بين ثقافتين... كيف نواجه التطرف بالإبداع؟

بين ثقافتين... كيف نواجه التطرف بالإبداع؟

بين ثقافتين... كيف نواجه التطرف بالإبداع؟


18/04/2023

عدد من الأسباب والسياقات المتداخلة ساهمت في إنتاج ظاهرة التطرف الديني الموجودة في المجتمع، وقد برزت هذه الظاهرة بشكل أكثر وضوحاً في الأعوام الـ (10) الأخيرة؛ نتيجة لعدد من التحولات التي صاحبت "الربيع العربي"، منها تجربة الحركة الإسلامية في الحكم صعوداً وهبوطاً، والمساحة التي اتسعت أمام التيار الديني للعمل والانتشار ومن ثم التأثير في المجتمع، كما ساعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وزيادة مساحة النقاش من خلالها حول العديد من القضايا العامة على بروز الظاهرة.

ولم تعد ظاهرة التطرف الديني قاصرة على بعض الجماعات الدينية، لكنّها صارت أوسع نطاقاً بحيث تشمل شرائح كثيرة من الأفراد غير المنتمين لجماعات أو تنظيمات، وذلك بسبب الأثر الذي تركته تلك الجماعات في المجتمع ونتج عنه أفكار وقناعات وطرق تفكير باتت سائدة وراسخة ساهمت في بروز الظاهرة، هذا بجانب أسباب أخرى سياسية واجتماعية واقتصادية عززت من حضور الظاهرة ورسوخها، ونلاحظ مظاهر ذلك التطرف على وسائل التواصل الاجتماعي بشكل واضح من خلال تعليقات ومنشورات لأفراد يشتبكون مع العديد من الأفكار والأحداث من منطلقات دينية وبشكل لا يقبل بأيّ فكرة مخالفة ويهاجم أصحابها بطريقة حادة.

ولا شك في أنّ هناك العديد من الأفكار والآليات التي يتم طرحها في إطار مواجهة التطرف الديني، لكن سؤالنا هنا: هل لثقافة الإبداع دور في ذلك؟

الدكتور شاكر عبد الحميد: هكذا ينقسم العالم إلى أنا وآخر؛ عالم من ليس معي فهو ضدي

ثقافتا التطرف والإبداع

التطرف لغوياً يعني "دفع أيّ شيء نحو حدوده أو أطرافه القصوى"، ويعرف كمفهوم بأنّه "مجموعة من المعتقدات والاتجاهات والمشاعر والأفعال ذات الطبيعة البعيدة عن الحد المعتدل أو العادي"، والتطرف يُعدّ نتاجاً للتصلب والجمود، فجوهر التصلب والجمود هو مقاومة التغيير والخوف من كل شيء جديد وغريب وغير مألوف، ويعرّف الدكتور شاكر عبد الحميد في كتابه "التفسير النفسي للتطرف والإرهاب" التصلب بأنّه "العجز النسبي عن تغيير الشخص لسلوكه أو اتجاهاته عندما تتطلب الظروف الموضوعية ذلك والتمسك بطرائق غير ملائمة للسلوك والشعور"، وينتج عن ذلك التصلب بعض الآثار التي تمثل جوهر التطرف مثل؛ الاعتقاد بامتلاك الصواب المطلق وتقسيم العالم إلى "الأنا" و "الآخر"، فينظر الشخص إلى نفسه أو إلى الجماعة التي ينتمي إليها على أنّها هي التي تمثل الحق وتملك الصواب في مقابل الآخر الذي يملك الخطأ أو الباطل، وبالتالي يتحول الخلاف إلى عداء وصراع، وتترسخ مشاعر الكراهية والحذر تجاه الآخر والرغبة في القضاء عليه، ومن آثار التصلب أيضاً التمسك بالرأي والانغلاق على الذات وغياب روح التسامح وتقبل الاختلاف، يقول الدكتور عبد الحميد: "هكذا ينقسم العالم إلى أنا وآخر؛ عالم من ليس معي فهو ضدي، ومن هو ضدي ينبغي التخلص منه أو على الأقل إرهابه، وغالباً ما يعتقد أعضاء هذه الجماعات أنّهم على حق وأنّ قضيتهم عادلة، وأنّ الله يقف في صفهم، كما أنّهم يكونون على قناعة بأنّ أيّ فعل يقومون به، مهما كان عليه من ضرر أو إيذاء، هو فعل مبرر ومطلوب ومثاب في الدنيا والآخرة"، ومن آثار التصلب التي تمثل جوهر التطرف كذلك ازدواجية المعايير في الحكم على المواقف والأفكار والأشخاص، والعمل على تخويف وإرهاب الخصوم معنوياً، واستخدام الشعارات والعبارات الرنانة والبعد عن التفكير المنطقي.

لم تعد ظاهرة التطرف الديني قاصرة على بعض الجماعات الدينية، لكنّها صارت أوسع نطاقاً بحيث تشمل شرائح كثيرة من الأفراد غير المنتمين لجماعات أو تنظيمات

بينما الإبداع هو إنتاج شيء جديد مفيد للمجتمع، فهو عملية تتضمن عدة مهارات وعمليات فرعية منها التفكير والتحليل والإدراك والخيال والنقد، وهو عملية شاملة لمختلف مجالات الحياة والنشاط الإنساني من الاختراعات والابتكارات العلمية في كل فروع العلم، والأعمال الفنية والأدبية، والعلاقات الإنسانية. وتختلف ثقافة الإبداع عن ثقافة التطرف بشكل جذري، ويحدد الدكتور شاكر عبد الحميد بعض الفروق بين الثقافتين، ومنها أنّ ثقافة الإبداع تمثل تفكيراً في نسق مفتوح يهتم بالتعدد والتنوع والكثرة والاختلاف ووجود أكثر من إجابة على السؤال الواحد وأكثر من حل للمشكلة، بينما التطرف يمثل تفكيراً في نسق مغلق قائم على النمطية والتكرار والأفكار الجاهزة التي يتم غرسها بالتلقين والإجابات القطعية التي لا تحتمل الشك، كما أنّ ثقافة الإبداع تهتم بالمستقبل وتركز عليه بينما ثقافة التطرف تنغلق على الماضي وترفض الخروج من إطاره، أيضاً الإبداع يشجع على التمرد الإيجابي بينما التطرف يعزز التبعية والسمع والطاعة، كذلك تقوم ثقافة الإبداع على المصارحة والاعتراف بالأخطاء والتصحيح الذاتي، بينما ثقافة التطرف تقوم على الإنكار ونسبة الخطأ إلى عوامل خارجية، ممّا يؤدي إلى الجمود ورفض تغيير القناعات وغياب ثقافة النقد الذاتي، أيضاً فإنّ جوهر ثقافة الإبداع هو المرونة، ولذلك فهو يساهم في تطوير الإنسانية وتقدمها من خلال الخلق والابتكار والقدرة على التغيير والرغبة فيه، بينما جوهر ثقافة التطرف هو الجمود، ولذلك فهو يساهم في تجميد المجتمعات وإدخالها في صراعات دائرية.

الإبداع في مواجهة التطرف

من خلال المقارنة السابقة يتضح أنّ كلّاً من ثقافة الإبداع وثقافة التطرف نقيضان لا يجتمعان لدى شخص واحد، فكلٌّ منهما يقوم على مرتكزات مختلفة ويخلق في الشخص سمات ينتج عنها قناعات وطريقة تفكير ونظرة إلى الواقع مختلفة بشكل جذري؛ وبالتالي فإنّ من أهم آليات مواجهة ظاهرة التطرف هي تنمية وتعزيز القدرات والمهارات الإبداعية لدى الأفراد في المجتمع، وتشجيع الأعمال الإبداعية المفيدة في كل المجالات سواء في العلوم بفروعها الطبيعية والإنسانية، وفي الفنون والآداب بأنواعها، حتى يمكنها ملء المساحة التي يشغلها الفكر المتطرف وإحداث تغيير حقيقي في المجتمع، ويوضح الدكتور شاكر عبد الحميد في كتابه بعض الآليات التي تساهم في ذلك، ويرى "ضرورة تعديل الخطط والبرامج الدراسية مع التركيز على موضوعات متعلقة بالقيم الإنسانية والتربية عن طريق الفن وتنمية الخيال... إلخ، وتنمية أساليب التفكير ومهاراته (الناقد، الإبداعي، اتخاذ القرارات، حل المشكلات، الذكاء العاطفي)، وتشجيع الاستخدام للاستراتيجيات الإيجابية، وإعادة صياغة المشكلة بطريقة إيجابية، وليس الإنكار أو الانفصال أو التركيز على عوامل خارجية، والبحث عن وسائل تبعد الأفراد، من خلال التربية والتعليم وغيرهما، عن الوقوع في براثن النمطية والتكرار والاجترار والتشابه والتفكير الدائري، مع التأكيد على أهمية الاهتمام بالتعدد والتنوع والكثرة والاختلاف".

مواضيع ذات صلة:

هل يمكن أن يكون التطرف عدوّاً مخفيّاً؟ وكيف تتسلّل الكراهية للثقافة والتعليم؟

منابع التطرف الثقافية.. عندما يتحول العنف إلى فولكلور قاتم

معضلة التطرف العنيف بين السياقات المحلية والتفاعلات الإقليمية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية