"اكتئاب الأعياد": إذا عُرف السبب..

"اكتئاب الأعياد": إذا عُرف السبب..


01/01/2020

سلمى عمارة

"بمناسبة العيد.." قد تجعل العبارة، التي تلاحق أعيننا عبر الهواتف وشاشات التلفزة وواجهات المحال التجارية بل وحتى أماكن العمل، من تجاهل خصوصية المناسبة أمراً بالغ الصعوبة، حتى وإن غابت عن واقعنا مبررات الاحتفال وطقوسه.

إذا كنت أحد هؤلاء الذين اعتادوا أن يصلهم صخب أجواء الاحتفالات وهم أسرى حالة غامضة من الكآبة والشجن، أو أولئك الذين يكتفون من ذكرى العيد بتوسيد فراغ حوائطهم على مواقع التواصل الاجتماعي بعبارة المتنبي الشهيرة: "بأية حالٍ عدت يا عيد". فاعلم أنك تنتمي لما بات يشكل ظاهرة عالمية يطلق عليها البعض "اكتئاب الإجازات" أو "اكتئاب ديسمبر"، بوصفه شهر احتفالات الكريسماس ورأس السنة. ويوصف بأنه حالة مؤقتة من الشعور بالقلق والكآبة أثناء فترات العطلات والأعياد.

وفي حين يصعب الحصول على إحصاءات كافية للإحاطة بأعداد من لم تفلح أضواء العيد في التسلل إلى دواخلهم في منطقتنا، تشير إحصاءات منظمة الصحة العالمية إلى أن واحداً من كل خمسة أشخاص في إقليم شرق المتوسط يعاني من الاكتئاب، الذي يطال أكثر من 300 مليون شخص حول العالم، وارتفعت معدلات الإصابة به بأكثر من 18% منذ عام 2005.

بين الواقع والتوقُّع

تُرجع منظمة الصحة العالمية ارتفاع معدلات القلق والاكتئاب في البلدان العربية لما تشهده المنطقة من نزاعات واضطرابات أسفرت عن أزمات إنسانية وموجات نزوح، وألقت بظلالها على تفاصيل الحياة اليومية للفرد، وعمَّقت من اقتران المبالغة في مظاهر الاحتفال بالشعور بالذنب لدى عدد غير قليل من الأفراد.

ويقول مثنى القاضي، وهو فلسطيني يعيش في بريطانيا منذ 13 عاماً، إن "من يبالغون في الاحتفال بالأعياد يعيشون في وادٍ غير الوادي الذي نعيش فيه، لا أفهم ما يستحق الاحتفال في هذا العالم، تخجلني فكرة الاحتفال لأنها لا تتفق مع المزاج العام، ما معنى الرقص احتفالاً بالعيد؟ كان الأجدر بهؤلاء أن يمارسوا نشاطاً اجتماعياً مفيداً عوضاً عن الرقص".

ويتابع مثنى: "عادة لا أحتفل بالكريسماس ولا برأس السنة وأحرص على أن أذهب للعمل في مثل هذه المناسبات لتجنب الشعور بالوحدة".

وبحسب مثنى "يتعاظم الشعور بالوحدة أمام ما تشي به أضواء العيد من سعادة وديناميكية ارتبطت بطقوس العيد كما نتخيله لا كما يعيشه الجميع".

ربما يكون من الطبيعي أن تراود ذهن المغترب، في المدينة متعددة الأجناس، أصداء ذاكرة الاحتفال بالأعياد في بلاده، بكثير من الحنين، ولكن مثنى يذكر أن التجمعات العائلية التي تميز احتفالات العيد في بلاده طالما ارتبطت ب"الأسئلة السخيفة وعقد المقارنات بين ما استطاع إنجازه وبين ما أنجزه آخرون من أفراد العائلة"، ما دفعه إلى تجنب بعض التجمعات واعتزال عدد من الأصدقاء عقب توجيههم أسئلة شخصية تبدأ بكم يبلغ راتبه الشهري، ولا تنتهي عند قيمة ممتلكاته.

