ترضية لـ"الإخوان المسلمين" على حساب الحقيقة والعلم

ترضية لـ"الإخوان المسلمين" على حساب الحقيقة والعلم


04/09/2022

علي العميم

لو أن القارئ الإسلامي أمعن النظر قليلاً، في الحوار الذي ادعى أنور الجندي أنه الحوار الأخير مع محمد محمد حسين، لرأى أن متن الحوار مجرد تلخيصات وإعادة صياغة، لبعض آراء محمد محمد حسين التي قالها في أربعة من كتبه، مع قليل من الزيادة عليها، وشيء من التحوير.
قد يسأل هذا القارئ: ما حاجة أنور الجندي إلى هذا التلفيق؟!
فأجيبه: حاجته إليه تنحصر في أمرين، هما:
أن ينشر عمله الملفق موضوعاً للغلاف في مجلة «الأمة» الإسلامية. ذلك لأن المُحاوَر حديث الوفاة هو –بالنسبة لهم- مرجعية ثقافية وفكرية لتاريخ الأفكار في العالم العربي من منظور إسلامي.
وأن يعقد صلة شخصية مزعومة بينه وبين محمد محمد حسين. ففي هذا الحوار ادعى أنه عرفه منذ عشرين عاماً، وهو على طريق مواجهة التغريب والغزو الثقافي. وادعى أن محمد محمد حسين قال في أول إجابته عن السؤال الأول: «لعلك تعرف من أحاديث بيننا مستفيضة ماضية» لتأكيد هذه الصلة المزعومة على لسان محمد محمد حسين، بعد وفاته.
إن القليل من الزيادة وشيئاً من التحوير ماثل في إجابة محمد محمد حسين المدعاة عن هذا السؤال: ماذا ترى في كتابات العقاد وطه حسين الإسلامية؟
فأنور الجندي جعل محمد محمد حسين يبدأ الإجابة عن هذا السؤال بالقول: «إن طه حسين والعقاد لا ينتميان أصلاً إلى المدرسة الإسلامية من الناحية الفكرية، ولكنهما ينتميان منذ نشأتهما الأولى إلى المدرسة الليبرالية المتحررة التي تعتبر لطفي السيد أستاذها الأول في جيلهما».
إن هذا الكلام لا يمكن أن يقوله محمد محمد حسين، ولماذا يقوله على هذا النحو الغث؟
فهل القارئ العادي والقارئ العلماني والقارئ الإسلامي، يعتقد أن طه حسين والعقاد كتبا في الإسلاميات؛ لأنهما –أصلاً- إسلاميان؟! وهل هو يجهل أنهما حينما كتبا إسلامياتهما، كانا ليبراليين؟!
إن هذا الحشو السطحي في الأسلوب هو أسلوب أنور الجندي، وليس أسلوب محمد محمد حسين.
وجعله يختم إجابته بقوله: «ومعروف أن طه حسين والعقاد لم يكونا ممارسين للإسلام في أصوله الأصيلة»!
إن أنور الجندي أراد بهذه العبارة القول إنهما لا يمارسان الإسلام في جانبه الفرائضي أو التعبدي؛ لكن ما معنى ممارسة الإسلام «في أصوله الأصيلة»؟
هل طه حسين والعقاد يؤديان فرائض الإسلام بإضافات بدعية عليها؟!
إن اختلال المعنى في هذه العبارة، أتى من إضافة «جملة في أصوله الأصيلة» إليها. وهذه الإضافة أتت لتخفيف وقع هذا الاتهام الديني من جهة، وللاحتيال على الرقابة الإعلامية في قطر من جهة أخرى.
لم يسبق لأحد من الطاعنين في دين طه حسين في غير هذا الموضع الذي يرجع تاريخ نشره إلى الشهر الرابع من عام 1983، أن وجه له هذا التهمة. فهذه التهمة وجهت إلى عباس محمود العقاد بعيد ذلك العام عند قلة من الإسلاميين للطعن في توجهه الإسلامي، وتحديداً قالوا: إنه لا يصلي يوم الجمعة. فعند الطاعنين في دين طه حسين تهمة كهذه هي –بالنسبة لهم– غير ذات معنى؛ لأن في وعيهم العقدي اسمه غير مطروح بوصفه ذا نزعة إسلامية يكتنف فكره بعض الانحرافات، وعلى مسلكه بعض المؤاخذات من الناحية الدينية.
وفي كل ما كتبه محمد محمد حسين من نقد لطه حسين، لم يتعرض لمسلك طه حسين من ناحية دينية ومن ناحية عامة. ولم يتعرض –أيضاً- لنقد سواه من هاتين الناحيتين، رغم غلبة الناحية الأولى على نقده.
وقد شذ عن هذا النهج في نقده لمحمد عبده وجمال الدين الأفغاني، حينما ذكر –نقلاً من كتاب «العقود اللؤلؤية في المدائح النبوية» ليوسف النبهاني– أنهما لا يحافظان على أداء الفرائض الدينية.
إن إجابة محمد محمد حسين عن سؤال أنور الجندي انتزعها الأخير من نصين واردين في كتابين للأول، مع شيء من التحوير والزيادة، وإعادة صياغتهما بأسلوبه.
النص الأول: وارد في الجزء الثاني من كتابه «الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر» الصادر في أول طبعة له عام 1956.
النص هو قول محمد محمد حسين: «وبدا عند ذلك أن هناك وعياً إسلامياً جديداً قد استيقظ في نفوس المسلمين. وكان تيار هذا الوعي الجديد من القوة بحيث استطاع أن يجذب إليه كثيراً من كبار الكتاب الذين كانوا يتولون كبر كل بدع جديد. فظهر كتاب (على هامش السيرة) لطه حسين سنة 1933، وظهر كتاب (حياة محمد) لهيكل سنة 1935، ثم ظهر (في منزل الوحي) سنة 1936. وتوالت الكتب الإسلامية بعد ذلك تغمر الأسواق، تحمل أسماء الراسخين من قدماء المؤمنين بالجامعة الإسلامية، وأسماء التائبين العائدين إلى أحضانها بعد جفوة وعقوق، وتحمل مع هؤلاء وهؤلاء أسماء من يتخذون التأليف تجارة، فيكتبون للناس ما يروج عندهم».
النص الثاني وارد في كتابه «أزمة العصر» الصادر عام 1979. يقول في هذا النص: «في ظل هذه الأحداث، ظهرت جماعات إسلامية استطاعت أن تستقطب عدداً كبيراً من الشباب، أبرزها جماعة (الإخوان المسلمين). وفي ظل هذا التحول انعكس اتجاه التيار، وأصبح الفكر الإسلامي والحماس الإسلامي وإحياء أمجاد المسلمين والدعوة إلى الإعداد للجهاد في سبيل استردادها بدع العصر، واستخفى الملاحدة الذين كانوا يدعون للإلحاد. عاد بعضهم عن انحرافه واعترف به وأعلن توبته، كما فعل محمد حسين هيكل في صدر كتابه (في منزل الوحي) الذي كتبه بعد أداء فريضة الحج. ثم تتابعت كتبه الإسلامية. وساير بعضهم الموجة الجديدة، فأصدر كتباً في سير خلفاء المسلمين وأبطالهم كالعقاد. ونافق بعضهم هذه الحركة الجديدة، كما فعل طه حسين في كتابه (على هامش السيرة) الذي صدر سنة 1933».
نلحظ هنا تبايناً في هذين النصين في تفسير اتجاه بعض المثقفين المصريين الليبراليين إلى الكتابة في الإسلاميات، ابتداء من ثلاثينات القرن الماضي.
في النص الأول سمّى من هؤلاء اثنين: طه حسين ومحمد حسين هيكل. وفي النص الثاني سمّى معهما عباس محمود العقاد.
في النص الأول، قسم أصحاب الكتب الإسلامية التي غمرت الأسواق في عقد الثلاثينات إلى ثلاث فئات:
الأولى، الراسخون من قدماء المؤمنين بالجامعة الإسلامية، ولم يذكر اسم أي واحد منهم.
الثانية، التائبون العائدون إلى أحضانها بعد جفوة وعقوق. وقد يفهم أن طه حسين ومحمد حسين هيكل اسمان من أسماء هذه الفئة.
الثالثة، الذين يتخذون التأليف تجارة، فيكتبون للناس ما يروج عندهم، ولم يسمِّ أحداً.
وفي النص الثاني قسّم الليبراليين الذين اتجهوا للكتابة في الإسلاميات إلى ثلاث فئات أيضاً:
الأولى، التائبون توبة صادقة، ومثّل لهؤلاء بمحمد حسين هيكل.
الثانية، المسايرون لموجة جديدة، وكان مثاله لهذه الفئة عباس محمود العقاد. ومما يجدر التنبيه إليه هنا أن اسم العقاد لم يرد قط في أي كتاب من كتب محمد محمد حسين إلا في هذا النص المقتبس من كتابه «أزمة العصر».
الثالثة، المنافقون، وكان مثاله لهذه الفئة طه حسين في أول كتاب إسلامي له، وهو كتاب «على هامش السيرة».
وكان في فصل «دعوات هدّامة» في كتابه «الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر»، قد عدّ طه حسين من الذين «يذهبون مذهباً أكثر خفاء في شأن الدين، ولكنه أشد خطراً عليه، وأعظم أثراً في هدمه»، وكان شاهده في هذا الادعاء كلاماً اقتبسه من مقدمة كتابه «على هامش السيرة».
في النص الثاني يعني بـ«الأحداث» التي ظهرت في ظلها جماعات إسلامية أبرزها جماعة «الإخوان المسلمين»، كما عدّدها: جرأة البعثات التبشيرية على اقتحام أحياء المسلمين، وظهور خطر الحركة الصهيونية، وتوالي الصدام بين المسلمين واليهود في فلسطين منذ سنة 1929، وفظائع الاستعمارين الفرنسي والإيطالي في سوريا وفي شمال أفريقيا.
هذه الأحداث كان قد تحدث عنها بتوسع أكبر في الجزء الثاني من كتابه «الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر». وقد رأى فيه أن لها أثراً في نشأة «وعي إسلامي جديد». وهذا «الوعي الإسلامي الجديد» –بحسب عرضه لتاريخ الفكر في مصر ما بين الحربين العالميتين– تلى صعود القومية المصرية الفرعونية، وتراجع تيار الجامعة الإسلامية، بعد الحرب العالمية الأولى.
وفي ظني أن «الوعي الإسلامي الجديد» يقصد به ما سماه قبله ج. هيوراث دن في كتابه «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» بـ«عودة المشاعر الإسلامية» التي حدد تاريخ عودتها بأواخر العشرينات الميلادية.
يختلف حديث ج. هيوارث دن عن هذه الحالة الجديدة بأنه حديث واضح محدد، فمحمد محمد حسين لم يحدد «الوعي الإسلامي الجديد» من خلال أشخاص بأعيانهم، ولا من خلال مجموعة أو جماعة أو تيار بعينه، ولم يحدد ملامحه ولا الجديد فيه.
الواضح من كلامه عنه أنه نشأ نتيجة لتلك الأحداث الثلاثة التي عدّدها. وفحواه هو الحميّة الإسلامية والحمية العربية في مصر لبعض البلدان العربية، في مواجهة الاستعمار الفرنسي والاستعمار الإيطالي. ومن مظاهره التي ذكرها تفاعل «الرابطة الشرقية» و«جمعية الشبان المسلمين» مع تلك الأحداث، بتوجيه أنشطتها بمهاجمتها. وقصائد لأحمد شوقي وأحمد محرم في رثاء زعامات إسلامية من العالم العربي. وتحولات طرأت على جريدة «السياسة»، لسان حال حزب «الأحرار الدستوريين».
الأمثلة التي ذكرها «لمظاهر الوعي الإسلامي الجديد» يتراوح تاريخها ما بين أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات الميلادية.
إن حديثه عن «الوعي الإسلامي الجديد» كان غير متسلسل، ويعتوره اضطراب كبير.
فهذا الوعي -كما رأينا في النص الأول- هو سبب تحول الكتّاب الليبراليين إلى الكتابة في الإسلاميات. وكان قبلها بصفحة قد قال: «هاجت هذه الأحداث مشاعر المسلمين، فعاد كثير من دعاة القومية الفرعونية إلى أحضان الإسلام، يدعون بدعوة الداعين إلى اتخاذه أساساً لكل نهضة في أي بلد إسلامي. وربما كانت مقدمة هيكل لكتابه (في منزل الوحي) من أوضح الأمثلة على هذا التطور في المجتمع المصري، وعلى كثير من مثقفيه وقتذاك».
ففي قوله هذا يعزو اتجاه الكتاب الليبراليين إلى الكتابة في الإسلاميات إلى اشتداد حملات التبشير في مصر، وظهور خطر الحركة الصهيونية، وفظائع الاستعمارين الفرنسي والإيطالي. وبعد صفحة واحدة عزاها إلى «الوعي الإسلامي الجديد»!
عزاها إلى هذا الوعي، مع أن هذا الوعي في تحليله نشأ نتيجة لتلك الأحداث. وهو في الأصل استشهد باقتباسات من مقدمة هيكل لكتابه على أنها من مظاهر «الوعي الإسلامي الجديد» وجزء منه.
في النص الثاني غيرّ ما قاله في النص الأول، فهو في البداية أحلّ الجماعات الإسلامية التي وضع في صدارتها «الإخوان المسلمين» محل «الوعي الإسلامي الجديد»، وجعلهم سبباً في اتجاه الكتاب الليبراليين إلى الكتابة في الإسلاميات. وقد قال بهذا ترضيه لـ«الإخوان المسلمين»، وقد كان في كتابه المرجعي «الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر» قد تجاهل ظهورهم ولم يذكرهم قط في كتابه هذا.
وهذه ثغرة منهجية في كتابه، وبخاصة حين تناول مسألة الخلافة الإسلامية في مصر بعد إلغاء مصطفى كمال لها في تركيا، ومسألة الجامعة الإسلامية بعد خفوت صوتها في مصر. فهاتان المسألتان من محاور فكر «الإخوان المسلمين». وكذلك حين تحدث عن «الوعي الإسلامي الجديد» أو ما يسميه ج هيوارث دن «عودة المشاعر الإسلامية» إلى المجال السياسي والمجال الاجتماعي في أواخر العشرينات الميلادية. فمحمد محمد حسين قد أشار إلى نشأة «جمعية الشبان المسلمين» في آخر عام 1927، وقفز على ذكر نشأة جماعة «الإخوان المسلمين» مع أنها نشأت بعدها في فترة وجيزة.
وليس بالضرورة أن علة تلك الثغرة المنهجية علة رقابية، فدراسته دراسة علمية أكاديمية كتبها بغرض نيل درجة أستاذ كرسي الأدب في جامعة الإسكندرية، ويمكن أن يكتفي بالوقوف على جماعة الإخوان المسلمين، وهي رضيعة في المهاد في فترة ما سماه «الوعي الإسلامي الجديد».
والدافع لهذه الترضية أنَّ «الإخوان المسلمين» اعتمدوا كتابه هذا مرجعاً معتبراً لهم منذ المنتصف الأول للستينات الميلادية، وروجوا لكتابه «حصوننا مهددة من داخلها» منذ أواخر هذا العقد، ولكتابه «الإسلام والحضارة الغربية» في سنوات السبعينات الميلادية.
لكن هذه الترضية جاءت على حساب الحقيقة والعلم، إذ هو يعلم أن لا صلة –مطلقاً– لـ«الإخوان المسلمين» باتجاه كتاب ليبراليين إلى الكتابة في الإسلاميات.
التغيير الثاني مسّ تقسيمه الثلاثي لذلك التحول للكتابة الإسلامية.
ففي النص الأول لم يلمز طه حسين ولا كتاب تحوله «على هامش السيرة»، علماً بأنه –كما أشرنا سابقاً– في موضع آخر من كتابه، لمز «على هامش السيرة»، ولمز الغاية من تأليفه.
وفي النص الثاني قذف طه حسين وكتابه بخصلة النفاق. إن حقد محمد محمد حسين على طه حسين أعماه حين أطلق هذا الحكم. فكيف يسوغ عقلاً ومنطقاً أن ينافق طه حسين الحركة الجديدة بكتابه هذا، وكتابه هذا –بحسب إفادته في النص الأول– أول كتاب في هذه الحركة الجديدة؟!
العقاد الذي لم يذكر اسمه في النص الأول، وذكر اسمه في النص الثاني على أنه من فئة «المسايرين» للموجة الجديدة. أسأل هنا: هل العقاد يدخل في الفئة الثالثة في النص الأول الذين «يتخذون التأليف تجارة، فيكتبون للناس ما يروج عندهم»؟
أسأل هذا السؤال؛ لأننا إن تأملنا في منطوق النص الثاني، سنجد أن الفئة الثالثة تلت الفئة الأولى والفئة الثانية في تأليف كتب إسلامية. والعقاد متأخر قليلاً عن صاحبيه طه حسين ومحمد حسين هيكل في دخول هذا المضمار. إضافة إلى أنه من عام 1942 الذي صدر له فيه أول كتابين إسلاميين («عبقرية محمد»، و«عبقرية عمر») إلى عام 1956، وهو العام الذي صدر فيه الجزء الثاني من «الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر»، كان من أغزر الليبراليين في تأليف الكتب الإسلامية. وقد فسر اليسار المصري خصومته العنيفة معهم ومع الماركسية بأنه يفعل ذلك لغرض تجاري. وللحديث بقية.

عن "الشرق الأوسط" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية