بين نزار قباني وحاتم علي

بين نزار قباني وحاتم علي


05/01/2021

نعم، مات حاتم علي، المخرج والممثل السوري العظيم، مات غريباً، مات ذاك الموت المختلف الذي يحترفه السوريون منذ عشرة أعوام. موت على أرض غريبة، لكنّه هذه المرة ارتدى حلّة جديدة، مع حاتم علي، ولا ندري أكان علي محظوظاً أم إنّ القدر وعده بالعودة إلى أرض الوطن، بكلّ الأحوال غالبيتنا وقفنا مشدوهين أمام الجنازة الجماهرية العفوية، النابضة بالمحبة، والغارقة بالدموع، التي حظي بها الفقيد، والتي جابت شوارع الشام وجمعت السوريين بكلّ أطيافهم، مسلمين ومسيحيين وملحدين، سنّة وشيعة وعلويين، معارضين ومؤيدين، بل جمعت أسماء لم يكن يتوقع السوريون أنها موجودة في سوريا أساساً.

الذي شاهد جنازة حاتم علي في سوريا، ستعود به الذاكرة تلقائياً لجنازة نزار قباني، الذي غضب عليه الأسد الأب ونفاه وحرمه من وطنه

جميعهم ظهروا على الكاميرات ونعوا فقيدهم بأوصاف متشابهة، رثاء يكاد يكون موحداً بكلمات مختلفة، لم نجد سورياً واحداً يختلف على علي، لم يخرج متشدّق، معارض أو مؤيد، ليطال ذلك الإنسان بكلمة سوء، وكأنه امتلك سحراً طغى على أفئدة السوريين جميعاً وعلقهم به، أو قرأ تعويذة ساحرة ألهمتهم أن يقولوا الحروف نفسها بأصوات متباينة.

 بين نزار قباني وحاتم علي… قامات أحرجت عائلة الأسد 

سؤال ربما خطر على بال كثيرين: مع هذا الكمّ الهائل من الإجماع على حبّه وصدقه وإخلاصه وعمله وتواضعه وتفانيهإلخ: لماذا لم يطأ علي أرض سوريته الذي نبع الحب والتقدير من أرضها منذ عشرة أعوام؟

الإجابة بسيطةعلي لم يكن من الفنانين المطبلين للنظام السوري منذ بداية الحرب في سوريا، ومنذ اختار النظام الحلّ العسكري والقتل رفض حاتم علي هذه السياسة وغادر سوريا، وأعلن أنه لن يعود إليها حتى يتغير هذا الحال، وهذا بالفعل ما حدث، لأنه عاد إليها جثة هامدة، هنا لا نستطيع أن نغيّب صورة قامة أدبية أخرى كانت ضحية ديكتاتورية عائلة الأسد، الأب أمس واليوم الولد.

لا شيء يقلق الأنظمة الديكتاتورية كما يقلقها أصحاب العقل الحرّ؛ فهؤلاء يسمح لهم بالإقامة في الوطن،  بشرط واحد؛ أن يكونوا أمواتاً

الذي شاهد جنازة حاتم علي في سوريا، ستعود به الذاكرة تلقائياً لجنازة الشاعر السوري الكبير، نزار قباني، الذي غضب عليه الأسد الأب ونفاه وحرمه من وطنه، الذي مات حسرة وكمداً على أن يدوسه ويقضي أيامه الأخيرة فيه، إلا أنّ كلماته ومواقفه الحازمة وأفكاره حرمته ذلك حياً، وهي نفسها، مضافاً إليها حبّ الناس له، أحرجت الأسد الأب آنذاك، وأجبرته على أن يسمح بتلك الجنازة المهولة التي عمّت شوارع الشام، التي اكتست بالسواد على موت نزار قباني، تماماً كما لبست الأسود يوم الجمعة الماضي حزناً على حاتم.

فرغم أنّ حافظ الأسد حرم قباني، آنذاك، من وطنه حياً لأعوام، إلا أنّه عجز عن حرمان جسده من أن يدفن في تراب سوريا، والتاريخ اليوم يعيد نفسه مع الأسد الابن، الذي وقف إعلامه الرسمي صامتاً، لم ينبس حتى بكلمة نعي في جريدة رسمية، أو نقابة فنية، ولم نشاهد له كاميرا تصوّر حدثاً زلزل أغلب القنوات الفضائية، إلا القنوات السورية الرسمية، ورغم أنّ كلّ الفنانين السوريين التابعين لنقابة الفنانين السورية، وغير التابعين لها، كانوا حاضرين في جنازة الفقيد، إلا أن نقيب الفنانين السوريين كان غائباً، وهو نفسه الذي فصل حاتم علي من النقابة عام 2015، ضمن فنانين آخرين "مغضوب عليهم".

كلّ هذا يؤكّد أن حاتماً، كما نزار، عاد إلى وطنه ودفن في ترابه رغماً عن إرادة الجهات الرسمية في دمشق، وأنّ الجهات الرسمية سكتت وتابعت بصمت، لأنّ ما يحدث كان خارجاً عن إرادتها، فلا شيء يقلق الأنظمة الديكتاتورية كما يقلقها أصحاب الكلمة والفكر والعقل الحرّ؛ فهؤلاء يسمح لهم بالإقامة في الوطن، وعلى مضض، بشرط واحد؛ أن يكونوا أمواتاً بلا صوت.. بلا كلمة.. بلا قلم.. بلا نفَستماماً كحاتم علي ونزار قباني، اللذين أثبتا أنّ السوريين لا يجمعهم شيء كما يجمعهم الموت.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية