"أولاد حارتنا" تفضح آليات الجهل القاتل

مصر

"أولاد حارتنا" تفضح آليات الجهل القاتل


21/10/2018

كعادته المنضبطة؛ خرج نجيب محفوظ من منزله، في الخامسة والنصف مساء 14 تشرين الأول (أكتوبر) العام 1994، متوجهاً إلى ندوته الأسبوعية في كازينو قصر النيل، في تلك اللحظة، وعلى بعد خطوات من منزل محفوظ، أقدم محمد ناجي محمد مصطفى، فني إصلاح أجهزة كهربائية، وعضو الجناح المسلح للجماعة الإسلامية، على ذبح محفوظ، بمعاونة آخرين؛ رداً على رواية "أولاد حارتنا"، التي عدّوها رواية كافرة، جسّدت الله والأنبياء. 

اقرأ أيضاً: القاضي الأديب أشرف العشماوي: نجيب محفوظ أهدى رواياته لمن حاولوا قتله

تحقيقات نيابة أمن الدولة العليا أشارت إلى أنّ منفذي الجريمة لم يقرأوا لمحفوظ يوماً، وبعضهم يجهل القراءة والكتابة من الأساس، غير أنّ فتوى أميرهم بقتل محفوظ كانت كفيلة باعتبار المسألة أمراً مقدّساً يجب تنفيذه.

غلاف رواية "أولاد حارتنا" للأديب نجيب محفوظ

قبل ذلك التاريخ بأكثر من ثلاثين عاماً؛ نشرت جريدة "الأهرام" الفصل الأول من رواية "أولاد حارتنا"، وتابعت النشر وسط مخاوف من محتوى الرواية، وردود الأفعال عليها؛ فالرواية الرمزية التي كتبها محفوظ من ضمن تفسيراتها، التي تداولها البعض، بأنّها "جسدت الله في شخص الجبلاوي، وجسدت الأنبياء أيضاً".

ورغم نفي محفوظ الدائم لذلك التفسير، إلّا أنّه كان الأكثر انتشاراً، مما دفع المؤسسة الدينية في القاهرة إلى طلب منع نشر الرواية في مصر.

سيرة الرواية المحرمة

بدأت الأزمة، كما أشار الكاتب الصحافي، محمد شعير، في كتابه "أولاد حارتنا – سيرة الرواية المحرَّمة"، الصادر حديثاً عن دار العين، بعد أن نشرت الصفحة الأدبية بجريدة الجمهورية خبراً يلفت النظر إلى أنّ الرواية المسلسلة التي تنشرها "الأهرام"، فيها "تعريض بالأنبياء".

 نجيب محفوظ داخل المستشفى بعد محاولة اغتياله

يحكي نجيب عن تلك الواقعة، كما أوردها شعير في كتابه: "وبعد هذا الخبر المثير، بدأ البعض، ومن بينهم أدباء، للأسف، في إرسال عرائض وشكاوى يطالبون فيها بوقف نشر الرواية، وتقديمها إلى المحاكمة، وبدأ هؤلاء يحرضون الأزهر ضدّي، على أساس أنّ الرواية تتضمن كفراً صريحاً، وأنّ الشخصيات الموجودة في الرواية ترمز إلى الأنبياء".

تحقيقات نيابة أمن الدولة العليا أشارت إلى أنّ منفذي الجريمة لم يقرأوا لمحفوظ يوماً وبعضهم يجهل القراءة والكتابة

الرواية السابقة ذكرها محفوظ، غير أنّ شعير لفت إلى أنّ أول هجوم معلن على الرواية كان على صفحات مجلة "المصور"، في رسالة أرسلها قارئ يدعى محمد أمين، إلى الشاعر صالح جودت، محرر باب أدب وفن، في 18 كانون الأول (ديسمبر) 1959؛ حيث قال: "جاء محفوظ ليتحدّى معتقدات راسخة، ولهذا يتعذر على كائن من كان، حتى ولو محفوظ نفسه، أن يقدمها بمجرد كتابة قصة، التستر وراء الرموز أضعف قضية نجيب محفوظ، في مجتمع يجلّ الدين بطبيعته".

 

 

لجنة الدفاع عن الإسلام

في تلك الفترة أيضاً؛ حضر الكاتب والروائي، سليمان فياض، اجتماعاً لما سمّي "لجنة الدفاع عن الإسلام"؛ وهي لجنة ابتكرها الشيخان سيد سابق ومحمد الغزالي، بهدف "رصد افتراءات المستشرقين على الإسلام والردّ عليها"، وكان محور الدفاع عن الإسلام في تلك المرة مخصصاً لمناقشة كيفية التصدي لرواية "أولاد حارتنا"، وكان فياض كاتب الجلسة؛ "عندما بدأ الكلام عن "أولاد حارتنا"، هاجم الشيخ الغزالي الرواية هجوماً شديداً، وقال إنّها إلحاد وعبث بتاريخ الديانات، فارتعش القلم في يدي، فنظر إليّ الغزالي، وكان يعرف أنّني أكتب القصة، وأمرني ألا أكتب شيئاً من مناقشات اللجنة، بل هو من سيقوم بالكتابة".

أول هجوم معلن على الرواية كان على صفحات مجلة "المصوَّر" في رسالة أرسلها قارئ يدعى محمد أمين

جاءت "أولاد حارتنا" بعد توقف محفوظ لأعوام عن الكتابة، إثر قيام ثورة تموز (يوليو) 1952، ورأى أنّ العودة يجب أن تكون برواية مختلفة، شكلاً ومضموناً، عمّا قدمه سابقاً، غير أنّه لم يتوقع أن ينتهي به الأمر مذبوحاً (بمطوة) أمام منزله، وأن يضطر في النهاية لنشرها خارج مصر، بعد عزوف كل مسؤول عن نصرة الرواية والدفع بها إلى المطبعة، فالحادث جلل، ولن يأمن أحدهم ردّ فعل النزعة الدينية لدى نفوس الناس.

اقرأ أيضاً: نجيب محفوظ يفوز بكرة القلم

مصادرة الرواية، وإن كانت ضمنية، دون أيّة ورقة رسمية، تؤكد المنع، وإضافة العديد من الألغاز لها، وجعلها مشبعة بالحكايات المتداولة بين الجميع عنها، مسألة استغلها محمد شعير في كتابه، وبدأ رحلة امتدت لأعوام بحثاً عن كواليس "أولاد حارتنا"، ليسرد بين دفتي كتاب، سيرة الرواية المحرَّمة.

غلاف سيرة الرواية المحرمة للكاتب محمد شُعير

غياب دور المثقف

في المستشفى؛ طلب محفوظ من زوجته إحضار ثلاث نسخ من أعماله، ووقعها هدية إلى من حاولوا قتله، رأى محفوظ في إقدام هؤلاء على مشاركتهم في العمل الإرهابي نتيجة لمقدمات شارك فيها المثقف ذاته، فغياب المثقف عن الناس، وعدم قدرته على الوصول إليهم، دفع بهم في النهاية إلى الانضمام لتنظيم إرهابي.

اقرأ أيضاً: نعيم صبري يوثق زمن الطيبين في حي شبرا برفقة نجيب محفوظ

بعد خروجه من المستشفى؛ لم يسلم محفوظ من تبعات الرواية المحرَّمة، فبعد أسابيع قليلة من خروجه، وقبل أن يتعافى تماماً، كانت هناك مفاجأة في انتظاره؛ إذ وجد نفسه متهماً ومطلوباً في القضية (رقم 1787 لعام 1959، "جنايات المنصورة")، وكان أحد المحامين، ويدعى السيد عبدالرحمن، من المنصورة، قد أقام دعوى ضدّ محفوظ يتهمه فيها بازدراء الأديان، وإضافة اسم جديد إلى أسماء الله الحسنى، وهو "الجبلاوي"، وهي تهم تستوجب الحبس والغرامة، بل والتفريق بينه وبين زوجته.

في المستشفى طلب محفوظ من زوجته إحضار ثلاث نسخ من أعماله ووقعها هدية إلى من حاولوا قتله

اعتمد المحامي في دعواه القضائية على ما نشرته صحيفة "الأخبار"؛ بأنّ محفوظ عندما أفاق من التخدير سأل زوجته عن موعد إجراء الجراحة، فقالت له: لقد تم إجراء الجراحة، فضحك محفوظ وقال: "إذاً الجبلاوي راضي عني"، وبحسب تحقيقات النيابة، لم يقرأ المحامي "أولاد حارتنا"، مثله مثل من حاول اغتيال محفوظ، بل قال في التحقيق: "حاشا لله أن أقرأها، لما تنطوي عليه من خروج".

وبعد خمس جلسات، على امتداد الفترة من 23 أيار (مايو) وحتى 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 1995، قضت المحكمة بعدم قبول الدعوى، لانتفاء شرطَي: المصلحة والصفة.

استطاع شعير أن يتتبع مسار الرواية في جميع المطبوعات الصحافية الصادرة في تلك الفترة، وأن يجمع كلّ قصاصة وورقة ذكرت فيها أيّة كلمة عن الرواية، وردود الفعل عليها، واستطاع أن يضفر تلك المعلومات في نسق أشبه بالرسم الهندسي الدقيق، يدفع القارئ لتتبع مسار الرواية المحرمة دون ملل، وأن يظل في شغف مستمر لمعرفة تفاصيل الحكاية، الحكاية التي أرقت مضاجع رجال الدين، وعدّوها خطراً على الإسلام، ونصّبوا أنفسهم خلفاء الله في أرضه للدفاع عن دينه.

أقام المحامي عبدالرحمن من المنصورة دعوى ضدّ محفوظ بتهمة ازدراء الأديان وإضافة اسم جديد لأسماء الله الحسنى وهو الجبلاوي

وتظلّ صورة الإرهابي وهو يذبح محفوظ بسبب رواية، عالقة في الأذهان، خصوصاً وهو يردد الشهادتين، ويهتف "الله أكبر" وقت الذبح، يقول وكيل نيابة أمن الدولة العليا في تلك الفترة، المستشار أشرف العشماوي لـ"حفريات" إنّ المتهم نطق الشهادتين، وهتف "الله أكبر"، حتى يلقن محفوظ الشهادة، ويعيده عن كفره.

غير أنّ القدر كان له رأي آخر، فخرج محفوظ من الحادثة بسلام، واستمرّ في كتاباته، حتى وافته المنية مساء 29 آب (أغسطس) 2006، لكنّ وفاته لم تمنع الجدل حول الرواية الأكثر إثارة للتساؤلات في تاريخ محفوظ، رغم صدور طبعتها المصرية، بعد قرابة 45 عاماً من المنع والمصادرة داخل القاهرة.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية