سعيد ناشيد
بخلاف الوظيفة العقلانية للسياسة (التحكم في الانفعالات)، وبخلاف الوظيفة الاجتماعية للسياسة (تدبير العيش المشترك)، وبخلاف الوظيفة الأخلاقية للسياسة (حفظ السلم الأهلي)، بخلاف كل تلك الوظائف النبيلة للسياسة، فقد رفع الإسلام السياسي شعارات مضادة سرعان ما دمرت مقاصد السياسة، ولم تترك منها شيئا غير فتنة تنام حينا وتصحو أحيانا. تحيل تلك الشعارات في مجملها إلى الجهاز المفاهيمي لفقه عصر التوسعات الإمبراطورية، من قبيل مفاهيم التدافع، والاحتراب، والغلبة، والتمكين، وأهل الذمة، ودار الحرب، وغير ذلك.
اتخذ الأمر -كما في غالب الأحيان- شكل خطابات غوغائية صاخبة لغاية ابتزاز السياسيين، وإحراج المثقفين، وتهييج المؤمنين، واستقطاب أصوات الناخبين. بل تعلق الأمر على الأرجح بالعديد من الخدائع المؤسِّسة لأيديولوجية الإسلام السياسي، بكافة ألوانه وأطيافه.
من بين الخدائع المشهورة خديعة أن المسلمين تخلفوا بعد أن تخلوا عن نظام الخلافة، فتركوا “حُكم الإسلام”، واستوردوا نظما غربية.
يستند هذا الادعاء إلى ثلاثة منطلقات كاذبة منطقيا، ومخادعة سياسيا: منطلق أن المسلمين تخلفوا بعد أن تركوا الخلافة؛ منطلق أن الخلافة تعني حكم الإسلام؛ ومنطلق أن الحكم يجب أن يقوم على أساس مرجعية دينية، هي الإسلام على وجه التحديد.
المنطلق الأول، والقائل بأن المسلمين تخلفوا لأنهم تركوا الخلافة؛ قد تظهر تلك العبارة كما لو أنها بديهية في زحمة الخلافات الهائجة. فظاهر الأمور قد يوحي أحيانا بأن المسلمين كانوا أقوياء عندما عاشوا تحت لواء الخلافة آمنين منعمين، ولقد امتدّ حكمهم من جنوب شرق آسيا إلى المغرب الأقصى. وكان يكفي أن تصرخ امرأة، وامعتصماه، حتى تصهل خيول الفتح مجددا لكن بعد أن قرر مصطفى كمال أتاتورك إلغاء الخلافة أصبح حال الشعوب ذات الغالبية المسلمة من سيّء إلى أسوأ.
ظاهريا تبدو المعادلة صحيحة، فبعد أن فرط المسلمون في لواء الخلافة، والذي هو لواء الجهاد أيضا، أصابهم الضعف والوهن، لكن يكفي أن نتنازل عن شيء من الحماسة الزائدة حتى نكتشف بأن المعادلة خاطئة بنحو واضح وصريح.
أولا، منذ انهيار الخلافة وإلى غاية اليوم، لم تكن تركيا دولة واهنة وضعيفة، بل استطاعت في ظرف وجيز أن تنتقل إلى دولة صناعية حديثة. والمؤكد أيضا أن سياسة “صفر عدو” التي استثمرتها حكومة “حزب العدالة والتنمية” في بداية عهدها، كانت ثمرة العلمانية التركية نفسها والتي طوت صفحة “الفتوحات العثمانية”، ومنعت الجيش من التورط في أي حرب إقليمية جديدة. لذلك، ليس مستغربا أن يعود الجيش التركي اليوم إلى ممارسة الغزوات العسكرية العنيفة بالموازاة مع تدهور جودة العلمانية.
ثانيا، إندونيسيا، وهي أكبر بلد ذي غالبية مسلمة، لم تعد اليوم بلدا ضعيفا وواهنا كما كانت في الماضي القريب وفي الماضي البعيد على حد سواء. بل إلى حدود مئة عام مضت أو يزيد عنها قليلا، كانت إندونيسيا لا تزال عبارة عن أرخبيل من الشعوب والقبائل البدائية وشبه البدائية. وبفضل القيم الوطنية والعلمانية ومبادئ الدستور الحديثة التي تمّ إرساؤها في عهد الرئيس المؤسس أحمد سوكارنو، نجحت إندونيسيا في اختبار بناء دولة صناعية حديثة، مع الحفاظ على التنوع الديني والثقافي واللغوي الذي تتمتع به.
ثالثا، لقد بدأ دخول العالم الإسلامي إلى عصور الانحطاط قبل قرون طويلة من إلغاء الخلافة. بل كانت فترة الخلافة العثمانية نفسها تُعتبر بالنسبة للعالم الإسلامي جزءا من مرحلة الانحطاط في الفكر والثقافة والعلم والفنون الجميلة، وهو ما يفسر مقاومة الشعوب العربية والكردية والأمازيغية للاحتلال العثماني من الشام إلى الخليج وشمال أفريقيا، وبنحو ساهم في انهيار الإمبراطورية العثمانية.
رابعا، لقد نجحت إسبانيا في استعادة منطقة الأندلس، وكانت الخلافة الإسلامية حينها لا تزال قائمة راسخة. لكن عندما سقطت الخلافة في المشرق كانت الأندلس الإسبانية تتفوق حضاريا على كل مناطق العالم الإسلامي.
أما المنطلق الثاني، وهو فكرة أن التخلي عن الخلافة يعني التخلي عن حكم الإسلام، فإن من بديهيات الإسلام السني، أن الخلافة لم ترد بالنص ولا بالوصية، لكنها مجرد اجتهاد بشري نسبي قام به صحابة النبي عقب وفاته. ولا يخفى أن المصطلح نفسه قد تم التوافق عليه في سياق اجتهاد تاريخي طويل الأمد. إذ سمي أبوبكر “خليفة رسول الله”، ولما مات قالوا، لا يمكننا أن نقول “خليفة خليفة رسول الله”، فأطلقوا على عمر بن الخطاب لقب أمير المؤمنين. وهو اللقب الذي استمر إلى غاية فترة ولاية علي بن أبي طالب. ثم عاد مصطلح الخليفة مع معاوية لكي يعني بادئ الأمر “خليفة المسلمين”، ثم لكي يعني في الأخير “خليفة الله”. وهي الدلالة التي استمرت إلى غاية آخر خلفاء بني عثمان في القرن العشرين.
مسألة الخلافة لا علاقة لها بالدين، بل تبقى مسائل الحكم برمتها في الإسلام من المصالح المفوضة لنظر الناس.
المنطلق الثالث، والقائل بأن السياسة يجب أن تقوم على مرجعية دينية إسلامية، وذلك لعدة دعاوى، من بينها أن الأحزاب الدينية كسائر الأحزاب يحق لها أن تقدم نفسها بمرجعية إسلامية كما تقدّم باقي الأحزاب نفسها بمرجعيات أخرى ( قومية، ماركسية، ليبرالية، إلخ.)، ومن بين الدعاوى كذلك أن بعض الدول الأوروبية تضمّ أحزابا تسمي نفسها بالأحزاب المسيحية. فهل الأمر حلال عليهم حرام علينا؟
غير أن واقع الحال يفنّد هذه الادعاءات جملة وتفصيلا. إذ يقوم العمل الحزبي على احترام القانون الوضعي للدولة، ويقوم البرنامج الحزبي على أساس السعي إلى تحقيق العيش الكريم للمواطنين، وتحسين سائر الخدمات الاجتماعية، وتوفير مناصب الشغل، وحماية المال العام.
عن "العرب" اللندنية