فرض حزب الله اللبناني على الدولة رغباته بما يتعلق بتغيير قاضي التحقيق في انفجار مرفأ بيروت طارق البيطار، محاولاً تشتيت التحقيقات لإغلاق الملف الذي يدين مسؤولين فيه وفي حركة أمل الشيعية.
وبعد أشهر من المناورات السياسية والشعبية والقضائية، نجح الحزب المصنف في الكثير من الدول تنظيماً إرهابياً، في دفع السلطات القضائية بتعيين رديف للبيطار ليستمر في التحقيقات في القضية.
وقالت مصادر لبنانية نقل عنها موقع "ميديل إيست أون لاين": إنّ السلطة القضائية قررت تعيين قاضٍ ثانٍ لمباشرة هذا الملف شديد التعقيد والحساسية، والذي تعثر بسبب التدخلات السياسية، وظاهرة الإفلات من العقاب، والمحاباة لاعتبارات النفوذ والمصالح.
وتحقيق القاضي طارق البيطار في انفجار عام 2020، الذي سوّى أجزاء من المدينة بالأرض عندما انفجرت مئات الأطنان من نترات الأمونيوم المخزنة في المرفأ، ما يزال عالقاً منذ أواخر عام 2021 بسبب دعاوى رفعها سياسيون كبار سعى لاستجوابهم، بينهم وزراء سابقون مقربون من حزب الله الموالي لإيران.
ولم تُخفِ الجماعة الشيعية رغبتها في استبعاد البيطار، بل ضغطت عبر تهديدات غير مباشرة واتهمته بالتسييس، وامتنع (3) من الوزراء السابقين، تحوم حولهم شبهة الإهمال والمسؤولية عن الانفجار، عن المثول أمامه، ولجؤوا إلى رفع دعاوى قضائية للتشكيك في أهليته، وبالتالي تجميد التحقيق أكثر من مرة.
وأدى ذلك إلى عدم قدرته على استدعاء المشتبه بهم أو توجيه اتهامات إليهم، كما أنّ الأفراد الذين احتُجزوا بعد الانفجار ثم برئت ساحتهم ما يزالون قيد الاحتجاز.
الحزب ينجح في دفع السلطات القضائية بتعيين رديف للبيطار، ليستمر في التحقيقات في قضية انفجار مرفأ بيروت
وطلب وزير العدل هنري خوري في الرسالة المؤرخة يوم الإثنين الماضي من مجلس القضاء الأعلى في البلاد مناقشة تكليف محقق قضائي "لمباشرة الأمور العاجلة والضرورية في قضية انفجار مرفأ بيروت".
وبحسب نسخة من الرسالة، سيبقى القاضي الثانوي في منصبه "طالما أنّ المحقق الأصلي لا يمكنه تنفيذ مهامه، بما في ذلك طلبات الإفراج"، مشيرة إلى تدهور صحة بعض المحتجزين باعتباره الدافع وراء تقديم الطلب.
وقال مصدر قضائي رفيع: إنّ مجلس القضاء وافق، وإنّ خوري سيقترح الآن مرشحاً واحداً أو أكثر، مضيفاً أنّ القاضي الجديد لن يكون مفوضاً بتوجيه اتهامات.
ووفقاً لمصدر آخر، فإنّ البيطار فوجئ بالخطوة التي اعتبرها "غير قانونية"، وإنّه لن يتنحى عن دوره، ويحرص على العودة للتحقيق بشكل كامل.
ووفقاً لمصادر مقربة منه لموقع "جنوبية"، "يتجه إلى المواجهة حتماً، و"المحاربة" بسلاح المجلس نفسه، الذي "اجتهد في قراره الذي لا يستند إلى أيّ نص قانوني".
وزير العدل يطالب مجلس القضاء بتكليف محقق قضائي لمباشرة الأمور العاجلة والضرورية في قضية انفجار المرفأ، بحجة أنّ البيطار لا يمكنه تنفيذ مهامه
وأكدت المصادر أنّ الأخير "بدأ بوضع خطة عمل تمكّنه من استئناف تحقيقاته، والبحث عن مخارج قانونية تسمح له بذلك".
وعلى الرغم من هذا التوجه الذي سيسلكه البيطار، الذي يصرّ على عدم تسليم الملف للقاضي الذي سينتدبه مجلس القضاء الأعلى، فإنّه لم يسقط من حساباته احتمال تقديم استقالته من القضاء، وهذا الأمر قد يحصل في حالة واحدة، وهي "عندما يصبح وجوده يشكّل عرقلة لمصلحة أهالي الضحايا والعدالة، وإبقاء الملف من دون تحقيق بعد إخلاء سبيل جميع الموقوفين".
"المهمة" الموكلة إلى القاضي "المؤقت" لا تشمل فقط البت بطلبات إخلاء سبيل الموقوفين التي يعزو مرجع قضائي سبب تعيين القاضي البديل إلى "الوضع الإنساني والصحي للموقوفين"، وإنّما أيضاً الدفوع الشكلية، تلك التي سبق للبيطار أن ردّها والمقدمة خصوصاً من المدعى عليهم من السياسيين، في إشارة إلى مساعي حكومية لإخراج هؤلاء المتهين من الملف وإفراغه.
وفي سياق متصل، شجبت مجموعة من المشرعين المستقلين الخطوة، مشيرة إلى "انتهاكات جسيمة" للعملية القضائية، وقالت إنّ الهدف منها توجيه "ضربة قاضية" لدور البيطار، وفقاً لما جاء في بيان أورده موقع "الأمل نيوز".
مكتب الادعاء في نقابة المحامين في بيروت ووكلاء الضحايا، يدرسون السبل القانونية والخطوات التي يمكن اتخاذها لإلغاء قرار إبعاد البيطار
من جهته، يدرس مكتب الادعاء في نقابة المحامين في بيروت، ووكلاء الضحايا، السبل القانونية والخطوات التي يمكن اتخاذها لإلغاء قرار إبعاد البيطار، وتعيين بديل له، لافتين إلى إمكانية اللجوء إلى القضاء، ورفع دعاوى تطال القاضي المكلف، وفق ما نقلت قناة "الجديد" اللبنانية.
هذا، ونظم القليل من أقارب ضحايا الانفجار وقفة احتجاجية أمام وزارة العدل أمس، رفضاً لقرار تبديل البيطار بقاضي تحقيق آخر، واتهموا السياسيين بالتلاعب بالتحقيق عبر إبقائه معلقاً، وإطلاق سراح بعض المحتجزين، المحسوبين على حزب الله المتهم الأول في هذه القضية، حسبما نقلت صحيفة "النهار" اللبنانية.
لكنّ الحراك كان متواضعاً، وقد أشار إليه الكثيرون بالصمت الشعبي، ممّا أفقد المحقق العدلي القاضي طارق البيطار، المجمدة إجراءاته منذ (9) أشهر، الحصانة الأخيرة التي تمتع بها في معارك خاضها بلا هوادة مع محاولات كفّ يده عن التحقيقات.
ولم تتجاوز الاعتراضات مواقع التواصل الاجتماعي التي اعتبر عبرها عدد من النشطاء أنّ القرار غير قانوني، وأنّ وزير العدل يحاول إغلاق الملف لجهات تفرض رغباتها على الدولة.
التظاهرة المتواضعة رفضاً للقرار، وإعلان حزب التيار مطالبته الإفراج عن الموقفين يؤكد أنّ البيطار فقد حصاناته الشعبية والسياسية
والبيطار، الذي كان محصناً بدعم سياسي وقاعدة شعبية تتطلع لتحقيق العدالة في ملف قضائي حاسم، خسر آخر الحصانات.
ووفقاً لموقع المدن اللبناني، اللبنانيون الذين راهنوا على خرق في الملف، استكانوا ولاذوا بالصمت، حتى أنّ المشاركين في الوقفة الاحتجاجية أمام قصر العدل أمس كانوا قلة، بما لا يتماهى مع طبيعة الحدث، وهذا التطور القضائي.
وقد خسر البيطار السلطة السياسية النافذة التي دعمت مهمته، أي "التيار الوطني الحر"، على خلفية مطالبته بالإفراج عن المحتجزين على ذمة القضية، أهمّهم مدير الجمارك بدري ضاهر.
ودعا أول من أمس نائبان في البرلمان من التيار الوطني الحر، وهو حزب مسيحي يرأسه جبران باسيل صهر الرئيس ميشال عون، علانية إلى الإفراج عن المعتقلين الذين لم يعودوا يعتبرون أطرافاً في الانفجار، وعلى رأسهم المدير العام السابق للجمارك بدري ضاهر، المحسوب على فريقه.
وغالباً ما يخضع القضاة لتأثير النخبة الحاكمة في لبنان، حيث أدى تقسيم السلطة على أسس طائفية إلى إغراق البلاد في أسوأ أزمة منذ عقود.
ويعيش لبنان على وقع كوارث وأزمات سياسية وأمنية واقتصادية منذ أعوام لم يسبق لها مثيل، بسبب الطبقة السياسية الحاكمة، وهيمنة حزب الله اللبناني على جزء كبير منها.