في معظمه يحكم على المرتد بالقتل، وهناك من الفقهاء من قال إنّه يُسجن، وهناك من يقول إنّه يستتاب أبداً ولا يقتل، مثل ابن حزم، ويرى الصعيدي أنّ القول إنّه يستتاب أبداً ولا يقتل أو يسجن أنسب من غيره، بما جاء في الإسلام من الحريات الدينية؛ وذلك لأنّ الإسلام يُدعى إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، ويرى الصعيدي أنّ من يرتد عن الإسلام فعقابه على الله تعالى في الآخرة؛ لأنّ الإنسان من حقه أن يختار ما بين الكفر والإيمان في الدنيا ويعاقب على اختياره في الآخرة.
احتكم الصعيدي في موقفه الرافض لحدّ الردة بالقتل إلى الآيات التي تؤكد الحريات الدينية
ويرفض الصعيدي اتخاذ ما يسمى "إجماع الفقهاء" في حكم المرتد بالقتل؛ لأنّ هناك اجتهادات مغايرة لابن حزم وغيره تبيح الاستتابة لا القتل، أو أن تكون مسألة الاستتابة جبرية، "فالقول بالاستتابة الدائمة فيه شبهة إكراه، وذلك بطلبنا دائماً من المرتد أن يتوب عن ردّته، فيلزم دائماً أن نكون بالقرب منه حيث يسمع لاستتابتنا، وفي هذا من الحرج لنا وله ما فيه، وهذه استتابة تشبه أن تكون إجبارية، أما استتابتي للمرتد؛ فليست استتابة دائمة، وحينئذ تكون اختيارية محضة".
اقرأ أيضاً: "مؤشر الفتوى"... هل يضبط فوضى الفتاوى عالمياً؟!
ويحاول الصعيدي أن يربط بين أحاديث النبي، صلى الله عليه وسلّم، حول المرتد وسياقها التاريخي وذلك، مثل الأحاديث: "من بدّل دينه فاقتلوه"، وحديث: "لا يحلّ دم مسلم إلا بإحدى ثلاث؛ كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس"، فيقول الصعيدي يجب أن يُراعَى حال المسلمين في ذلك الوقت؛ لأنّهم كانوا في حالة حرب، وكان من يرتد ينضم فعلاً إلى من يقاتلهم من الكفار، أو ينتهز الفرصة للانضمام إليهم، فيكون قتله لئلا ينضم إلى من يحاربهم، ويذهب إلى أنّ لحالة الحرب ظروفها الخاصة، ولا تقاس عليها حالة من يرتد في حال السلم؛ لأنّه في حال السلم لا يخشى منه قتال؛ بل يكون المسلمون في حالة أمن فلا يؤثر فيهم شخص ارتد من بينهم، وهو عاجز عن أن يلحق أذى بهم.
نقد القول بالإجماع في قتل المرتد
انتقد الصعيدي إجماع القدماء على ضرورة قتل المرتد، وقال إنّ الإجماع لم يتفق على حجيته؛ حيث ذهب النظامية من المعتزلة والشيعة إلى أنّ الإجماع محال في ذاته، وفي طريق العلم به، ويقول: "إنّني أرى أنّ الإجماع حجة فيما لا يمكن الخلاف فيه؛ كوجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج، وإنه ليس بحجة فيما يمكن الخلاف فيه كالمسائل التي لم تعلم من الدين بالضرورة، وهي التي لا يؤدي الخلاف فيها إلى هدم أركان الدين كمسألة المرتد، فإنّ عصيانه بردته معلوم قطعاً، وكذلك عقابه عليها في الآخرة، والخلاف في هذا يؤدي إلى هدم أساس من أسس الإسلام، ولا يمكن الخلاف فيه أصلاً، وأما كونه معاقباً في الدنيا بقتل أو حبس، فذا ما يمكن الخلاف فيه ولا يؤدي إلى إبطال أساس من أسس الإسلام".
ربط الصعيدي بين أحاديث النبي صلى الله عليه وسلّم حول المرتد وسياقها التاريخي
ومن ثمّ، ينتهي الشيخ الصعيدي إلى أنّ إجماع الأئمة الأربعة على قتل المرتد قد خرج عليه ابن حزم، وقال إنّه لا يقتل المرتد ويجوز اللجوء إلى السجن؛ لذا فإنّ هناك اضطراباً يضعف دعوى الإجماع في حكم المرتد، ونتيجة لهذا الاضطراب؛ يجيز الصعيدي مشروعية اجتهاده بأنّ المرتد لا يُكره على الإسلام بقتل أو حبس، وأن أمر عقاب المرتد يترك لله تعالى في الآخرة.
ولقد خرج الشيخ الصعيدي عن الإجماع الأزهري في مسألة قتل المرتد، فيقول "إنّني لا يمكن أن أمضي مع أولئك الجامدين من الأزهريين، لأجني على الأزهر بما يجنون عليه بجمودهم"، ورغم هجوم شيوخ الأزهر عليه، وعلى رأسهم الشيخ عيسى منون، لكنّ الصعيدي كان مصمماً على أهمية الحرية الدينية للإنسان عامة، وحتى للمرتد، كقيمة مركزية في الإسلام كدين، وذلك من منطلق حقّ الإنسان في اختيار عقيدته، وتحمّله مسؤولية هذا الاختيار في الآخرة.