منذ شهرين تقريباً طلبت منّي إحدى الصديقات -هي كاتبة وصاحبة دار نشر- تحريرَ مجموعة من قصص الأطفال تحريراً أدبيّاً لتقرّر نشرها في الدّار من عدمه. فقبلت بسرور لأنّني أدرك أهميّة هذا العمل، ولا أتردّد مطلقاً إذا تعلّق الأمر بالأطفال؛ لأنّني أرى ذلك مسؤولية عظيمة، بما أنّها قد تمنع جرائم تُرتكب في حقّهم تحت عنوان "أدب الطّفل". ورغم مشاغلي شرعت في قراءة تلك القصص، فهالني مستوى اللّغة التي يمكن لتلميذ تونسيّ في العاشرة أن يكتب بسلاسة أفضل منها. وأخذت أصلح عشرات الأخطاء المتنوّعة في الصفحة الواحدة، وأشير في الهامش إلى التراكيب التي لم أفهم ما يريد بها صاحبها أصلاً. ولكن ما أنساني أمر اللغة على مشقّة إصلاحها وتدقيقها أنّني تفطّنت ببحث بسيط عند شيخنا الموقّر (غوغل)، إلى أنّ الكاتب قد سطا على صفحات من قصصه من شبكة الإنترنت، وسرق فقرات من تلك المنتديات. ينقل صفحات كاملة من هذه المنتديات بطريقة القصّ واللّصق. فدفعت العجلة إلى التّلّة وواصلت البحث، فإذا بي أكتشف أنّ تلك الصفحات المنقول عنها تتضمّن أخطاء معرفية وتاريخية ما أنزل اللّه بها من سلطان. فقلت لَأُواصلنّ "تتبّع السّارق حتّى باب داره". فواصلت القراءة على مضض مطلقاً من حين إلى آخر زفرة استغراب وتعجّب من قدرة البشر على إلحاق الضّرر بالآخرين تحت يافطة الكتابة والإبداع.
وما دام سارق البيضة تهون عليه سرقة بقرة، فإنّ صاحبنا الكاتب الكبير قد سرق أيضاً صفحات أخرى من منتديات أخرى، وسرق قصصاً بأكملها من مواقع معروفة للجميع، كما سطا على نصوص كاملة من موقع (الجزيرة نت) ظنّاً منه أنّ ذلك تذاكٍ وإبعاد للشبهة بما أنّ النّاس لن يبحثوا عن المسروق في مواقع معروفة. ووجدت أنّ كلّ القصص التي كتبها لا تتلاءم والفئة العمريّة التي وُجّهت إليها، زيادة عن أنّها مليئة بالصّور النمطيّة البائسة (أفضليّة الولد على البنت / الأب يعمل والأمّ تطبخ الطعام / القرويّون همجيوّن وأهل المدن متحضّرون/ الذّكاء للأولاد والزّينة للبنات...)، وغيرها من الصّور المتخلّفة التي أعُدّها شخصيّاً جرائم حقّ عامّ ينبغي أن يحاسَب مرتكبوها على معنى فصول المجلّة الجزائيّة (لست أمزح) لخطورتها وأثرها في الأطفال والنّاشئة.
إنّ الطفولة أجمل مرحلة عمريّة في حياة الإنسان، كما أنّها الأخطر على الإطلاق في التعامل معها، لذلك يستغل كثير من "الكُتّاب" هذا المعطى ليمرّروا إليهم سموماً تحت يافطة الأدب
غير أنّ ما جعلني أنتفض من مكاني، وأنا أقرأ إحدى "القصص" التي تتحدّث عن أحد الصحابة، بعيداً عن لغتها التراثيّة التي اضطرّتني أكثر من مرّة إلى البحث عن معاني بعض المفردات في القاموس، وهي موجّهة إلى الفئة العمريّة (8-12) عاماً، وبعيداً عمّا تضمّنت من مغالطات تاريخيّة بائسة، وأكاذيب وطمس للحقائق وليّ لعنق التاريخ والمنطق والعلم، الأدهى هو ما فيها من مشاهد عنف يذكرها كاتبنا النّحرير بالتفصيل منذ أن يسحب الصّحابي سيفه من غمده، إلى مبارزة "اليهوديّ الكافر"، إلى طرحه أرضاً، إلى قطع رأسه، وصولاً إلى تعليق الرأس المقطوع في حدّ السيف، ورفعه عالياً أمام أنظار الجميع، بل إنّ الكاتب لم يكتفِ بسرد اللوحة الدمويّة، وإنّما اقترح بين قوسين مشهداً للرّسّام هكذا: ("صورة الصحابي وهو يرفع سيفه عالياً وفيه رأس فلان مقطوعاً يقطر دماً"). حينها أحسست أنّ الأرض صارت فراغاً تحتي، وتخيّلت ولديّ يقرآن هذا الإجرام، وتخيلت أطفالاً آخرين في العالم يقرؤون ما تقيّأ صاحبنا، فغلى الدّم في رأسي، فأطفأت الحاسوب واتّصلت بصديقتي وأنا أغلي، فأخبرتها بما وجدت في هذه "القصص" الجرائمِ. وأعلمتها أنّني أمام كارثة وجريمة في حقّ الحياة في حدّ ذاتها، وأنّني لن أواصل وفصّلت لها الأسباب، ففزعت بدورها، وأكّدت لي أنّها لا تتاجر بأدب الأطفال، وإنّما تتعامل معه بوصفه مسؤوليّة ودوراً من أدوارها في الحياة، والدّليل أنّها اعتمدت محرّراً قبل النّشر، ومدقّقاً لغويّاً، ولن تسمح بتمرير أفكار صادمة للأطفال بهذه الطريقة.
ومنذ القصّة الأولى التي أكملت قراءتها وجدتها مذيّلة بسيرة صاحبها، ويا لَفاجعتي وأنا أقرأ أنّه حاصل على دكتوراه فخريّة من جهة ما لا أعرفها (من تلك المؤسسات الوهمية التي ليس لها وجود إلّا في أذهان أصحابها، من قبيل "الأكاديمية الدوليّة لتربية الحلزون والبيئة ومواطنينا بالخارج" مثلاً)، والأنكى من كلّ هذا أنّ سيّدنا الكاتب النّحرير قد اقترف قبل أن يصل إليّ أدبُه العظيم أكثر من (60) كتاباً جريمةً للأطفال منشورة في دور نشر في عشرات البلدان العربية. وبما أنّني مهتمّ بأدب الطّفل أقرؤه بنهم وأحبّ عوالمه منذ 1987، فإنّني أنخرط من حين إلى آخر في صفحات ومجموعات فيسبوكيّة مهتمّة بهذا المجال، وبينما أنا أتصفّح إحداها يوماً إذ طالعتني صورة هذا الكاتب في شريط الأخبار وهو "يُهدي" كوراثه هذه لجامعة عربية عريقة ويتسلّم منها تكريماً بوصفه كاتباً عظيماً "أفنى عمره" في الكتابة للطّفل. ولا شكّ في أنّ كتب ذلك الكاتب العظيم موجودة الآن في معرض تونس الدوليّ للكتاب ترتع مثل غيرها من الكتبِ الأخرى، وسيقتنيها أطفالنا وبناتنا، بما أنّ الثّابت أنّهم الفئة الأكثر قراءة واقتناء للكتب قبل أن يطحنهم المجتمع بجهله حالما يبلغون الـ (12) من أعمارهم تقريباً، لمّا ينصرفون عن القراءة والكتاب بعد أن يكتشفوا أنّ آباءهم وأمّهاتهم في الغالب لا يقرؤون مطلقاً بينما يغصبونهم على القراءة.
ينبغي أن نفكّر جدياً في بعث مجالس وطنية وعربية لأدب الأطفال تكون مُلزمة لكل الدول، فلا تسمح مطلقاً بنشر أيّ كتاب موجّه للأطفال بأن يمر إليهم إلا بعد تأشيرة من هيئة متخصّصة في هذا الجنس الأدبي
إنّ الطفولة أجمل مرحلة عمريّة في حياة الإنسان، كما أنّها الأخطر على الإطلاق في التعامل معها، لذلك يستغل كثير من "الكُتّاب" هذا المعطى ليمرّروا إليهم سموماً تحت يافطة الأدب، وأخطر ما في الأمر أنّ أدوار "البطولة" كما في حال صاحبنا مقترنة بالمقدّس. وبما أنّ الطّفل لا يتعامل مع الشخصيات الدينية إلّا بوصفها شخصيات خياليّة، تسند إليها في القصة أدوار البطولة، فإنّ تغليفها بطابع دينيّ مقدّس لن يغرس فيه سوى معاني القوة والبطش والتعطش للدماء ظناً منه أنّ البطولة لا تتحقق إلّا بتلك الطريقة؛ أي بالجمع بين عنصري القوة والدين. وها نحن أولاء نلحظ أثر ذلك في واقعنا الذي أنتج داعش والإسلام السياسي والإخوان المسلمين الذين لم يزرعوا في حياتنا سوى الإرهاب والعنف والتقتيل والدماء، وكل ذلك تحت عنوان كبير هو "تطبيق الشريعة".
وبناء على ما تقدّم، ينبغي أن نفكّر جدياً في بعث مجالس وطنية وعربية لأدب الأطفال تكون مُلزمة لكل الدول، فلا تسمح مطلقاً بنشر أيّ كتاب موجّه للأطفال بأن يمر إليهم إلا بعد تأشيرة من هيئة متخصّصة في هذا الجنس الأدبي، وضبط النشر العشوائي بقوانين صارمة. ويمكن أن نستأنس بتجربة السويد عالمياً، وبتجربة الإمارات العربية المتحدة، وهي الدولة العربية الوحيدة تقريباً التي تولي هذا اللون الأدبي ما يستحق من عناية في مستوى النصوص والرسوم والكتّاب والتدريب والرقابة والجوائز، وقد خضت شخصياً دورة تدريبية في كتابة قصص الأطفال نظمتها مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة ضمن برنامج دبي للكتابة، فأشرفت علينا المدربة وفاء ثابت المزغني على مدى أشهر، وهي واحدة من أهم المهتمين بأدب الطفل عربياً كتابةً وتدريباً. وعلينا بالتالي أن نحذر كتب الأطفال، سواء بوصفنا قرّاءً أو كُتّاباً أو صانعي قرار؛ لأنّها قد تكون مدخلاً للأدلجة وقناة تمرّ عبرها إيديولوجيا الكبار للأطفال والناشئة، وتلك كارثة مدمرة نرى آثارها في واقعنا يومياً.
مواضيع ذات صلة: