لم تسلم الساحة الموريتانية من رياح المشروع الإخواني التي هبّت على المنطقة العربية خلال العقود الأخيرة، بل شملت حتى الدول الأوروبية والأمريكية.
صحيح أنّه كانت هناك تيارات إسلامية أخرى موازية، من قبيل التيار السلفي أو ظاهرة "التطرف العنيف"، ولكن مشروع هؤلاء مختلف عن مشروع التيار الإخواني، رغم وجود بعض التقاطعات بين مُجمل هذه المشاريع، إلا أنّ ميزة العمل الإخواني أنّه ينتصر للأفق السياسي من أجل الظفر بزمام السلطة، وبالتالي الظفر بزمام الحكم، بخلاف الأمر مع الهواجس العقدية عند التيار السلفي، أو هواجس الفوضى المفتوحة عند الجماعات القتالية أو الجهادية.
اقرأ أيضاً: الإخوان المسلمون في موريتانيا... الشبكة السرية
يمكن حصر معالم المشروع الإخواني الموريتاني في تنظيم مركزي، مع الأخذ بعين الاعتبار تقاطعات العمل السياسي والعمل الاجتماعي والعمل الديني للتنظيمين على غرار ما نعاين في تجارب إخوانية عربية، وإن كان الحضور الإخواني الموريتاني مايزال في بداياته التنظيمية مقارنة مع نظيره المغاربي بشكل عام، وخاصة مقارنة مع نظريه المغربي والتونسي.
يتعلق الأمر بحزب "التجمع الوطني للإصلاح والتنمية"، الذي يُعرف إعلامياً بحزب "تواصل"، الذي تمَّ الإعلان عنه رسمياً في آب (أغسطس) 2007، حيث انضم إليه منذ تلك الحقبة حتى مطلع العام الحالي حوالي 100 ألف عضو حسب تقارير محلية؛ وبخلاف أداء باقي إخوان منطقة المغرب العربي في موضوع استقطاب أعضاء المشروع، استغل حزب "تواصل" المرجعية الصوفية لنسبة من ساكنة موريتانيا، موازاة مع الاستفادة من تواضع أداء الحكومات الموريتانية في تدبير كبرى قضايا الشأن العام، وبالتحديد الأخطاء المرتبطة بقطاعات الاقتصاد والاجتماع والسياسة.
الحضور الإخواني الموريتاني مايزال في بداياته التنظيمية مقارنة مع نظيره المغاربي بشكل عام
عملياً، يُعتبر حزب "تواصل" الذراع السياسي للمشروع الإخواني في موريتانيا؛ ويُجسّدُ هذا الذراع في "مركز تكوين العلماء"، حتى إنّ للحزب صلات مباشرة مع هذه المؤسسة التي تعتبر المنبر الذي يطل منه القيادات الإخوانية، على اعتبار أنّ أغلبهم يتبادلون الخطابة، ويمارسون ما يُشبه الوصاية على أوضاع المساجد، كما يُعدّ المركز المعني المقام الأكثر جاذبية للأنشطة الإخوانية؛ لأنّه يحتضن اللقاءات الخاصة برسم السياسات ووضع الخطط التي تساهم في خدمة المشروع، عبر بوابة الانتشار والاستقطاب.
اقرأ أيضاً: تركيا تتمدد في أفريقيا عبر موريتانيا تحت عباءة الاستثمار
وكما نعاين في أغلب دول المنطقة العربية التي يتواجد فيها المشروع الإخواني، والذي يشتغل إما بشكل عَلَني معترف به أو بشكل غير مباشر، أو عبر بوابة التغلغل في مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني، فإنّ إحدى خاصيات المشروع، أنه يشتغل بمنطق الشبكة التي تهدف إلى الحضور في عدة جبهات، سياسية ودينية وثقافية وإعلامية وغيرها. وفي الحالة الموريتانية، نعاين حضور المشروع الإخواني عبر البوابة السياسية سالفة الذكر، والبوابة الاقتصادية والخيرية والدعوية، ضمن بوابات أخرى.
منعطف "الفوضى الخلاقة"
كانت أحداث "الفوضى الخلاقة" أو "الربيع العربي" [2011 ــ 2013]، محطة مفصلية لكشف طبيعة المشروع الإخواني في المنطقة العربية، ومنها المشروع ذاته في موريتانيا، والذي على غرار نهل باقي الفروع الإخوانية العربية من هاجس البرجماتية، فقد تناغم الإسلاميون في موريتانيا مع موجة "الفوضى الخلاقة"، وتحالفوا مع تيارات سياسية معارضة بهدف إسقاط الحكم، لولا أنّ التحالف كان مصيره الفشل بسبب تضافر عدة عوامل، وفي مقدمتها انعدام الثقة بين أطراف المعارضة فيما بينها، التصدي الميداني لصناع القرار، أو توجس الشارع من خيار الفوضى والعنف بسبب دروس أحداث بلدان أخرى، وخاصة الأحداث التي جرت في ليبيا ومصر.
مما يُلاحظ في أداء فرع تنظيم الإخوان في موريتانيا، أنه يحذو السياق التاريخي الذي مضى فيه التنظيم "الأم" في مصر، بل تشبه ممارسات فرع الجماعة في موريتانيا ما قامت به نظيرتها في مصر قبل 25 يناير 2011، ليس فقط في خططها التي منيت عملياً بالفشل، بل في الممارسة والسلوك السياسي والديني. ففي الانتخابات الأخيرة؛ أي الانتخابات التشريعية والجهوية والبلدية التي شهدتها موريتانيا، بين أيلول (سبتمبر) 2018 وحزيران (يونيو) 2019، لم تتردد الجماعة في استعراض قوتها، عبر عدة محطات ميدانية، في العمل الأهلي والعمل التطوعي وحتى في تمويل هذه المبادرات.
ابتداءً من 2007 ثمة حضور انتخابي وسياسي إخواني لافت في موريتانيا تراجعَ بعد عقد
سوف تكون هذه المواقف الإخوانية الصريحة ضد السلطة مناسبة لكي يُعاين الرأي العام المحلي والإقليمي سابقة في سياق تعامل صناع القرار مع المشروع الإخواني، والذي كان يُسمح له بالعمل الميداني، بما في ذلك العمل داخل مؤسسات الدولة، وإن لجأت السلطة إلى بعض التضييق بين الفينة والأخرى، ولكن ما جرى من ممارسات إخوانية بين انتخابات أيلول (سبتمبر) 2018 وحزيران (يونيو) 2019، عَجل بتلك السابقة، عندما هاجم الرئيس الموريتاني حينها، محمد ولد العزيز، جناح الإخوان في بلاده، ووصفهم بالمتطرفين، بل حذّر الرأي العام من خطر هذه الحركات، معتبراً أنهم "يتلبسون بالإسلام للوصول إلى أهدافهم نحو السلطة، عبر ترويج بعض الأفكار وإثارة بعض النعرات"، معتبراً أنّ "أحزاباً سياسيةً تعتنق هذا الفكر خرّبت البلدان العربية وفككتها، داعياً إلى سد الباب" أمام هؤلاء.
اقرأ أيضاً: الخريطة الإخوانية في موريتانيا.. براغماتية المكاسب
ولكن إجمالاً، في قراءة للأداء السياسي لإخوان موريتانيا، وخاصة في فترة 2019-2021، اتضح أنّ الاستحقاقات الانتخابية، والمناسبات السياسية اللاحقة، رسمت حداً فاصلاً بين واقعين للإخوان في البلاد، بين حضور لافت ابتداءً من 2007، وتراجع الحضور نفسه بعد عقد تقريباً، مع تشدد مقاربة السلطة في التصدي لأهداف المشروع.
تتهم الحكومة الموريتانية المركز الذي يترأسه القيادي محمد الحسن ولد الددو ببث خطابات الكراهية
بالنسبة للأداء الاقتصادي للمشروع الإخواني، فإنّ الدوائر الحكومية تتهمه بالحصول على تمويلات خارجية تحت مسميات دعم النشاط الأهلي وعمل المجتمع المدني، حيث يُسيطر التنظيم على ميزانيات وازنة ترتبط بالعديد من المجالات التجارية مثل الاستثمار في إنتاج وبيع الأدوية، ومحطات البنزين، ومحلات بيع الملابس والمواد الغذائية ووكالات بيع وتأجير السيارات إضافة إلى مراكز بيع العملات الأجنبية.
وفي الشق الاقتصادي المرتبط تحديداً بالشق الديني والاجتماعي، أصبح جزءٌ من زكاة المنتسبين، خصوصاً الزكاة الصادرة عن كبار التجار، يُوجه إلى تمويل الحزب بدل صرفها على المعنيين بها، إضافة إلى أنّ زعيم الإخوان في موريتانيا يحمل رتبة قيادية، مستعيناً بقيادات أخرى في هذا السياق، من قبيل: "أمين سر الحركة"، و"رئيس لجنة الاكتتاب"، و"مسؤول الهيكلة"، و"رئيس لجنة المناسبات"، و"المسؤول المالي"، و"رئيس لجنة استقبال الضيوف"، كما أنّ رئيس الحزب الإخواني الموريتاني يُباشر تسيير المنظمات النقابية التابعة للتنظيم، منها نقابات طلابية وعمالية، إضافة إلى هيئات موازية، منها "مركز شنقيط للمالية الإسلامية".
يعتمد الإخوان في موريتانيا على "مركز تكوين العلماء" لإعداد الكوادر من العلماء الدينيين
نأتي للجناح الديني، حيث يعتمد الإخوان في موريتانيا على "مركز تكوين العلماء" لإعداد الكوادر من العلماء الدينيين، وتأسّس المركز في العام 2007، وسبق للداعية يوسف القرضاوي، أن زار المركز في العام 2010. وتتهم الحكومة الموريتانية المركز الذي يترأسه القيادي محمد الحسن ولد الددو ببث خطابات الكراهية.
ومحمد الحسن ولد الددو، للتذكير، هو الذي انتُخب رئيساً منذ سنوات لـ"منتدى لمنظمات وجمعيات العمل الإسلامي الوسطي في غرب وشمال أفريقيا"، الذي نُظم أول دورة له بموريتانيا، وتحيل لائحة الجمعيات والحركات المشاركة في هذا المنتدى على الأفق الإخواني للمشروع، على اعتبار أنّ أغلبها ينتمي إلى المشروع الإخواني أو محسوب عليه. كما يمتلك المشروع الإخواني في موريتانيا، جامعة عبد الله بن ياسين التي يديرها محمد الحسن الددو، في سياق الاشتغال على الواجهة البحثية.
حملات الحكومة الموريتانية كشفت تواضع دعاية وتأثير المشروع الإخواني في الساحة
أما النشاط الخيري والاجتماعي، فإنّ الذراع الحزبي للمشروع يعتمد في دعم هذه الأنشطة على جمعية "المستقبل للدعوة والتربية والثقافة"، والتي تمثل الذراع الاجتماعي والخيري للحزب. وقد صدرت اتهامات رسمية في أكثر من مناسبة عن الحكومة الموريتانية ضد إخوان موريتانيا بمحاولة استغلال التراخيص الممنوحة للجمعيات والتنظيمات الخيرية التابعة لحزب "تواصل" لتسهيل الحصول على المساعدات والتمويلات الخارجية بهدف دعم أجندته السياسية. وبسبب ارتباطات الجمعية بالمشروع الإخواني، ووجود علامات استفهام حول مآل تلك الارتباطات، أغلقت الحكومة الموريتانية جمعية "المستقبل"، وصادرت ممتلكاتها، كما أغلقت الجهات الأمنية مستشفى "النور"، ومعهد "تكوين البنات"، التابعَين للجمعية.
هناك أيضاً المنظومة الدعائية، حيث يُعتبر التنظيم المنظومة الإعلامية أحد أهم الأسلحة التي يمكن أن يتكئ عليها لمواجهة السياسات الحكومية المضادة لأنشطته، ويملك المشروع مجموعة من المنصات الإلكترونية والمنابر الإسلامية، من قبيل "الأخبار" و"السراج". وتتبنى هذه المنصات الإعلامية سياسة نقدية أو معادية للنظام الموريتاني، خاصة في معرض التفاعل مع قضايا المنطقة، وفي مقدمتها القضايا الدينية والسياسية التي تتميز بحضور الورقة الإسلاموية. كما يمتلك المشروع قناة تليفزيونية لتسويق برامجه.
حملات استباقية ضد المشروع
أخذاً بعين الاعتبار تفرعات المشروع وأهدافه وما صدر عنه خلال حقبة ما بعد كانون الثاني (يناير) 2011، فالأحرى ما صدر عنه في بعض المحطات الانتخابية وتبعات الارتباطات الخارجية، فقد شرعت السلطات الموريتانية منذ نهاية العام 2018 حتى منتصف 2019، في تبني مقاربة استباقية ضد أهداف المشروع، من قبيل التصدي لمصادر تمويل الإخوان، أو اللجوء إلى ورقة "الضغط الضريبي" على بعض المؤسسات التجارية التابعة للجماعة، ضمن مبادرات أخرى، بهدف تطويق أنشطة الأداء الإخواني، بل وصل الأمر إلى صدور اتهامات تلاحقه بالتحريض على العنف ونشر التطرف، وتهديد أمن البلاد، وتضمنت هذه الإجراءات لائحة من القرارات، من قبيل إغلاق "مركز تكوين العلماء" وسحب ترخيص جامعة عبد الله بن ياسين التي يديرها محمد الحسن الددو، كما رفضت الحكومة منح التراخيص لأنشطة التنظيم الدعائية، ومن ذلك رفض طلب حصول التنظيم للحصول على ترخيص بتأسيس إذاعة للقرآن الكريم.
وتمَّ أيضاً إغلاق جمعية "الخير"، وفرع "الندوة العالمية للشباب الإسلامي"، ويتعلق الأمر بجمعيتين من الجمعيات المحسوبة على المشروع، بتهمة خرق قانون تسيير الجمعيات في جوانب التمويل، وتسيير أموال الجمعية، واستخدامها، وغياب التصريح بمصادر التمويل، وكيفية صرف الأموال.
ساهمت هذه الحملات الرسمية الصادرة عن الحكومة الموريتانية في الكشف عن تواضع دعاية وتأثير المشروع الإخواني في الساحة، إضافة إلى أنّها غذّت معضلة الانشقاقات والتناقضات داخل المشروع، مما كرّس حالة انعزالية مجتمعية محلية، تزامناً مع حالات الانعزالية ذاتها التي تمر منها باقي المشاريع الإخوانية في شمال أفريقيا بشكل عام.