ويضيف مثنَّى: "فضلاً عن تحوّل العيدية والهدايا إلى عبء مادي كبير، بسبب ارتفاع سقف توقعات الأهل، يعد تجمع أطفال العائلة مصدراً للإزعاج وإثارة الأعصاب".

فراغ روحي
غالباً ما ترتبط الأعياد بإحياء مناسبات دينية واستعادة ما ارتبط بها من طقوس، وهو ما يجعلها فرصة لتجديد الصلة الروحية مع السماء، ولكن البعض يرون أن مظاهر الاحتفال بالأعياد فرَّغت المناسبة من عمقها الروحي، كما تقول إنجي جوزيف، وهي مصرية انتقلت للعيش في لندن قبل بضع سنوات.

وتأسف إنجي لتحوُّل الاحتفالات بالعيد إلى فرصة للتفاخر والاستعراض بقيمة الملبس والهدايا، وتقول إنها "محرومة من الاحتفال في الكنيسة، لأن طفلها المصاب بمرض التوحد لا يستطيع أن يتحمل الزحام والصخب الذي تتميز به احتفالات العيد".

ورغم ما تفرضه معطيات الواقع على إنجي، التي تمثَّل فئة غالباً ما تغيب عن حسابات المحتفلين في المنطقة العربية، إلا أنها لم تتخلَّ عن الابتهاج بالعيد وإحيائه على طريقتها الخاصة.

وتقول إنجي: "لا نتمكن من دعوة عدد كبير من الأصدقاء إلى منزلنا، لما قد يسببه ذلك من توتر لطفلي ولكنني أحرص على طهي وتجهيز عددٍ من الوجبات ليأخذها زوجي لزملائه من العزَّاب الذين يقضون يوم العيد في العمل. هي فرصة لتبديد وحشة العيد في الغربة وإشباع حنينهم إلى المطبخ المصري، وإدخال السرور إلى قلوبهم".

إرهاب وامتحانات وتحرُّش
وتستعيد إنجي ما علق بذهنها من ذاكرة الاحتفال بالعيد في بلدها المنيا بالقول: "لم أعتد الخروج في أيام الأعياد، لأنها طالما ارتبطت بظاهرة التحرش الجنسي بالنساء، كنتُ أمضي إجازة العيد في الاستذكار؛ إذ غالباً ما يتزامن قدوم العيد مع اقتراب موعد الامتحانات، وهو ما كان يحيلها إلى كابوس بالنسبة لأصدقائي".

وتتابع إنجي: "التوتر كان السمة الغالبة على تعامل والديَّ خلال فترة العيد بسبب زيادة الأعباء المادية، ورغبة والدتي في أن يبدو كل شيء في المنزل على أكمل وجه".

وتصر إنجي على تذكر ما ارتبط باحتفالات العيد في مصر بقدرٍ من الحنين، رغم إقرارها بأن الأجواء لم تكن دائما مثالية؛ إذ تقول: "كقبطية أعيش في الصعيد، ارتبط موسم الأعياد بالهجمات الإرهابية، في وقتٍ من الأوقات، لاسيما في فترة الثمانينات، بعض الناس كانوا يتلقون تهديدات صريحة، وكانت ثمة حالة من التحفز والتحسب للهجمات، لكنها لم تمنع أحداً من الاحتفال؛ لأننا كشعب نؤمن بعقيدة الاستشهاد. كانت والدتي دائما تقول (يا بخت اللي يستشهد)".

وتتابع: "كان من المعتاد أن يبالغ الأقباط في إحكام إغلاق بيوتهم، ولكن ذلك لم يعد هاجساً مع بداية التسعينات".

مواقع التواصل ودوائر العزلة
يعزو أحمد كُريِّم، وهو مصري يعيش في السعودية، شعوره بالكآبة خلال فترات الأعياد إلى ما وصفه ب"الخلل الاجتماعي"، ويقول أحمد إنه "اختبر الشعور بكآبة العيد لأول مرة أثناء فترة خدمته العسكرية، لابتعاده عن بيئته وعائلته، ولازمه هذا الشعور بعد سفره للعمل خارج البلاد".

ويتابع: "تنتابني حالة من الضيق الشديد، وأشعر بالإجهاد البدني والذهني، في حين يختبر بعض أصدقائي حالة من التشوش وضعف التركيز وربما النهم الشديد في بعض الأحيان".

ورغم سفره للاحتفال بالعيد، وسط عائلته، يرى أحمد أن "روح العيد في بلاده، ممثلة في التجمعات العائلية، قد غابت وشابها قدر كبير من التكلُّف والاصطناع خلال السنوات الأخيرة، لاسيما بعد ازدهار مواقع التواصل التي تكرِّس لقيم الفردية والاستعراض والتفاخر بالتفاصيل الشخصية وغيرها " على حد قوله.

ولكونه طبيباً، يعي أحمد أن ارتباط الاحتفال بالكريسماس ورأس السنة بفصل الشتاء يلعب دوراً هاماً في الإصابة باكتئاب الأعياد؛ إذ يؤثر قصر فترات التعرض للشمس على إفراز هرمون الميلاتونين، المسؤول عن توازن النوم واليقظة، ما يؤثر بدوره على إنتاج كميات منتظمة من النواقل العصبية، متسبباً في شعور المرء بأعراض الاكتئاب.

ويضيف أحمد أن "المواطن العربي لا يعيش فترة كافية للتحول من حالة الانبطاح تحت وطأة ساعات العمل الطويلة، واللهث خلف لقمة العيش إلى حالة السعادة المتكلَّفة التي يجد نفسه مطالباً بها خلال إجازة العيد. ناهيك عن واقع الثورات والاضطرابات التي خلَّفت آثارها على بيوت الجميع".

ويختم أحمد حديثه بالقول إن "شعوره بالعزلة خلال الأعياد يفضي به إلى مزيد من العزلة؛ إذ يجد نفسه مدفوعاً إلى تجنب أماكن التجمعات وقضاء وقته بين جدران المنزل".

"الجينات وميراث الأجداد"
ترى المعالجة النفسية، سحر طلعت، أن الفرد العربي يفتقر إلى المتانة النفسية، وهو ما يمكن ملاحظته في مقدار ما يحمله رواد عيادتها من حساسية نفسية تجعل من أبسط العلاقات والتفاعلات الاجتماعية مثار قلق وشكوك.

وتعزو د.سحر غياب المتانة النفسية إلى "صعوبة أن ينفصل المرء عن واقعه؛ إذ يجد الإنسان نفسه في معرِض التأثر حتى بما لم يعايش من وقائع، فسرعة توثيق الأحداث ووصول المعلومات بالصوت والصورة جعلت الجميع عرضة لمشاهد العنف وغيرها مما يزدحم به الواقع العربي".

وتقول د.سحر "إننا لا نتأثر بما راكمناه من خبرات فقط وإنما نحمل أيضاً تاريخ الآباء والأجداد الذي ينتقل إلينا عبر الجينات".

وتلفت د.سحر إلى "تزايد الأدلة حول انتقال تأثير الصدمات عبر الأجيال من خلال الجينات التي تحتفظ بالخبرات السلبية والإيجابية على حدٍّ سواء، وهو ما يحمل عواقب بيولوجية وسلوكية على نسل من تعرضوا لتلك الصدمات".

وتقرِّ د.سحر بأن الحياة العصرية طبعت تعامل الكثيرين مع العلاج النفسي؛ إذ أدى التكريس لثقافة الاتكالية والحلول السريعة إلى أن يتوقع البعض من المعالج حلولاً سحرية وعاجلة لأزمات عالقة منذ الطفولة تتعلق بحب الذات والقبول وغياب الأمان، وهي أزمات تتطلب معالجتها رحلة من العلاج قد تمتد لسنوات.

وتنصح د. سحر من لا تتوفر لديهم القدرة على تحمل نفقات العلاج النفسي طويل الأمد إلى اللجوء للعلاج الجماعي، لما يوفره من شبكات للدعم، تغيب عن العلاقة الثنائية بين المريض والمعالج.

عن "بي بي سي"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية