الحديث عن العنف الأسري، ولا سيما الذي يمارسه الرجال على النساء، بات مألوفاً وسائداً في مختلف المجتمعات، المتقدمة منها والمتخلفة، تقابله حملات مناهضة خاصة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إذ نشهد بين الحين والآخر حملات إعلامية على جرائم الشرف أو على الاغتصاب والتحرش، وغيرها من مظاهر العنف، التي يبلغ بعضها مستوى الجريمة. وشاع كذلك الحديث عن حقوق الإنسان، في مختلف الأوساط الاجتماعية، وفي أوساط المتعلمين والمتعلمات بوجه خاص.
اقرأ أيضاً: النسويّة الإسلامية.. تطلّع نحو المساواة أم ضرورة سياسية؟
لكن من المستهجن أن يتحدث أحد عن عنف تمارسه نساء على رجال، وأن تتأسس جمعيات مدنية لمناهضة هذا النوع المستحدث منه، مع أنّ مناهضة العنف واجبة، من أي جهة أتى، سواء كان ضحاياه من النساء والأطفال أم من الرجال. صحيح أنّ تعنيف الرجال من النساء ليس ظاهرة معروفة، وليست موضوعاً لدراسات وبحوث وكتب أو لندوات ومؤتمرات، ولم يتعرض لها أحد بجدّية على مواقع التواصل الاجتماعي..، لكن الأرجح أنّها ظاهرة موجودة ومسكوت عنها، ولا بد من التساؤل عن الأسباب.
من المستهجن في مجتمعاتنا أن يتحدث أحد عن عنف تمارسه نساء على رجال
فوجئت وأنا أتابع برنامج حدث اليوم الإخباري على قناة العربية الحدث، بالحديث عن ظاهرة تعنيف الرجال في إقليم كردستان العراق، الذي كان سبّاقاً إلى تضمين مساواة النساء بالرجال في دستوره؛ فقد خرج الإقليم عن السائد والمألوف في هذا الشأن بإحداث منظمة مدنية تحمي الرجال من عنف النساء، هي منظمة "اتحاد رجال كردستان"، أُنشئت على خلفية العنف الأسري القائم على الرجل على حد قول رئيسها، برهان علي فرج.
يقول فرج في خبر منشور على صفحة العربية الحدث يوم الأحد 3/1/2021، إنّ العنف ضد الرجال في الإقليم المذكور، أدى إلى انتحار بعض الرجال وتفكير آخرين في ذلك، متابعاً أنّ بعض النساء قمن بطرد أزواجهن من المنازل والاستيلاء على مرتباتهم الشهرية، وقد أحال هذا العنف على نص الدستور الكردستاني في الإقليم الذي تتضمن الفقرة الثالثة من المادة 20 منه تساوي الرجال والنساء في الحقوق المدنية والسياسية وأمام القانون. ولكنّ المادتين الثالثة والرابعة من قانون الأحوال الشخصية المعدّل في عام 2008، تنصان على أنّ "نفقة الزوجة تجب على الزوج، وفي حال يسار الزوجة تكون المسؤولية مشتركة، إن رضيت بها"، و"تعتبر نفقة الزوجة غير المخلّة بالالتزامات الزوجية الواردة في هذا القانون ديناً في ذمة زوجها من وقت امتناع الزوج عن الإنفاق". لكن اللافت أنّ الدستور يساوي النساء بالرجال في الحقوق والواجبات، ولكن قانون الأحوال الشخصية ينقض هذه المساواة، ما يجعل القانون أقرب إلى التقاليد السائدة من الدستور.
اقرأ أيضاً: "النساء شقائق الرجال".. إقرار بالمساواة أم غلق لباب الاجتهاد؟
السؤال الذي يطرح نفسه هل التساوي بين الرجال والنساء يمكن أن يولد ظاهرة تعنيف الرجال؟ قبل الإجابة تجدر الإشارة إلى أنّ اضطهاد النساء وتعنيفهن على مر التاريخ، واقتصار الغزوات والحروب على الرجال، من الأسباب التي تجعل الحديث عن عنف نساء على رجال حديثاً مستهجناً، مع أنّ واقع الحال لا يبرئ النساء من العنف، لا على رجال ولا على نساء ولا على الأطفال خاصة، مع أنّ ملايين النساء شاركن في الحرب العالمية الثانية مقاتلات على جميع الجبهات.
فالمسألة ليست بالبساطة التي نتصورها، إنّها مسألة العنف بوجه عام، العنف الذي يهدر الكرامة الإنسانية للرجال والنساء؛ ومن ثم، إنّ هذه الظاهرة النادرة (هل هي نادرة حقاً؟) تستوجب البحث لا الاستهتار والإنكار، شأن بعض النسويات العربيات، اللاتي يتهجمن على الرجل لسبب أو لغير سبب، أو نفي العنف على الرجل كما فعلت إحدى الناشطات في حقوق الإنسان في الإقليم ذاته.
منظمة "اتحاد رجال كردستان" أُنشئت على خلفية العنف الأسري القائم على الرجل على حد قول رئيسها
لمقاربة السؤال المطروح، يُطرح سؤال آخر: هل كان عنف الرجال على النساء تعبيراً عن حريتهم المطلقة في التصرف بما يملكون؟ الجواب نعم، قد يكون الأمر كذلك، ولكن هل النزوع التملكي خاص بالرجال، الأزواج والعشاق، أم هو نزوع بشري عام؟
الخوص في هذا الموضوع مغامرة مختلفة إلى حدٍ ما، ما يدعو إلى ذلك أنّ ما ظهر علناً في إقليم كردستان العراق، لم يعد خافياً؛ فالممارسات العنفية التي تقوم بها النساء ضد الرجال، والموثقة بإحصائيات مخيفة، تدعونا جميعاً إلى البحث في الأسباب المباشرة وغير المباشرة لتلك الممارسات، وتدعونا أيضاً إلى إعادة التفكير في ثقافتنا التراكمية وآليات تبريرها، وآليات تحول علاقات الهيمنة التاريخية إلى بديهيات ومسلمات غير قابلة للنقاش، "كالهيمنة الذكورية" و"المجتمعات الذكورية" وغيرها من المفاهيم السائدة والمألوفة.
اقرأ أيضاً: الرئيس التونسي: مبادرة المساواة في الإرث ثورة مجتمعية ثانية
وإعادة النظر في تلك المفاهيم؛ لا تنفي صحتها أو ممارستها لحد الآن، والعنف القائم على الرجل وإن كان نسبياً أو ضئيلاً، لا ينفي العنف القائم على المرأة بنسبة شبه مطلقة، ولا يُعتبر العنف القائم على الرجل إلاّ ردة فعل عنيفة أيضاً؛ أي تمرد على عرف اجتماعي يحط من شأن المرأة، وليس له علاقة بتحرر المرأة من ربق العادات والتقاليد، أو بحريتها؛ فالتمرد نقيض الحرية وعدوها اللدود.
أفترض أنّ المساواة المطلقة بين الرجال والنساء، التي تلغي الفروق بينهم، تستدعي حرية مطلقة إما للرجال وإما للنساء؛ الحرية المطلقة تؤدي إلى العنف؛ لأنها أساس الاستبداد؛ من ثم تكون الظاهرة التي تتناولها هذه المقالة ناتجة من فهم مغلوط للحرية أولاً ومن فصل المساواة عن الحرية؛ لأن المساواة هي التي تجعل الحرية نسبية، والحرية هي التي تجعل المساواة نسبية.
اقرأ أيضاً: المساواة في الميراث: هل تؤرق تونس الأزهر؟
لذلك يجب أن تقتصر المساواة على مساواة في الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وفي الواجبات أو الالتزامات القانونية. وتعد المساواة أمام القانون من أهم مظاهر المساواة بين الأفراد في المجتمعات، لكن يبقى الفرق بين المساواة النظرية والممارسة العملية، السلوك الفردي الذي يسلكه الأفراد، أو سلوك المجتمع ككل، وكما ورد فيما سبق، نرى أنّ الدستور الكردستاني يساوي بين الرجال والنساء، أما قانون الأحوال الشخصية؛ فقد ساوى في الحقوق ولم يساوِ في الواجبات، إذ إنّه أعفى المرأة من الإنفاق على نفسها، وإن كانت قادرة على الإنفاق فتنفق برضاها.
العنف القائم على الرجل وإن كان نسبياً أو ضئيلاً لا ينفي العنف ضد المرأة بنسبة شبه مطلقة
الإحصائيات التي عرضها الاتحاد تقول: سجلت ممارسة العنف على الرجال في عام 2020، (476) حالة انتحار، وخلال 6 سنوات ماضية قُتل (37) رجلاً على يد زوجاتهم، وفي عام 2020، سجل الاتحاد (553) شكوى (90) حالة قتل، لكنه لم يعرض الوجه الآخر للقضية، فهل النساء أمام خصوم بدائيين يشككون في أبسط أفكار الحرية والمساواة، أم أنهن في حالة ثأرية من مجتمع أفسد لذة الحرية والمساواة على الطرفين المتنازعين إذا صح التعبير؟
العنف لا يولّد وعياً إنسانياً، وعياً بالإنسانية التي لا تعترف بالاختلاف بين الذكر والأنثى، العنف آفة بشرية تقمع الحب وتعزز آليات التعصب والإقصاء والحقد، فالمرأة المهمشة والمستضعَفة اجتماعياً وسياسياً ودينياً منذ آلاف السنين، تقتنص الآن فرصة المساواة لتدافع عن حرية وحقوق لم تتمكن منهما بعد بالطريقة ذاتها، التي اتبعتها ضدها جميع السلطات، وهذه هي الطامة الكبرى التي ينبغي على المرأة أن تتجنبها، في وعيها الذاتي والإنساني والأخلاقي.