يُقال إنّ من زَعمَ أنه يُمثُّل الله في السياسة فقد جانبه الصواب وحادَ عن سبيل الرشاد، وذلك لأنّ هذه المهنة تَحكُمها المصالحُ، والتوازنات، والتسويات بين جَميع الأطياف السياسية. ويَصُوغ أي سياسي خططه ومُبادراته بِقرارات بَشرية على أرض الواقع، وليست بوحيٍ من السماء؛ بل وتكونُ في أحيان كثيرة غير متوافقة مع المعتقدات، والتعاليم الدينية التي يَصدحُ بها ذلك السياسي. ولذلك قد يُفضي دُخول رجل الدين لمُعترك السياسة إلى تبعاتٍ لا تُحمد عُقباها، ومنها أنّ سياسة الدولة قد تفسد بذلك، وتُصبح غيرَ واقعية، أو يَفسد رَجُل الدين، ويتخلى عن قيمه، ومبادئه، ليتلاءم مع مُتطلبات المُنافسة، وصراع المكاسب.
وعندما أطلق عالمُ الحديث المشهور، "الشَيخ ناصرُ الدينِ الألباني" مقُولتَه التي قَصدَ بها الإخوان المسلمين، والسلفيين الجهاديين، والمُتمثلة في أنّ "من السياسة تَركُ السياسة" لِيضيف ناصحاً إياهم أيضاً بأنّه "من الأفضل لهم العودة إلى المساجد للتعبد، والتدريس، وتَركُ السياسةَ لأهلها"، وانطلاقاً من هذا التصور قامت الدنيا ولم تَقعُد ضِده، مِن الإخوان المسلمين، والحركات الإسلامية التي تَمتُهن السياسة؛ بل واتهموه بأنه يُروّجُ لِلعَلمانية، وفَصلِ الدين عَن الدولة. ولكن يَظهر، وخلافاً لادعاءاتهم، وفي كثيرٍ من الشواهدِ التاريخية أنّ نصيحة الألباني كانت في مُنتهى الحكمة؛ ومِصداقاً لقوله نَجدُ دائماً أنّ مآل التجارب السياسية الإخوانية يكون الخيبةَ والخسران.
ويَزعُم كثيرٌ من الباحثين الإسلاميين في مُراجعاتهم لأسباب إخفاق الإخوان المسلمين في مُعظم تَجاربهم السياسية، أنّ الأنظمة السياسية في بِلاد المسلمين تَتآمر عليهم، وتُعرقل مسيرتهم، وتمنعهم من تَحقيق أهدافهم؛ ولكن إذا أمعنَ المرء النظرَ، وجد أنّ حركة الإخوان المسلمين؛ وهي حركة اتخذت الدين مصعداً للارتقاء لسدة الحُكم، ومن ثم احتكار السلطة عند الوصول إلى هناك، تتخذ سُبلاً في السياسة عجباً، وتكونُ نقاط الوصول خلاف ما توهم السائرون. ومن بين أسباب الفشل المتكرر لمنهج الإخوان المسلمين السياسي ما يلي:
- إطلاق شعاراتٍ من غيرِ خططٍ اقتصاديةٍ، وسياسيةٍ مدروسة، وواضحة، ومُختبرة.
- إغلاق الإخوان لقنوات التواصل مع القوى الأخرى، وتقوقعهم على أنفسهم، خاصة عندما يكونون في سدة الحكم كما حصل في مصر في عام 2012.
- تعميق مسألة الرويبضة وقمع المخالف في العقلية الإخوانية.
- رَفْعُ شعار "إلاسلام هو الحل" من غيرِ تقديم برامج اقتصادية أو سياسية واضحة.
يقول الكاتب المغربي بلال التليدي في معرضِ نَقدهِ لاستخدام شِعار "إلاسلام هو الحل" لأغراضٍ انتخابية، إنّ هذا الشعار يَنطوي على خِداع كبير؛ لأنّ السياسةَ، والاقتصاد، في الإسلام شأنٌ بشريٌ اجتهاديٌ لا دَخلَ للدينِ بِه من قريب ولا بعيد. ويعد هذا الشعار استعلاءً على المرشحين المسلمين المنافسين، واستحواذاً على دين الإسلام من قبل حركة الإخوان، في صراعٍ سياسيٍ إنتخابي، شعبي، للوصولِ إلى مجلسِ الأمة.
تَقوقعت دولة محمد مرسي على نفسها في 2012 وكلها اعتقادٌ بأنّ الانتخابات قد جلبت لهم التمكين في الأرض
ويلجأ، عادةً، الإخوان إلى الشعارات، وليس لِلبرامج الاقتصادية، والسياسية الواضحة، والمدروسة؛ لأنهم يُبطِنونَ رَغبتهم الحَقيقية، بإقامة نظام خِلافة، يكون أحدهم زعيماً له، وبإخراج الدولة التي يرغبون بالسيطرة عليها، من النظام المالي العالمي، ليستبدلوه بأفكارهم الخاصة بإدارة المال، وكذلك يريدون بالمجال السياسي إنهاء علاقات الصداقة، والاحترام، وسيادة الدول، والتبادل التجاري، والعلمي، والدبلوماسي، بين الأمم واستبداله بمبدأ دار الحرب ودار الإسلام الموجود في أدبياتهم، وفتاواهم.
وكان إطلاق هذا الشعار إخفاقاً سياسياً للإخوان، واستخداماً فجاً للدين في أمرٍ من أمورِ الدنيا. لذلك يُلاحِظ أي مراقب أنّ هذا الشعار الإخواني "الإسلام هو الحل" قد اختفى الآن تماماً من حملاتِ الإخوان الانتخابية؛ لأنهم أدركوا أنّ إقحام الدين كحلٍّ في المسائلِ الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، أصبح مشكلة في حدِ ذاتها، بل سببَ لهم إحراجاً كبيراً، ذلك أنّه عندما يُطلب منهم تقديم حلولٍ يتهربون؛ لأنهم لا يملكون في الحقيقةِ أيةُ حلولٍ أو إجاباتٍ مصدرها ديني؛ ثم إنّ فكرة إطلاق هذا الشعار قد سبب شعوراً ضمنياً بأنّ مجتمعاتنا غيرُ مسلمة بما يكفي، وهذا تجسيد للفكر التكفيري لسيد قطب أدى إلى توجه كثير من الشباب نحو التَطرف والعُنف، من أجلِ زيادة التَّدين في نفوسِ الناسِ وسُلوكاتِهم، ولو بالقوة.
انغلاق الإخوان وتقوقعهم
يقال إنّ سبب إخفاق تجارب الإخوان السياسية المتكرر، مَردّه إلى حقيقةٍ مُتجذرةٍ في مَناهِجهم، وهي أنهم لا يَسمعونَ إلا لأنفسهم، ولا يُريدون سماعَ آراء مخالفة لآرائهم، وإن الأطراف السياسية الأخرى وجب عليها السمع، والطاعة لهم، وإلا سيتم الإقصاء من أية لجنةٍ أو فريقٍ سياسي لهم اليد الطولى بهما؛ أي إنّ كلَ من رغبَ عن رأيهم فقد ارتد، وهذا إن دلّ على شيٍء، فإنما يدلّ على أنهم غير ناضجينَ سياسياً. والأمثلة في ذلكَ كثيرة، فلو حاولنا الاستدلال بواحدٍ منها سنذكر المثال التالي:
تَقوقعت دولةُ مُحمد مرسي على نفسها في عام 2012 وكلها اعتقادٌ بأنّ الانتخابات قد جلبت لهم التمكين في الأرض، وأنّ إقامة نظام خلافةٍ يرأسه خليفةٌ من أفراد الجماعة، باتَ قابَ قوسينِ أو أدنى. وأنّ الأمر أخيراً قد آل إلى أهله من الأوصياء على الإسلام والمسلمين. وانعكس ذلك الاعتقاد في تشكيلِ حكومة "هشام قنديل" حيث اقتصرت على الإخوان المسلمين وحلفائهم وتم استبعاد القوى السياسية، والشعبية المصرية الأخرى بُحجّة أنّها قوى تغريبية غير أصيلة في مجتمعاتِ المسلمين. ويَحضُرني هنا أني قرأت، وقتها، تعليقاً لأحد الإخوان المسلمين في أحد المواقع الإخبارية بعدَ ورود اقتراحات بإشراكِ قوىً مدنية في حكومةِ هشام قنديل، حيث قال في تعلِيقه على ذلك "لا يُمكن أن نتحالف مع البرادعي العَلماني، والشيوعي إبراهيم عيسى، والناصِري عمرو موسى ..لا يُكمن لِحركة ربانية أن تَلتقي بِمناهِج الشيطان." وهذا الرأيُ قد يُعد انعكاساً حقيقياً لعقيدةِ احتكارِ الصواب، وتكفُير الآخر في فِكر الإخوان. لذلك نَجدُ أنّ الحكومة المصرية وأثناء حكم الإخوان المسلمين لم تبنِ جسوراً للتفاهِم مع التيارات الشيوعية واليسارية والمدنية. ولم يلتق الرئيس -آنذاك - محمد مرسي بأيٍّ من الفنانين، أو الشعراء، أو الأدباء، أو المفكرين المصريين، وأوصد باب حكومتهِ أمام هذه القِطاعات التَنويرية؛ وفي وجه أي آراء تُخالف منهجَ حَسن البنا وسيد قُطب؛ بل إنّ كثيراً من أتباعهم بدأوا في ذلكَ الحِين، وعَبْر برامج تلفزيونية، ويوتوبية بإطلاق إتهاماتٍ بالإلحاد، والزندقة، والفجور على أغلب رموز الفن، والأدب والإعلام.
الصواب المطلق رفيقُ درب الإخوان المسلمين، وكذلك افتقارهم لخطط عصرية تُصلح أحوال الناس، وتحول دون ازدراء المخالفين
إنّ خاصيّة الاستماع لأعضاء التنظيم فقط، والانطواء على الذات، والانغلاق الفكري، التي لا تبرح الإخوان أبداً، وخاصةً وهم في موقعِ القرار، والسُلطة، تُعد آفةً فكريةً اُبتليوا بها؛ حيثُ تُعجل دائماً في أُفولهم من المشهدِ السياسي وغِياب نَجمهم قبل أن يَسْطع، ولو حاولوا إصلاح هذا الخلل القاتل لما استطاعوا؛ لأنه متأصلٌ في جيناتهم الفِكرية والعَقدية. وهذه الخاصِّيّة تُشبه إلى حدٍ كبير خاصيةَ المُركب الكيميائي غير القادر على التمازج مع وسَطه، ومُجتمعه، وفي نهاية التفاعل السريع يَلفظه الوسط خارجاً، ولا يَسمح له بالعودة؛ لأنّ تَركيبته الحَقيقية المُغايرة قد كشفَتها تفاعلات المختبر الواقعية.
الرويبِضة وقمع المُخالف
يقول الداعية وجدي غنيم، في أحد تسجيلاته على موقع اليوتيوب، إنّ "محاولات البعض موائمة الديمقراطية مع القيم الدينية للإخوان المسلمين مثل أن تجلبَ خِنزيراً، وتُحاول تَنظيفه بينما الجوهر بَقي على ما هو عليه، وأنّ أمر السياسة كله لأهل الحل والعقد، وما على الناس إلا السَمُعُ، والطاعةُ لهم". إنّ الانطلاقَ من هذا القول يَكشُف لنا بأن هناك إعتقاداً إخوانياً راسخاً في أذهانهم وهو أنّهم يستخدمون "التَقِّية" في مَسلِكهم السياسي؛ حيث يُظهِرون اقتناعاً مزيفاً بالدِيمقراطية، والتعددية، وحُرية التعبير، ليتمكنوا من الوصول إلى كراسي المجالس النيابية، والبلدية، وحتى لكُرسي الحكم والرئاسة إن وُفِقوا في ذلك، ولكنهم يؤمنون إيماناً راسخاً، بأنهم لو تمكنوا من تَقلد هذه المناصِب فلن يجعلوا لغيرهم أي سبيلٍ للصُعود السياسي، أو حتى أن يُدلي برأيٍ أو يتظاهرَ معارضاً لسِياستهم .
ومن مخالفَاتهم الصريحة لِروح الديمقراطية - وخاصةً أثناء تقَلدهم لمقاليد الحكم والسلطة- أنّ عامة الناس لا رأي لهم؛ لأنهم - حسب زعم فُقهاء الإخوان- "رُويبضات"، وتتنازَعهم الشهوات، والأهواء وكأنهم من دواب الأرض، وليسوا بشراً تَعقِل، وتَميز بين الغث والسمين؛ وهذا إن دلّ على شيء فإنما يَدُل على أن فكرة المواطن المراقب لآداء الحكومة مرفوضة في منهجهم، وحتى لو تخرّج ذاك المواطن بامتيازٍ من أعرقِ جامعات العالم، وأجمع من يَعرِفه على رجاحةِ عقله، وسديدِ أفكاره، ولكنه عندما يُخالف آراء، أو توجهات الإخوان المسلمين، فإنّ التهمة تكونُ جاهزة له، وهي أنه رُويبضة وإنسان "تافه" لا يجوز له التكلم في أمر العامة.
إنّ نزعة الإخوان المسلمين للتأكيد على أنهم دائماً يحتكرون الصواب، والرأي الصحيح، تتنافي صراحة مع روح الديمقراطية، وحرية الرأي والتعبير التي تؤمن بها أغلب الشعوب في عصرِنا الحديث.
مرّت هذا العام أكثر من ثلاثةِ عقود على ذكرى نصيحة عالم الشرع الألباني للإخوان المسلمين بتركِ السياسة، والعودة إلى العبادةِ في المساجد، ولكن تلك النصحية مرت كمرورِ السهم في الهواء، فلم يُلقوا لها بالاً، ومَن لمحَ منهم ذلك السهمَ، كالَ لمطلقهِ إاتهاماتٍ كثيرة، أهونها أنه يناصرُ العلمانيين في دعواهم، لإبعاد رجال الدين عن السياسة. ولكن مُعظم الشواهد التاريخية تدلّ على جلاءِ بصيرة، وصدق حدس الألباني؛ حيثُ إنّ جميع مشاركات الإخوان السياسية، وتجاربهم تبوء دائماً بالفشلِ والخيبة، وأمرُهم في ذلك كمن يَجلِب قطع غيار من سيارة صُنعت في بداية القرنِ العشرين ليُصلح بها سيارة حديثة تعمل بالحاسب الآلي، ومن الطبيعي أن تكون أجزاء السيارة القديمة تلك بقياساتٍ غيرُ ملائمة، أو اعتراها الصدأ، أو أنّ التطور العلمي والصناعي قد تجاوزها بأشواطٍ كثيرة. وعليه فإنّ هذا الميكانيكي الذي اعتادَ الفشل، لا يلجأ للاعتزال؛ بل لتخوين صانع السيارة الحديثة؛ ويَتهمه أنه أفسد على الناس ما اعتاد أجدادهم عليه من عِلمٍ قديمٍ ومَعرفة، بل ويحثهم على التمسك بتلك السيارات القديمة، وإعادتها للطرقات رغم ما أصابها من كهولة، وتسرب إلى مفاصِلها من وَهن.
وفي ضوءِ ما تَقدَّم في هذا التقرير، نجد أنّ تَشبُّث الإخوان المسلمين بأدواتِ الماضي السحيق، والتَقُوقع، والإنطواء على الذات، مع قناعة -على مستوى القواعد الحزبية والقيادات الإخوانية- أنّ الصوابَ المطلق رفيقُ دربهم، وكذلك افتقارهم لِخطط عصرية تُصلح أحوال الناس، إضافة الى ازدراء أفكار المخالفين لهم سياسياً، كل ذلك جَعلَ من منهجِ الإخوان المسلمين السياسي كمثلِ قِطع صَغيرة من حديدٍ يُلقي بها طِفلٌ صَغير على صَفحةِ ماء، ظناً منه أنها ستطفو، ولكن كثَافتها، وشَكلها، وخصائصها، تقُودها للغرق في كل مرة. ويستمر ذاكَ الطفل في تجاربهِ الفاشلة، رغم أنّ الصواب هو التوقُف عن ذلك الفِعل، والتخلص من تبعية قناعاتهِ التي ثبتَ عملياً بُطلانُها.