عن شجون الحرية الثقافية

عن شجون الحرية الثقافية


28/11/2018

محمد حسين أبو العلا

دائماً ما كان عالمنا العربي في حاجة إلى تجليات الحرية الثقافية لكن ما أشد حاجته إليها الآن بعد أن تمزقت أوصاله سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأيديولوجياً وأصبح مخترقاً من الداخل والخارج متواجهاً بعواصف الكراهية والحقد المتفاقمة عبر اللحظات، من ثم فهو في حاجة ماسة لإعادة البناء والتشكُّل والعودة للوجود، ولن يكون ذلك إلا بتلك الحرية الباعثة على الرؤية والنقد الفاعل فتحريك وتغيير الخريطة الذهنية التي لا تتغير تضاريسها حتى في لحظات الأزمات التي تمثل تهديداً مباشراً للتاريخ والجغرافيا والثقافة والاقتصاد والعقائد، لكن بالفعل آن لها أن تتغير لأن حتمية المسار تخرجها من دوائر الإختيارية.

من ثم فإن الحرية الثقافية تصبح من الضرورات الوجودية المعاصرة التي تستلزم الممارسة الفعلية العاجلة لإقالة الواقع العربي والإسلامي من كارثياته المتلاحقة التي أوشكت أن تودي به، وعلى ذلك لا بد من استحضار معنى رشيد لكن في حيز اللاشعور العربي وهو أن الثقافة هي الفكرة المركزية في بناء الإنسان وعياً وروحاً ونفساً وقبل ذلك لا بد من الوقفة مع معنى الحرية الثقافية محددات وجوهر ومستقبل عبر العديد من التساؤلات أولها: هل الحرية الثقافية هي الانسياق وراء تيار ما بعد الحقيقة الذي تؤكد مضموناته مدى الارتفاع الجنوني لمعدل الأكاذيب والشائعات والأوهام والاختلاقات؟ هل الحرية الثقافية يجب أن تنحاز إلى ميكانيزمات الفعل التواصلي المتمثلة في التعايش والتفاهم والحوار والتسامح وقبول الآخر؟ هل الحرية الثقافية تعني التشكيك في جذور الهوية أو تفكيك المنظومة القيمية؟ هل تكون الحرية الثقافية هي الحرية الممنهجة أم الحرية العشوائية؟ كيف يمكن توظيف الحرية الثقافية لمواجهة الصراعات الثقافية التي تطوق العالم وتستهدف عالمنا العربي بشكل أخص والتي تحدث عنها ديتر سنغاس في «الصدام داخل الحضارات» أو جاك غودي في «سرقة التاريخ»؟ هل يمكن لهذه الحرية الثقافية أن تنتج نظرية فكرية ذات توجه حضاري؟ ما هو موقع الحرية الثقافية في ظل تآكل النخبة المثقفة الحقيقية بل وفي ظل تضاؤل الوجود الفاعل للمثقف؟ هل تسمح هذه الحرية الثقافية بشيوع تعددية الرؤية وتعصف بتلك الأحادية القابعة في خلايا العقل العربي؟ هل الحرية الثقافية تعني استمرار موجات الهجوم البشع على التراث العربي بكل تنويعاته تحت ستار التجديد والحداثة، بينما التجديد يبدأ بقتل التراث بحثاً؟ هل تعني الحرية الثقافية غياب الموضوعية أو الإنفلات من بعض الضوابط الفكرية؟ وكيف يتحول مفهوم حرية التعبير من مفهوم حضاري إلى مفهوم رجعي؟

إن الحرية الثقافية في المقام الأول هي مسؤولية أدبية. هي حرية أن تسجل رأياً، أن تعلن فكرة، أن تقدم أطروحة، أن تؤكد نظرية، أن تتبنى موقفاً فاعلاً. هي حرية التجديد والتطوير والإحياء، حرية البحث، حرية التحلل من كافة المعوقات التي تقيد حركة الفكر في خط أفقي. هي الحرية الفاعلة في تسييد الروح الإبداعي، بل حرية إنتاج منظومة مفاهيمية جديدة وليس إعادة إنتاج وتدوير الموروثات. هي الحرية التي تحلق في أفق مفهوم رؤي العالم غير متقوقعة في أي إطار أيديولوجى.

فالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسة وهو أقوى المواثيق الدولية الملزمة إنما ينص على أن التمسك بالحقوق في حرية التعبير يتبعه بالضرورة واجبات ومسؤوليات شتى، ومن ذلك وغيره فالحرية الثقافية مقيدة بشرطيات الوعي المتوقد والخلفية الثقافية والتجربة الذاتية والاعتبار بطبيعة اللحظة المعاصرة بينما حدود التعبير الإبداعي مطلقة إذا توافرت لها مقومات الحرية الثقافية لأن الإبداع هو اندماج الملكات الذاتية أملا في بلوغ تخريجات روحية ونفسية وفكرية، ومن هنا ترتبط مساحة الحرية الثقافية بدرجة الأهلية النقدية.

وعلى ذلك، فكلما اتسعت آفاق الحرية الثقافية صارت إحدى ركائز التقدم الحضاري وسبباً مباشراً في شيوع روح التنوير وتكريس أسس النهضة الفكرية، إذ أن اللحظة الراهنة التي يعايشها العالم العربي والإسلامي إنما تتطلب مزيداً من هذه الحرية علماً وفناً وأدباً وفكراً، وليس قليلاً من تلك الحرية المنفلتة التي جعلت عالمنا يموج بالبلاهة.

عن "الحياة" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية