
يبدأ كتاب المفكر العربي علي الشرفاء الحمادي (المسلمون بين الخطاب الديني والخطاب الإلهي) بالآية القرآنية الكريمة "اتبعوا ما أُنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلًا ما تذكرون".
يفرّق الكتاب المهم بين خطابين؛ الأوّل الخطاب الديني الذي يدعو إلى القتل والتكفير، ويعتمد على الروايات المدسوسة المختلقة والإسرائيليات، والآراء البشرية التاريخية المُسيسة.
والخطاب الثاني يدعو إلى الرحمة والتفكير وتسلسله كالتالي: (الله- القرآن الكريم- محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم- الناس).
يعني هذا الفرز التجديدي المتطور بين خطابين ديني وإلهي، كما ورد بالمقدمة، أنّ المسلمين اليوم ليس أمامهم سوى طريقين لا ثالث لهما؛ إمّا العودة إلى الأصل القرآني النقي، وإمّا التخبط في ظلام الدسائس والمؤامرات التي دُبرت لتضليل المسلمين وصرفهم عن مصدر وحدتهم ونهضتهم.
وقفة مسؤولة للاتفاق
دعا الشرفاء في المقدمة المثقفين وعقلاء المسلمين إلى "وقفة مسؤولة للاتفاق والوصول إلى مفهوم واحد فيما تعنيه مقاصد آيات القرآن لخير الإنسانية، تاركين خلفهم مصادر رواياتهم مدركين بوعي كامل وإيمان ويقين أنّ للدين الإسلامي مرجعية واحدة هي كتاب الله سبحانه الذي نزّله على رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، والذي أمر الخالق بإبلاغ خطابه للناس جميعًا".
التفريق بين الخطابين الديني والإلهي تفريق دقيق جدًا وعبقري ولا يصدر إلا عن عقل كبير يدرك جيدًا أصل الخلل والعطب، وأنّ بداية الإصلاح الحقيقية من هنا؛ أعني من التعرف على مصدر منهج التلقي الذي من المفترض أن يسير المسلمون على نهجه، وأن يعزلوا في المقابل ما سبّب العطب والتشوش والتناقض، ناهيك عن الفرقة والانقسام والاقتتال والصراعات.
المقصود هنا بالعزل هو المرويات المكذوبة والموضوعة التي هي في الأصل حِكم وأمثال جاهلية وإسرائيليات تداولها أهل الكتاب فيما بينهم وقصص كلها مقتبسة أو منسوخة نسخًا من كتبهم المقدسة.
لماذا من الضروري أن نبدأ من هنا؟ لأنّ كل كتب الحديث بها قصص تطعن بشكل واضح وصريح في الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعضها أساطير من نسج الخيال وأخرى لا يصدقها عقل، وناهيك أنّ غالبيتها يناقض القرآن، فبعضها يناقض الآخر، ويمكن أن نجد حديثًا يناقض آخر في الكتاب نفسه، وكلاهما منسوبان إلى الرسول.
وأيضًا لأنّ خطاب المرويات المختلقة المنسوبة كذبًا إلى الرسول هو الذي فرّق المسلمين إلى فرق متناحرة، وهو الذي أنتج كارثة التكفير والتطرف والإرهاب، وهو الذي أخرج المسلمين من مشهد الحضارة على مدار قرون طويلة، في حين لو كان القرآن هو مرجعيتهم، لصاروا ملوك الدنيا وقادة الكون.
بين الخطاب الديني والخطاب الإلهي
لماذا أيضًا من الضروري أن نبدأ من هنا، أي من التفريق بين الخطاب الديني (الأحاديث والمرويات المكذوبة والأساطير والإسرائيليات والخرافات) وبين الخطاب الإلهي (بتسلسه: الله- القرآن الكريم- محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم- الناس)؟ لأنّ هذا هو الوحي الإلهي الوحيد؛ لا كلام معه ولا تشريع يضاهيه ولا خطاب وتوجيهات وإرشادات بعده.
جرى نسخه في ذاكرة الرسول صلى الله عليه وسلم بطريقة يستحيل معها نسيانه "لا تحرك به لسانك لتعجل به (لا تخف، لن تنساه) إنّ علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إنّ علينا بيانه".
ولما مات الرسول بقي الوحي الإلهي مكتوبًا على هيئة سور قرآنية كما نزلت على الرسول في حياته "إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنّما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل".
مات محمد صلى الله عليه وسلم لأنّه بشر "أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئًا وسيجزي الله الشاكرين".
مات محمد صلى الله عليه وسلم وبقي الدين لأنّه لله "ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين".
مات ولم يعد الناس مثلما كان الحال في السابق بحاجة لرسول يأتي من بعده "ولكن رسول الله وخاتم النبيين".
ولماذا يأتي؟ فالقرآن موجود والله حافظه "قل أيّ شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأُوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ".
فكانت الدعوة إلى الإسلام بوساطة قراءة آيات القرآن، سواء كان ذلك زمن الرسول أو بعد وفاته، ولم يُوحَ للرسول غير القرآن "نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبّار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد".
ولم يحتج الرسول أن يدعم دعوته بغير القرآن لأنّه كلام من خلق الخلق المعجز، وهو سبحانه يعرف ما يناسبهم، ومن السذاجة وغير العقلاني وغير المنطقي أنّ بشرًا يقدر على أن يأتي بما لم يأتِ به القرآن كدعم لدين الله، حاشا لله "قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا".
إذن بداية خروج المسلمين من التيه والتخلف والتقهقر الحضاري تكون من معرفة ما هو الخطاب الإلهي واتباعه والسير على منهاجه وشرعته، والذي لا يستطيع بشر أن يأتي بمثله لا بفصاحته المُعجزة ولا في تشريعاته التي تضمن لمن آمن بها وطبقها سعادة الدنيا "ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض"، وأيضًا تضمن له سعادة الآخرة "أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين".
البداية أيضًا من معرفة ما هو الخطاب الديني الذي لم يسمح الرسول صلى الله عليه وسلم به لمّا نهى عن كتابة الأحداث التي جرت في عصره وكلامه وتصرفاته حتى لا يخلط الناس بينها وبين شرع الله الممثل في القرآن، وحتى لا يظن البعض أنّ ما صدر عن الرسول من قول أو فعل هو جزء من دين الله، ويتناسوا أنّه صلى الله عليهم وسلم لا يزيد عن كونه بشرًا مبلغًا عن الله ما يوحيه إليه "قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرًا رسولًا".
ولأنّه لا يستطيع أحد أن يشرّع بغير القرآن، ولم يأمر الرسول بكتابة شيء سوى القرآن، ومن كتب غير القرآن فليمحه؛ لأنّ القرآن وحده هو ممثل دين الله عزّ وجلّ، وما سواه فلا يمثل إلا رأي قائله.