أَنا مَن أَهوى وَمَن أَهوى أَنا نَحنُ روحانِ حَللَنا بَدَنا
نَحنُ مُذ كُنّا عَلى عَهدِ الهَوى تُضرَبُ الأَمثالُ لِلناسِ بِنا
فَإِذا أَبصَرتَني أَبصَرتَهُ وَإِذا أَبصَرتَهُ أَبصَرتَنا
أَيُّها السائِلُ عَن قِصَّتِنا لَو تَرانا لَم تُفَرِّق بَينَنا
روحُهُ روحي وَروحي روحُهُ مَن رَأى روحَينِ حَلَّت بَدَنا
لم يكد يجفّ حبر هذه الأشعار، حتى كان صاحبها يكتب بدمه واحدة من أشد الملاحم في تاريخ الإسلام، ليكون علامة على زمن ضاق بالتفكير النقدي والمعارضة السياسية.
وبسبب هذه الأشعار وغيرها من الشطحات الصوفية التي تجلت في "وحدة الوجود" توضأ الحسين بن منصور "الحلاّج" بدمه، بعدما ضرب ألف سوط فما تأوه، ثم جرى قطع يده، ثم رجله، ثم يده، ثم قُتل وأُحرق بالنار، فلما صار رماداً أُلقي في دجلة، ونصب الرأس ببغداد، وأُرسل بعدها إلى خراسان، وكان ذلك ذات ثلاثاء في 26 مارس (آذار) من عام 922 ميلادية.
وينتسب الحلاج، المولود في "البيضاء" ببلاد فارس، على ما ترجح بعض الروايات التاريخية، إلى طائفة من المتصوفة الذين لم يكتفوا بتحويل الزهد إلى مجرد عبادات وانعزال عن الناس، بل أحال الطاقة القصوى في التصوف إلى مجاهدة للنفس، وجهاد ضد العسف والطغيان. ويقال إن علاقته بجماعات الزنج والقرامطة أججت هذه المشاعر في قلبه. كما يقال إن صلته وتأثره بالمتصوفة الهنود جعلته ينخرط في الرغبة الحميمة لبلوغ الدرجات العليا من العرفان التي تمكّن صاحبها، كما كان يقال، من إتيان المكرمات و"الخوارق".
ويُروى عن إبراهيم بن عمران النيلي:"سمعت الحلاج يقول: النقطة أصل كل خط، والخط كله نقط مجتمعة. فلا غنى للخط عن النقطة، ولا للنقطة عن الخط. وكل خط مستقيم أو منحرف فهو متحرك عن النقطة بعينها، وكل ما يقع عليه بصر أحد فهو نقطة بين نقطتين. وهذا دليل على تجلّي الحق من كل ما يشاهد، وترائيه عن كل ما يعاين. ومن هذا قلت: ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله فيه".
اعتبر الحلاج من قبل بعض معاصريه ساحراً خطراً بينما استاء خصومه السياسيون من دوره في خطة مرسومة لإصلاح الضرائب
وقد جرّ ذلك كله على الحلاج مصاعب كثيرة؛ لأنه كان يوصف بالتغريد خارج سرب السلطتين الدينية والسياسية. وقد نعته الشاعر والفيلسوف الهندي محمد إقبال بالمفكر المبدع، الذي "حاول بث الحياة في معاصريه الموتى روحياً وفكرياً، أي حاول منحهم إيماناً حياً جديداً، وتحريرهم من التقليد واجترار القواعد المتوارثة الخالية من كل روح".
وقد كانت قناعة إقبال، كما تروي المستشرقة الألمانية المتخصصة بالتصوف آنا ماري شميل، ثابتة في أن "عالم القرآن" ينفتح لكل إنسان وفي كل عصر بصورة جديدة، وأن الإسلام ليس ديناً متحجراً بعيداً عن الواقع؛ بل إن المفكرين والصوفيين الكبار قد تغلغلوا الى طبقات بعيدة الأعماق من الفهم، بحيث يصبحون بذلك أمثلة عليا يقتدي بها الإنسان العصري أيضاً. وفي نظره كان الحلاج، الذي فهم أعماق الوحي الإلهي بصورة أفضل مما فعل كبار الفقهاء ورجال الدين الذين يعجزون عن التحليق الى الذرى الفكرية، لأن كلاً منهم يجثم "كقارون على المعاجم العربية"، أي أنه لا يستطيع التحليق بسبب عبء معارفه اللغوية الفقهية، بل يُضغط ميتاً تحت الغبار، كما غرق قارون تحت عبء كنوزه.
وفي محاولة لبعض الدارسين من أجل ردّ الاعتبار للحلاج، أنجزت دراسات وأعمال أدبية أكدت أنه قد أُسيء فهم هذا المتصوف، إذ فُسرت كلمته: "أنا الحق"، أي "أنا الحقيقة المطلقة"، أي "الله"، على أنها تعبير عن تعالٍ متعاظمٍ للذات، ما أثار الشكوك في إيمانه بحلول الذات الإلهية في النفس البشرية.
وفضلاً عن ذلك، اعتبر الحلاج من قبل بعض معاصريه ساحراً خطراً، بينما استاء خصومه السياسيون من دوره في خطة مرسومة لإصلاح الضرائب، ورأى رجال الدين في فكرته حول إسقاط الفرائض تعبيراً عن كفره، ودليلاً على إلحاده، رغم أنه ألّف في عمله "كتاب الطواسين" أجمل أنشودة يمتدح فيها الرسول محمد عليه الصلاة والسلام. كما أن كبار المتصوفين في جميع العصور قد أبدوا إعجابهم الشديد بحبه المطلق لله عز وجل.
رأى رجال الدين في فكرة الحلاج حول إسقاط الفرائض تعبيراً عن كفره ودليلاً على إلحاده
وفي أدب العصر الوسيط نرى ملامح إعادة الاعتبار للحلاج الذي جرى تقديمه بصفته "ثائراً في وجه ضيق الأفق الفكري لدى المتحجرين من رجال الدين، لأنه شهد خبرة الاتصال بالله، تلك التجربة الروحية الحية عندما تخلى عن وظيفته التعليمية في المدرسة النظامية ببغداد، لأنه وجد أن زملاءه كانوا منغمسين في نزاعات وخلافات لا طائل من ورائها حول مسائل فقهية سطحية، دون أن يتحلّوا بذرّة من الإيمان الحي، أو يمتلكوا بارقة من الاتصال الحي بالذات الإلهية".
وفي الأدب الأُردي والتركي الحديث يُصوّر الحلاج أحياناً كثائر ضد المجتمع القائم، كما أنه يظهر كذلك في الشعر العربي المعاصر كممثل للأبعاد العميقة للإسلام، كمكافح من أجل العدالة والفهم. وقد سعى الشاعر المصري صلاح عبد الصبور في مسرحيته "مأساة الحلاج" الى إظهار الطابع الاجتماعي لرسالة الحلاج، وأعطى تفسيراً دقيقاً لضرورة موته: "إذ كان موته أمراً محتوماً، لكي يعود أتباعه فيجدوا كلماته في أثلام الحقول، حيث تكمن خفية عن العيون، لكي تحمل على الرياح، التي تهب فوق الأمواج، فما الذي كان سيحدث لرسالته المنادية بحرية الفكر، لو لم يمت مشنوقاً؟".
المسرحية، التي تتكون من فصلين، تعاين العلاقة بين السلطة المتحالفة مع الدين والمعارضة، كما تحدق في محنة العقل في مواجهة التفسير الحرفي الأيديولوجي المتعسف لروح الإسلام. ففلسفة الحلاج، التي عبّر عنها بالممارسة، لم ترض قاضي بغداد الفقيه محمد بن داود، فقد رآها متعارضة مع تعاليم الإسلام، حسب رؤيته لها، فرفع أمر الحلاج إلى القضاء طالباً محاكمته أمام الناس والفقهاء. فلقي مصرعه مصلوباُ بباب خراسان المطل على دجلة على يدي الوزير حامد ابن العباس، تنفيذاً لأمر الخليفة المقتدر في القرن الرابع الهجري.
بارك ابن تيمية ما حاق بالحلاج من مصير بل إنه يرى أنّ من اعتقد ما يعتقده الحلاج من المقالات التي قتل عليها فهو كافر مرتد باتفاق المسلمين
ويبارك ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" ما حاق بالحلاج من مصير، لا بل إنه يرى أن "من اعتقد ما يعتقده الحلاج من المقالات التي قتل الحلاج عليها فهو كافر مرتد باتفاق المسلمين، فإن المسلمين إنما قتلوه على الحلول والاتحاد، ونحو ذلك من مقالات أهل الزندقة والإلحاد، كقوله: أنا الله، وقوله: إله في السماء وإله في الأرض. وبالجملة، فلا خلاف بين الأمة أن من قال بحلول الله في البشر، واتحاده به، وأن البشر يكون إلهاً، وهذا من الآلهة، فهو كافر مباح الدم، وعلى هذا قتل الحلاج".
ورغم المصير المؤلم الذي آل إليه، فإن الحلاج يمثل التضحية الكبرى التي قدَّمها الصوفية، في طريقهم نحو إقرار القاموس الصوفي الخاص.. فقد قدَّم الحلاَّج حياته ثمناً لمحاولته التعبير عن الأحوال التي، يعاينها ويعانيها، مثلما عاينها وعاناها معاصروه من رجال التصوف. فها هو أبو بكر الشبلي (رفيق الحلاج) يشطح بعبارات لا تقل وُعورة وخطورة عما شطح به الحلاج، لكنه حين واجهوه بها، ادَّعى الجنون ودخل البيمارستان! فعاش بعد مصرع الحلاج إحدى عشرة سنة. وكان يقول: أنا والحلاج شيء واحد، فأهلكه عقله وخلَّصني جنوني!
عن "thewhatnews.net"