الثورة السورية: هل المشكلة في الريف والمدينة أم في الفاعلِين؟

الثورة السورية: هل المشكلة في الريف والمدينة أم في الفاعلِين؟


09/09/2020

في الثاني من تموز (يوليو) الماضي؛ كتبت الإعلامية والمسؤولة بـ "رابطة الصحفيين السوريين"، ميساء أقبيق، منشوراً على الفيسبوك جاء فيه: "دعونا نواجه الواقع من دون مواربة؛ إذا كانت ثورة "حزب البعث" خربت التركيبة الاجتماعية بين أبناء سوريا وأوصلت أشخاصاً غير أكفاء إلى مراكز قيادة فقط لأنّهم، كما سمّوهم عمال وفلاحين كادحين، فإنّ تبعات ثورة 2011، التي كان ينقصها قائد حكيم محنك يديرها خلف الكواليس، تبعاتها فتحت المجال لبعض أبناء القرى، الذين لم يعيشوا أدنى معايير المدنية كي يغتنوا أو يحتلوا مراكز مهمة في جميع مؤسسات الثورة العسكرية والمدنية".

...

وأضافت: "هؤلاء الذين ليس لديهم ما يخسرونه، ويستطيعون العيش في جميع الظروف ومع كل المعطيات، أنهوا تماماً جميع المكونات المجتمعية السورية من المتعلمين والعارفين والكفؤين، وأبناء العائلات الشبعانة، وها هو المجتمع السوري يسقط بالضربة القاضية".

بعدها بأيام قليلة، نشر المعارض السوري، سمير نشار، تغريدة على تويتر يقول فيها: "في غمرة الجدل حول الذهنية المدينية والريفية، علينا لحظ التباين المهم التالي؛ أدوات الاحتجاج بالمدينة ضدّ السلطة هي؛ المظاهرة، الإضراب، الاعتصام، العصيان المدني، أما أدوات الاحتجاج بالريف؛ فهي حمل السلاح فقط. ثورة الحرية فشلت عندما تريّفت وتأسلمت من قبل قادة الفصائل الريفية".

اقرأ أيضاً: الحزام التركماني.. "أبارتايد" أردوغاني بحق أكراد سوريا

أحدث هذان المنشوران جدلاً واسعاً بين السوريين على مواقع التواصل الاجتماعي؛ إذ إنّ هذا الخطاب، الذي يقسم المجتمع إلى "ريف ومدينة"، أعاد إلى أذهان السوريين المناهضين للنظام السوري، خطاب المؤيدين للأخير، في بداية الاحتجاجات السورية، عام 2011؛ إذ كان منهم من يُقلّل من الاحتجاجات السلمية آنذاك لأنّها انطلقت من الريف، وليس من المدينة، لإضفاء صفة التخلف والجهل على المحتجين.

وتجدّد هذا الخطاب، الذي يحمل في طياته نظرة دونية نحو أهل الريف بشكل عام، وهذه المرة من شخصيات تعدّ نفسها من "النخبة المثقفة" ومعارضة للنظام السوري، رأى البعض أنّه يحمل كثيراً من التعميم، وهو بعيد عن فهم تركيبة المجتمع السوري وتكوينه، وتداخل "الريف والمدينة" جغرافياً في كلّ مدينة سورية.

فإذا أخذنا، على سبيل المثال، مدينة دمشق وريفها وضواحيها، سنجد أنّ بعض المدن الريفية في دمشق ليست سوى امتداد للمدينة، وسنجد أنّ أحياءً كبيرة تعدّ تابعة لريف المدينة، من يسكنها ويقطنها أغلبها عائلات تعود جذورها إلى أماكن وأحياء دمشقية قديمة، عدا أنّ المدن الريفية عانت لأعوام طويلة من التهميش والإهمال من قبل النظام السوري.

الثورة السورية هي ثورة ريف، وكلّ مشكلاتها هي مشكلات الريف الكلاسيكية؛ التسليح، الانقسام، الرؤية الضيقة، الفصائل التي تعمل على محيطها الخاص دون رؤية وطنية

يقول الكاتب والباحث السوري، موريس عايق، لـ"حفريات": "في اعتقادي؛ المشكلة الأساسية فيما يتعلق بنقاش "الريف والمدينة"؛ أنّه غير مبني على أُسس تحليلية، بقدر ما هو مبني على أحكام قيمة، وهو نقاش أيديولوجي في النهاية، من هذا من المنطلق نرى أنّ هناك تصوّراً معيارياً عن الريف والمدينة، وهذا التصور، إلى حدٍّ كبير، ليس تصوراً حقيقياً".

وأضاف: "منذ فترة زمنية طويلة، كانت الإدانة التي توجَّه لـ "حزب البعث" في سوريا؛ أنّه "الريف" الذي احتلّ "المدينة" مثلاً، والنقاش الذي يدور دائماً حول هذا الموضوع غير مبني على تحليل جدّي للريف والمدينة الموجودَين عندنا.

اقرأ أيضاً: جمال سليمان: سأترشح لرئاسة سوريا إذا توفرت هذه الشروط

 من هذه المشكلة يمكننا الانتقال لمسألة أخرى؛ هي أنّ الإسلام التقليدي تتمّ إحالته دائماً إلى الريف، لكن، في الواقع، يمككنا قول العكس؛ إنّ هذا الإسلام التقليدي موجود في المدينة (أي الإسلام المحافظ الحاضن للإسلام السياسي لاحقاً، وليس الإسلام الشعبي)؛ فالإسلام السياسي في حالة "الإخوان المسلمين" هو نتاج المدينة وليس نتاج الريف، سواء في مرحلة التأسيس، أو في التموضعات المسلحة عام 1964، في مرحلة تمرد مدينة حماه، ولاحقاً في الثمانينيات، الإسلام كان عبارة عن انتفاضة الطبقة الوسطى المدنية على حكم البعث، ولم تكن ثورة ريف".  

يتابع موريس كلامه: "بإمكاننا الذهاب للحدّ الأقصى في هذه الأطروحة، والقول، على سبيل المثال؛ إنّ المدينة المشرقية ليس مدينة إلا على سبيل المجاز، هي تجمّع كبير للبشر، لا أكثر ولا أقل، بينما كلّ التصورات الكلاسيكية التي ترتبط بالمدينة، تحديداً بـ "المدينة الأوروبية"، ليس لها مقابل في المدينة المشرقية، فالأخيرة على العكس من ذلك، لديها ثقافة مختلفة تماماً، فلدينا المسألة الطائفية؛ كالانقسام الحاصل بين البشر، وانغلاق الجماعات على بعضها، والعلاقات التي تأخذ فيها شكلاً تراتبياً، وتوجد داخلها صدامات، والطائفية والأحياء الطائفية هي نتاج مدينة، فالمدينة المشرقية لم تنتج مجالاً عاماً متجاوزاً للهويات الطائفية، وبإمكاننا مجادلة الموضوع بشكل مختلف، والقول إنّ المدينة المشرقية ليست مدينة في الأساس، كي نناقش الموضوع".

اقرأ أيضاً: الاستراتيجية التركية في تأسيس النفوذ بسوريا والعراق

ويرى موريس؛ أنّ الكارثة السياسية التي رأيناها في القرن العشرين تتحمّل مسؤولية المدينة بشكل كبير، فالمدينة عجزت عن حلّ أية مشكلة طرحت عليها، حتى إذا أخذنا، على سبيل المثال، الفترة البرلمانية أو الديمقراطية في سوريا؛ أي عندما كان لدينا نظام برلماني وديمقراطي، سنرى أنّ المدينة عجزت تماماً عن حلّ المشكلات التي طرحها هذا النظام؛ كالمسألة الزراعية، والفساد، واحتكار نخبة معينة وانغلاقها، هذه المسائل كانت مرتبطة بالمدينة؛ فلم يكن عندنا إقطاع، وكبار الملاك هم الناس الذين كانوا يعيشون في المدينة، وليس في الريف، ويستغلون الريف، والنظام البرلماني المدني لم يستطع حلّ المشكلة  نهائياً.

الثورة السورية الكبرى 1925 كانت ريفية

ويقدم  موريس مثالاً آخر لثورة ريفية في تاريخ سوريا، وهي الثورة السورية الكبرى عام 1925، فيقول: "هذه بالأصل ثورة ريفية، انطلقت من جبل الدروز، وبقيت معاقلها العسكرية ريفية، سواء في جبل الدروز بشكل أساسي، أو في غوطة دمشق، ورغم ذلك لم تتحوّل إلى ثورة وطنية إلا حينما ظهرت قيادة مدنية سياسية مؤهلة لقيادتها، والتي تمثلت بشخص عبد الرحمن الشهبندر، لكن حتى في هذه الفترة التاريخية، وعندما نأخذ عبد الرحمن الشهبندر، الذي يمثّل تاريخياً تجربة المدينة الجيدة والوجه المعياري للمثقف الوطني الليبرالي التقدمي التنويري، المتجاوز للانقسامات الأهلية، نجد أنّ عبد الرحمن الشهبندر كان ظاهرة هامشية في تاريخ المدينة السياسية، وما حدث عملياً أنّ المدينة أقصت عبد الرحمن الشهبندر، تحديداً في تجربة الحزب الوطني، حين قام أصحابه بإقصائه من "الحزب الشعبي"، وأهملوه بشكل كامل؛ فشخصية عبد الرحمن الشهبندر مثال على التصور المعياري، الذي لم تتحمّله المدينة المشرقية نفسها، والنخبة السياسية رمته خارجاً، إذاً؛ من يتحمّل المسؤولية هنا هي المدينة وليس الريف".

 الثورة السورية الكبرى عام 1925

ويرى موريس؛ أنّ "النقاش الذي يدور حالياً هو عبارة عن أحكام قيمة، ومقولات معيارية ليس لها أيّ مقابل أو مكافئ حقيقي في التاريخ الواقعي لمنطقتنا، وحتى الثقافة التقليدية هي نتاج مدينة وليست نتاج الريف؛ فالمدينة كانت عاجزة عن حلّ أيّة مشكلة، بما فيها "الثورة السورية 2011"؛ إذ لم يقدّم أحد من المدينة أيّ خيار سياسي، وبالطبع الثورة السورية، في حدّ ذاتها هي ثورة ريف، وكلّ مشكلاتها هي مشكلات الريف الكلاسيكية؛ التسليح، الانقسام، الرؤية الضيقة، الفصائل التي تعمل على محيطها الخاص دون رؤية وطنية". 

 الثنائية غير صالحة للنقاش

أما الكاتب والمترجم السوري، حسام موصللي، فيقول لــ "حفريات": "الموضوع أكبر من المسألة الطبقية بين الريف والمدينة، بمعنى أنّ الثنائية نفسها غير صالحة للنقاش؛ لأنّها غير محققة في بلد مثل سوريا؛ إذ لا يوجد نظام واضح للريف لنستطيع الفصل بينه وبين المدينة، فالموضوع مرتبط بالهجرات المتواصلة، وعدم تركيز النظام، خلال خمسين عام مضت، على الريف، بل على العكس، كان النظام يضغط باتجاه حركة الريف إلى المدينة، وهذا ما أدّى إلى توسع المدن الكبرى بشكل عشوائي، وليس بشكل منتظم أو تدريجي؛ إذ رأينا فجأة، بعد فترة الثمانينيات، أنّ العشوائيات بدأت بالانتشار على أطراف دمشق أو حلب، وهي مدن وأحياء ضخمة، لكنّها في الحقيقة عشوائيات، بيوتها غير منظمة وغير مسجلة بمصلحة التسجيل العقاري، وفي المقابل؛ كان النظام لا يمتلك مشروعاً ثقافياً وأيديولوجياً، البعث جاء على حساب المدن والريف أيضاً، فالإصلاح الزراعي باعتقادي لم يستفد منه أهل الريف، وفي لحظة ما خلق طبقة جديدة من الإقطاعيين، ولم تتغير سوى أسمائهم".

الكاتب حسم موصللي لـ"حفريات": النظام العشائري قوي في سوريا، ونحن، سواء من المحسوبين على المدينة أو على الريف، غير مطلعين على هذا النظام الاجتماعي بشكل جيد

وأضاف موصللي: "إذاً؛ هذه الثنائية (ريف – مدينة) غير صالحة، ولا تراعي وجود نظام عشائري في سوريا، وهو كبير ومتماسك جداً، وأعتقد أنّه النظام الاجتماعي الوحيد الذي بقي واضحاً ومتماسكاً، في ظلّ ما حدث، منذ انطلاقة الثورة السورية وحتى الآن؛ فأنت تعرف عادات وتقاليد العشيرية وصلاتها، أي الهيكل الإداري الخاص بالعشائر، فترى أنّ "فخذاً" من العشيرة الفلانية في سوريا، متصل بالأردن والسعودية أو الإمارات، ...إلخ".

ويرى موصللي أنّ النظام العشائري قوي في سوريا، ونحن، للأسف، سواء من المحسوبين على المدينة أو على الريف، غير مطلعين على هذا النظام الاجتماعي بشكل جيد، ولا نجيد التعامل معه، وهو نظام تاريخي واجتماعي ممتدّ ومتماسك ومعقد".

ويتابع موصللي كلامه: "مسألة أنّ الحراك في سوريا انتشر في المدينة أو في الريف، وحتى فيما يخصّ المظاهرات السلمية التي كانت تخرج، وكانت، إلى حدّ ما، متوازنة بين الريف والمدينة، لكنّ النظام السوري كان قد فرض القبضة الأمنية بشكل أكبر في المدن الحيوية؛ فعندما كانت تخرج مظاهرة في مدينة دمشق، ما يلبث أن يقول أحد المتظاهرين كلمة "حرية"، وقبل أن تصل دورية الأمن لتقمع المظاهرة، يخرج أصحاب المحلات والعاملون فيها، والذين يعمل بعضهم "مخبرين"، لضرب المتظاهرين، أما في الريف أو المناطق المحيطة بالمدينة، فقد استطاع الحراك أن ينتظم أكثر".

الجهل بتفاصيل المجتمع السوري

ويرى موصللي؛ أنّ الحديث عن ثنائية "الريف والمدينة" في الآونة الأخيرة يعكس الجهل في تفاصيل المجتمع السوري وبنيته وتركيبته، "فهذا البلد غير متوازن منذ خمسين عاماً، حتى يأتي أحدهم ويقول إنّ هناك مشكلات في الريف ومشكلات في المدينة ويجب حلّها، كما يجب التأكيد على أنّ المسألة لا تحتمل أيّ تفاضل، بمعنى أنّ الريف ليس بأفضل من المدينة، والعادات الموجودة في المدينة لا تتّسم بهذا التميز".

اقرأ أيضاً: أردوغان ومشروع الجيب الإخواني شمال سوريا

ويختم موصللي كلامه: " الحديث عن ثنائية الريف والمدينة مع إغفال النظام العشائري، الذي لا يوجد فيه "ريف" ولا "مدينة" بشكل واضح، كي نحاول تحليلهما، فيه شيء من الخلل أيضاً؛ فالنظام السوري القائم خلق حالة متوترة في سوريا، كما يوجد حالياً شعور ما بالهزيمة، بعد تسعة أعوام من الثورة السورية والحرب والدمار، الشعور بالهزيمة والانكسار أمر طبيعي في ظلّ التحولات والتقلبات التي حدثت في البلد، لكنّ مرحلة الهزيمة الحالية، تدفع الناس للرجوع لانتماءاتهم الضيقة، والبحث عن "هويات" أصغر".    



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية