المسيح ثائراً

المسيح ثائراً


01/10/2018

رَسَخَتْ في أذهان العامة من الناس صورةٌ نَمَطِيَّةٌ عن المسيح كشَخْصٍ مُسالِم على الدوام، والمسيحية كَدِيانة خُنوع وذِلَّةٍ، بِحَيْثُ أصْبَحَ من المُسَلَّمِ به لدى المُواطِنِ العَرَبِيِّ سواء كان مُسْلِماً أو غَيْرَ مُسْلِمٍ أنّ المسيحيين أينما كانوا هم موالون للنظام الحاكم كيفما كان: ديمقراطياً، أو مستبداً، إمبراطورياً، أو جمهورياً، فهم لا حَوْلَ لهم ولا قوة، ولا دخل لهم بالشَأْنِ الداخليِّ. حتى بَلَغَ الأمرُ بالقَوْلِ لدى البَعْضِ إنه لا يَحِقُّ لَهُم أن يُدافِعوا عن حُقوقِهم وأوْطانِهِمْ، وذلك استناداً للنَصِّ الإنْجيليِّ التالي:

المسيح جعل من التسامح قاعدَةً رئيسيةً للتعامُلِ مع الآخر، إلا أنّ هذه القاعدة لا تَنْسَحِبُ على كُلِّ الظروف

"مت-5-38: سمعتم أنه قيل: عين بعين وسن بسن.

مت-5-39: وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضاً".

"مت-5-40: ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً.

مت-5-41: ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين.

مت-5-42: من سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده."

وقولِ بولس الرسول :

"رو-13-1 ليخضع كل امرئ للسلطات التي بأيديها الأمر، فلا سلطة إلا من عند الله، والسلطات القائمة هو الذي أقامها.

رو-13-2: فمن عارض السلطة قاوم النظام الذي أراده الله، والمقاومون يجلبون الحكم على أنفسهم.

اقرأ أيضاً: "المسيح الأسمر" في مواجهة عنصرية الرجل الأبيض

رو-13-3: فلا خوف من الرؤساء عندما يفعل الخير، بل عندما يفعل الشر. أتريد ألا تخاف السلطة؟ افعل الخير تنل ثناءها، رو-13-4: فإنها في خدمة الله في سبيل خيرك. ولكن خف إذا فعلت الشر، فإنها لم تتقلد السيف عبثاً، لأنها في خدمة الله كيما تنتقم لغضبه من فاعل الشر.

رو-13-5: ولذلك لابد من الخضوع، لا خوفاً من الغضب فقط، بل مراعاة للضمير أيضاً.

رو-13-6: ولذلك تؤدون الضرائب، والذين يحبونها هم خدم لله يعملون ذلك بنشاط.

رو-13-7: أدوا لكل حقه: الضريبة لمن له الضريبة، والخراج لمن له الخراج، والمهابة لمن له المهابة، والإكرام لمن له الإكرام."

اقرأ أيضاً: "المسيح ميتاً".. قصة لوحة سحقت دوستويفسكي

ولَعَلَّ النَصَّ الأخيرَ هو الأشْهَرُ في التاريخِ المسيحي، والذي تم استخدامُهُ من قِبَلِ الحُكّامِ في أوروبا فيما يُعْرَفُ بِنَظَرِيَّةِ (الحَق الإلهي) في الحُكْمِ، وقد استمرَّ العَمَلُ بهذه النظرية حتى اندلاعِ الثورة الفرنسية، وقيام عدة فلاسفة، وعلى رأسهم الفيلسوفُ الإنجليزي جون لوك الذي قام بنقد هذه النظرية بِشَكْلٍ مُوَسّع. إلا أنّ الفَلْسَفِةَ السائِدَةِ لِفَهْمِ النَصِّ بِحَسَبِ قراءة العُصورِ الوُسْطي ظَلَّ مُتَجّذِّرًا في عَقْلِيَّةِ القِياداتِ الكَنَسِيَّةِ في الشَرْقِ، فَظَلَّت الكَنيسَةُ مُرْتَبِطَةً بالنظام ارتباطاً مباشراً بِمُقْتَضى قَوانينَ بُروتوكولِيَّةٍ، وعُرْفِيَّةٍ، ومَدَنِيَّةٍ أكثرَ من ارتباطها بروح النُصوصِ الدينية التي تَتْبَعُ لها، وهي بذلك لا تُعَبِّرُ عن روحِ الرِسالَةِ المسيحية الحَقَّةِ التي جاء بها المَسيحُ لِيُغَيِّرَ المفاهيم التقليدية ويَثورَ على الظُلْمِ والاستبداد.

اقرأ أيضاً: هدية من مدرس مسيحي

وللرَدِّ على المُتَمَتْرِسينَ خَلْفَ دَعْوى الخُنوعِ، وعَدَمِ جَوازِ قِيامِ المَسيحيينَ بالمشاركةِ في الثَوراتِ الشَعْبِيَّةِ والوَطَنِيَّةِ، بِحُجَّةِ قولِ المسيح: "لا تقاوموا الشر"، فالقَوْلُ يُمَثِّلُ القاعِدَةَ العامَّةَ التي يَنْبَغي أن تَسودَ في حياةِ الفرد، وهي أن يكونَ مُتَسامِحاً، وأن لا يُبادِلَ سوءَ التَعامُلِ بمثله، فهناكَ طُرُقٌ أُخْرى للتعاملِ مع سوءِ التَعامُلِ. ومَنْطِقُ المَسيحِ بِحَدِّ ذاتِهِ يُمَثِّلُ ثورَةً على الأسلوب القديم المُتَّبَعِ بالرَدِّ على العُدْوانِ والخَطَأِ بالمثل. فَعِبارَةُ "لا تقاوموا الشر" لا تَعْني البَتَّة أن يُتْرَكَ الشَرُّ كي يَدْخُلَ حَياةَ المُؤمِنينَ حتى يَعيثَ فَساداً، وإنما عليهِمْ أن لا يُقاوموا الشَرَّ بالشر، فإن جاءَ أحَدٌ وارتَكَبَ قُبْحاً بحقِّهِ، فعليهِ أن يَتَسامَحَ معه بأن يَجِدَ طَريقةً غيرَ قَبيحِةٍ للتَعامِلِ معه، وأُسْلوباً جَديداً مُغايراً لمَبْدَأ "العين يالعين والسن بالسن"، لا أنْ يُبادَلَهُ القُبْحَ بالقُبْح، وأنْ لا تَكونَ للثَأْرِ مَكانَةٌ في حَياتِهِ.

اقرأ أيضاً: المسيحيون في الإمارات.. حرية في العبادة تكفلها القوانين وترعاها الدولة

وعن دَعْوَةِ بولسَ الرَسولِ الخُضوعَ للرِئاسات كَوْنَها من عند الله، فهذه الدعوةُ تُمَثِّلُ تَرْسيخاً للفكرةِ القائِلَةِ إنّ اللهَ ضَمنَ تَرْتيبِهِ قد جَعَلَ منذُ البدءِ ميلاً لدى الناس لإيجاد قادَةٍ لهم أينما كانوا. فَوُجودُ القادَةِ هو أمْرٌ طَبيعي، وإنه من البَديهَةِ الخُضوع لهذه الرئاسات، إذ أنَّ هذا هو القانونُ الإلهي الطَبيعي المَزْروعُ في العالَمِ المادي.

وأما قولُهُ بأنَّ "من عارض السلطة قاوم النظام الذي أراده الله"، فَتُفَسِّرُهُ الآية التالِيِةُ وهي: "فلا خوف من الرؤساء عندما يُفعل الخير، بل عندما يُفعل الشر. أتريد ألا تخاف السلطة؟ افعل الخير تنل ثناءه" .. أي أنه عندما تَتَّبَعُ القوانينُ لن يَقومَ أحَدٌ بالتَّعَدِّي على الإنسان، وإنما يَحْدُثُ ذلك عِنْدَما تُخْرَقُ القوانينُ، لأنَّ السُلْطَةَ – بالمفهوم المجرد - هي في سبيل خَيْرِ المُواطِنِ، كما يَقولُ بولسُ في تتمة قوله.

اقرأ أيضاً: يا مسيحيي الشرق.. شكراً لكم

وعليه يَتَّضِحُ أنَّ بولس يَدْعو المسيحيينَ لاتباع الأنْظِمَةِ الحاكمة إذا كانت تَعْمَلُ لِخَيْرِ الإنسان، وأن لا يكونوا – أي المسيحيينَ - عامِلَ بَلْبَلَةٍ، فَهُمْ مُطالبونَ باتِّباعِ الحكام استناداً إلى قَوْلِ المسيح (أعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر) طالما كان الحاكِمُ يَعْمَلُ لِخَيْرِ الإنسان. فَالمسيحُ قد دَعا إلى طاعَةِ الله باتباع روحِ الشَريعَةِ القائِمَةِ على المحبة والأمانَةِ، وإلى طاعَةِ قَيْصَرَ الذي هو رومانيٌّ وَثَنيٌّ بِدَفْعِ الضَرائِبِ واستيفاءِ الجِزْيَةِ واتِّباعِهِ بشكلٍ قانوني.

اقرأ أيضاً: الفيلسوف المسيحي وشيخه المسلم!

ونسفًاً لِكُلِّ الادِعاءاتِ الإنجيلية المُضَلِّلَةِ لمن يريد أن يُثْبِتَ أنَّ المسيحيةَ هي ديانَةُ خُنوعٍ، وضَعْفٍ، ولا تُؤَيِّدُ التَغْييرَ والدِفاعَ عن الذاتِ، أقولُ بأنَّ القاعِدَةَ الرَئيسِيَّةَ التي يَنْبَغي على الفَرْدِ المَسيحِيِّ أن يَتَّبِعَها في سُلوكِه الشَخْصِيِّ هي التَحَلِّي بِخُلُقِ التسامح والفضيلة، فإذا أساء إليه أحَدٌ فَعليهِ ألا يَرُدَّ الإساءة بمثلها، وإن أرادَ أنْ يَخْدِمَ أحَدٌ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فليكن مُتَفانِياً بِخِدْمَتِهِ إلى أَبْعَدِ الحُدودِ. لكنَّ ذلك لا يعني أنه إذا أخطأ أحدٌ فيجبُ ألا تتم مقاضاتُهُ، وذلك تبعاً لقول المسيح الذي أثبت وُجوبَ اللُّجوءِ إلى القضاء حين قال:

" (مت-5-25: كن مراضياً لخصمك سريعاً ما دمت معه في الطريق، لئلا يسلمك الخصم إلى القاضي، ويسلمك القاضي إلى الشرطي، فتلقى في السجن)".

لكن ما لا ينبغي أن نفعله هو أن نرد الإساءة بمثلها، كأن يقوم شخصٌ بسرقة منزل فتكون ردة فعلنا أن نَسْطُوَ على منزله هو الآخر استناداً لمقولة (العين بالعين والسن بالسن).

القاعِدَة الرَئيسِيَّةَ التي يَنْبَغي على الفَرْدِ المَسيحِيِّ أن يَتَّبِعَها في سُلوكِه الشَخْصِيِّ هي التَحَلِّي بِخُلُقِ التسامح والفضيلة

كما أنه وتبعاً لتأكيد المسيح بأنه من القلب تخرجُ الأفكارُ الشريرة: قتل، زنى، فسق، سرقة، شهادة زور، تجديف. وإنَّ هذه هي التي تُنَجِّسُ الإنسانَ بحسب إنجيل متى 15 : 19 -20 ، فإنه بإمكاننا أن نتصور كيف للمسيحي أن تكون شهادَتُهُ بِحَقِّ رئيسٍ ظالم، فيما المسيحيونَ مُطالبونَ بشهادة الحق وتَجَنُّبِ شَهادة الزور! وحيث إنّهم إن شهدوا له يكونون شهود زور، فهل لنا أن نُثْنِيَ على هتلر أو نيرون؟ إنه لمن المستحيل، والحري بهم أن يشهدوا بالحق، وأن يقفوا في وجه أيٍّ كان من الرؤساء، كما وقف يوحنا المعمدان في وجه هيرودس، وانتهى به الأمر إلى فصلِ رأسِهِ عن جسده في سبيل شهادة الحق.

ينبغي ألا ننسى بأن نُفْرِدَ لمن يدعي بأنه لا ينبغي للمسيحيينَ أن يُدافعوا عن بلدانهم، ومُمْتَلكاتهم، وحُقوقهم المُغْتَصَبَةِ دَليلَنا الأهم وهو موقف المسيح حينما قام بتطهير الهيكل، إذ يروي الإنجيل :

"يو-2-13: وكان فصح اليهود قريباً، فصعد يسوع إلى أورشليم،

يو-2-14: فوجد في الهيكل باعة البقر والغنم والحمام والصيارفة جالسين،

يو-2-15: فصنع سَوْطًا من حبال، وطردهم جميعاً من الهيكل مع الغنم والبقر، ونثر دراهم الصيارفة وقلب طاولاتهم،

يو-2-16: وقال لباعة الحمام: إرفعوا هذا من ههنا، ولا تجعلوا من بيت أبي بيت تجارة".

مما سبَقَ يَتَّضِحُ أنّ المسيحَ قد جعل من التسامح قاعدَةً رئيسيةً للتعامُلِ مع الآخر، إلا أنّ هذه القاعدة لا تَنْسَحِبُ على كُلِّ الظروف. ففي الوقت الذي كان فيه المسيح يُدافع عن بيته كان هو ذاته يُشَرِّعُ للتابِعينَ حقاً لا لبس فيه أن يَقوموا بالدفاع عن بلدانِهِمْ بالكلمة وبالسلاح، كيلا يبقى حَرَجٌ على من يُدافِعُ عن حَقِّهِ وأرْضِهِ أينما كان، فهذا حَقٌّ مشروع، ولا يَحِقُّ بَعْدُ لأحدٍ أن يَسْلِبَهُ من المسيحيين على مر العصور في أي زمان وأي مكان.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية