تسببت الخلافات الطاحنة حول مسألة "العذر بالجهل" الفقهية، بانشقاقات كبرى تكاد تعصف بما تبقى من تماسك لتنظيم "داعش" في سوريا والعراق، وفروعه الجديدة في العالم بعد الضربات التي تلقاها.
على أعتاب حرب داخلية
ومع أنّ التنظيم يعاني من انكسارات وانسحابات وهزائم ميدانية، إلا أنّ وقع ذلك أهون عليه بكثير من الصراعات "المنهجية" التي تنهش في عظامه، فتنتج عنها النزاعات، والانشطارات، والتشظيات.. وفق مفتي القاعدة السابق، أبو حفص الموريتاني، في تصريحات لموقع "أخبار الآن" في تشرين الأول (أكتوبر) 2017.
ويؤكد الموريتاني أنّ الانقسام الفكري، والتشظي العقدي، "أخطر" بكثير من استنزاف التنظيم في قادته، وخسرانه أراضي كان قد سيطر عليها.
ويستحضر الموريتاني تجارب الجماعات "الإسلاموية" المسلحة التي لم ينهكها شيء أكثر من الصراعات الفقهية حول مسائل التكفير، وكيف تؤدي إلى الاقتتال الداخلي بعد أن تصل إلى القيادة العليا في تلك التنظيمات.
ويضيف: "داعش" يمر الآن بخلافات عميقة، ومتجذرة بين قطبين أساسيين فيه، وصلت إلى أعلى المستويات، وخطورة هذه الخلافات أنَّ كل طرف لا يراها خلافات جزئية، ولا يرى أنّ الرأي بشأنها صواب يحتمل الخطأ أو خطأ يحتمل الصواب، وإنما يرى أنها حق وباطل، سُنّة أو بدعة.
ويتابع: "لذلك فإنّ كل طرف يتحيّن الفرصة لاستئصال الطرف الآخر، وهذا ما ظهر خلال الأشهر الماضية، التي عاش فيها التنظيم صراعات فكرية وعقائدية عميقة جداً، ترتبت عليها تصفيات وملاحقات واعتقالات وسجن وإقالات وغير ذلك".
وفي استشرافه لمستقبل التنظيم يقول: هو أمام أزمة خطيرة قد تقضي عليه، فهي ليست مرتبطة فقط بالنزاعات داخل التنظيم، والخسارات التي يتعرض لها، وإنّما في النزاع الداخلي بشأن موضوع التكفير، وهذه مسألة قد تنشأ بسببها حرب داخلية عنيفة تعصف بكيانه، وهو يقف الآن على أعتابها.
ماذا يعني "العذر بالجهل"؟
في كتابه "معالم في الطريق" يصف سيد قطب المجتمعات بـ"الجاهلية"، دون الدخول في تفاصيل فقهية، إلا أنّ هناك عدداً من الجماعات، اعتبر أنَّ هذا الحكم يستتبعه تكفير تلك المجتمعات على الجملة، بينما رفض آخرون تلك الأحكام، باعتبار أنّ "الجاهليين" معذورون بجهلهم، ومن هنا نشبت الصراعات حول المسألة، وخاصة بعد أن كفّرت جماعات مثل؛ "التكفير والهجرة"، "والشوقيون"، بقية الجماعات الأخرى مثل؛ "تنظيم الجهاد"، و"الجماعة الإسلامية"، ليس لأنّهم كفار؛ بل لأنهم لا يكفِّرون "الكافرين"؛ "من لم يكفِّر الكافر فهو كافر، ومن لم يكفِّر من لا يكفِّر الكافر فهو كافر.. إلخ" في متوالية تكفيرية لا تنتهي.
يقول عمرو عبدالمنعم، وهو جهادي سابق وباحث في شؤون التنظيمات الإسلاموية الراديكالية، لـ "حفريات": "لم تقصمْ قضيةٌ ظهرَ جماعات التطرف والإرهاب، وتجعلْ منهم شيعاً، وأحزاباً، وفرقاً، وجماعات، مثل العذر بالجهل".
ويرى عبدالمنعم أن قضية العذر بالجهل، "قديمة ومتجددة" عند تلك التنظيمات، وهي مقياس لدرجة التكفير لديها، "فمع أن معظم التنظيمات الجهادية، تتفق علي فكرة قتل أهل البغي أو من يطلقون عليهم المرتدين، والكفار، إلا أنّهم اختلفوا في قضية الحكم على عموم الناس؛ هل هم مسلمون في الأصل أو كفار في الأصل؟ أم يتوقف التنظيم على الحكم عليهم فلا يحكم عليهم بالإسلام أو الكفر؟، ومن هنا نشأت فرقة التوقف والتبيين، والتي لا تحكم على الشخص بالإسلام، ولا بالكفر ولكن تتوقف حتى تختبر عقيدته ونيته".
ويختم عبدالمنعم بقوله: من هنا نشأت قضية من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم؛ فهو كافر، واعتبار هذا أصلاً من أصول الدين.
"داعش" الأكثر تشدداً
في عددها رقم 85 الصادر في 14 حزيران (يونيو)، من العام 2017، نشرت صحيفة "النبأ" التابعة لتنظيم "داعش"، مقالاً بعنوان "رموز لا أوثان"، وصفت فيه حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان، وعطية الله الليبي، القيادي في القاعدة، الذي لقي حتفه في غارة أمريكية، وأبو مصعب السوري، المنظر السلفي الجهادي، بـ"المرتدين".
بعدها نشر مناصرو التنظيم على شبكات التواصل الاجتماعي، تسجيلاً صوتياً قديماً منسوباً لزعيم "داعش" أبو بكر البغدادي، بتاريخ 22 آب (أغسطس) من العام 2011، وهو يرثي فيه "الليبي" ويصفه بـ"العالم العامل المجاهد، صاحب العلم والوقار"، وهو أكد بقوة وجود تضارب فكري ومنهجي بين تيارين رئيسيين في التنظيم.
لكن اللافت في المقال هو تحذير كاتبه من تقديس القيادات أيّاً كانت مواقعهم، في إشارة شبه صريحة إلى "البغدادي" نفسه، موضحاً "فنحذِّر من ربط جماعة المسلمين بعقيدة شخص من الأشخاص أو سنّته، مهما ظهر من صلاحه وتقواه، واتّباعه للسنة، وبراءته من الشرك وأهله، ومهما كان له من فضل وجهاد وإمامة في الدين".
بعدها توقفت جريدة "النبأ" الإلكترونية عن الصدور –على غير العادة- نحو أسبوعين، ثم عادت لتنطلق بسياسة جديدة، وتغييرات في الشكل الإخراجي، وتحدث على أثر ذلك عدد من أنصار التنظيم على موقع التواصل "تليجرام" عن أن هناك تغييرات قد طرأت؛ فتم تغيير الطاقم المشرف على صدورها بل واعتقاله.
وتسربت وثائق، حصلت "حفريات" على نسخة منها، تكشف تفاصيل المعارك الداخلية، بين تيارين داخل التنظيم أولهما "التيار الحازمي"، نسبة إلى أحمد بن عمر الحازمي، المعتقل حالياً في سجون السعودية، الذي يعتقد بـ"عدم العذر بالجهل وتكفير المعين والعامي وتكفير من لم يكفّره"، والثاني تيار "البنعلية" نسبة إلى تركي بن علي، أحد كبار من يُسمّون بـ"الشرعيين" في "داعش"، الذي وإن لم يعذر بالجهل إلا أنّه وضع ضوابط شديدة على تكفير من لم يكفِّر العاذر، وهي التي أسفرت عن انتشار القتل والاعتقال بين العناصر المنضمة لكل تيار.
وحسب تلك الوثائق، فإنّ خلافات التنظيم اندلعت بين قيادات ما يعرف باسم "اللجنة المفوضة لإدارة الولايات"، وهي اللجنة التي كلّفها أبوبكر البغدادي، في أيار (مايو) 2017، بإدارة التنظيم والإشراف على مناطق سيطرته في العراق وسورية، بعد أن اختفى عن الأنظار نتيجة اشتداد الحملة العسكرية ضد تلك المناطق، وخوفه من السقوط في يد "التحالف الدولي".
ولم تتوقّف الأمور عند هذا الحد، فقد بعث تركي البنعلي، وهو مفتي التنظيم السابق، رسالة إلى "اللجنة المفوضة" - حصلت "حفريات" على نسخة منها- يطالبها فيها بالتوقف عن "التوسع في التكفير" وإصلاح الأخطاء التي ارتكبوها، وأرسل أبو مسلم الحسيني، وهو ابن عم البغدادي ومسؤول ما يعرف بـ"مكتب البحوث والدراسات" التابع للتنظيم، رسالة "شديدة اللهجة" لزعيم التنظيم، طالبه فيها بالتدخل لوضع حد للهزائم و"الانحرافات" المختلفة داخل التنظيم.
وقال الحسيني في رسالته، إن التنظيم سينهار على الفور؛ لأنّ القيادات التي كلفها البغدادي، "تكذب على الله ورسوله وتقول إنّها أسست خلافة على منهاج النبوة".
وأضاف قائلاً: "القيادات كانت تساوم سيدات التنظيم على أعراضهنّ مقابل المال، بالإضافة إلى أنّهم تحرّشوا بالسجينات داخل سجون التنظيم".
ومع ذلك فقد نجح "الحازميون" في إقصاء كبير شرعيي "داعش" تركي بن علي، ودخل بعدها في جدال عنيف مع قياداتهم، قبل أن يقتل بقصف لطائرات التحالف في 29 أيار (مايو) 2017، مما أدى بأنصاره إلى اتهام خصومه بالإبلاغ عن مكان تواجده لقوات التحالف الدولي.
المفوضون يفتشون على عقيدة "داعش"
تتكون "اللجنة المفوضة لإدارة الولايات" في "داعش" من 4 قيادات، هم: أبو إسحاق العراقي، وأبو حفص الجزراوي، وأبو مرام الجزائري، وعبدالناصر العراقي، والأخير هو أمير اللجنة، ومعروف عنه قتل عناصر التنظيم المختلفين معه.
وقالت مصادر إنّ البغدادي عزل عبدالناصر العراقي من منصبه، وكلّف عبدالله العراقي بإدارة اللجنة المفوضة، لكن الأخير أصدر مع باقي القيادات الإرهابية بياناً بعنوان: "ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة"، وهو بيان مكون من 7 صفحات يتوسع في "مسألة التكفير"، لدرجة أنّه كفّر قيادات التنظيم السابقين، أمثال "أبو مصعب الزرقاوي وأبو حمزة المصري وأبو عمر البغدادي"، كما بدأ الحديث داخل التنظيم عن تكفير زعيمه الحالي أبوبكر البغدادي إذا لم يتوافق مع هذا الرأي.
كما أسس أعضاء "اللجنة المفوضة" لجنة جديدة داخل التنظيم تشبه الشرطة السرية، عُرفت باسم "لجنة الرقابة المنهجية"، مهمتها التفتيش على "عقيدة" عناصر "داعش"، والتأكّد من انتهاجهم الفكر التكفيري الإرهابي، ومن يثبت عليه مخالفة هذا الفكر تُصفّيه اللجنة أو ترسله إلى إحدى الجبهات المشتعلة ليُقتل على يد أعداء التنظيم.
وشنت تلك اللجنة حملة اعتقالات واسعة ضد قيادات التنظيم الأخرى؛ بحجة "الانحراف المنهجي"، وهو تعبير يستخدمه التنظيم للإشارة إلى تبنّي أي عضو فيه فكراً خلاف المتفق عليه داخل التنظيم.
وأسفرت تلك الحملة عن اعتقال أحد كبار القيادات الشرعية داخل التنظيم، المعروف بـ"أبو عبدالبر الصالحي"، وهو كويتي انضم إلى "داعش" في العام 2014، وقُتل قبيل عدة أسابيع في غارة جوية على السجن الذى كان محتجزاً فيه، بالإضافة إلى تهديد باقي قيادات التنظيم داخل ما يعرف بـ"التيار الشرعي" بالقتل واعتبارهم أخطر على التنظيم من الأمريكان.
قمع التيار الحازمي
تعالت أصوات التيار "الحازمي" في منتصف العام 2014، إلا أنّه قوبل بقمع شديد من قادة التنظيم الذين كانوا يحكمون قبضتهم عليه في ذلك الوقت، فاعتقل وقُتل عدد من الأفراد والقادة، من ذوي الجنسيات المتعددة، على إثر إعلانهم عن تكفير "الظواهري"، و"الجولاني"، و"طالبان".
وكانت البداية باعتقال أبو عمر الكويتي، في آب (أغسطس) 2014، ثم إعدامه في أيلول (سبتمبر) من العام نفسه، وأعقبه إعدام التونسي أبو جعفر الحطاب في 7 آذار (مارس) 2015، الذي اعتُقل مع مجموعة أخرى من الحازميين في أيلول (سبتمبر) 2014، وكان أبرز المعتقلين حينها حسب بيان للحازميين في هذا التاريخ منشور على الإنترنت: أبو جعفر الحطاب، أبو مصعب التونسي، أبو أسيد المغربي، أبو الحوراء الجزائري، أبو خالد الشرقي، أبو عبد الله المغربي، وفق تقرير لصحيفة الشرق الأوسط نُشر في 24 أيلول (سبتمبر) 2017.
وتتابع الصحيفة أن أحد أنصار التيار الحازمي كتب بياناً في أيلول (سبتمبر) 2014، وقّعه باسم "مصلحة التوحيد" وعنونه: "مناصرة الإخوة المأسورين في دولة الجهمية الكافرين"، في إشارة إلى "داعش" بعد أسر شيوخ هذا الفكر المذكورين، واصفاً دولة "داعش" بدولة الكفار الملاعين والتجهّم قائلاً: "تجاوزت دولة البغي والتجهم مرحلة البيانات الكاذبة، إلى التحرك الميداني باختطاف المؤمنين من منازلهم، والزجِّ بهم في غياهب السجون، لأجل تكفير المشركين، وصاحب ذلك ترويع نسائهم، وانعدام الأمن والأمان الذي كان يَحلم به كلُ موحِّد في ظل دولة البغدادي، وفعلوا كما يفعل الطواغيت المعاصرون تماماً".
البغدادي يخرج من مخبئه
وذكرت صحيفة "الدستور" المصرية في 17 أيلول (سبتمبر) 2017، نقلاً عن مصادر خاصة، أنّ البغدادي خرج من مخبئه واجتمع بالقيادي الشرعي في "داعش"، أبوبكر القحطاني، السعودي الجنسية، واتفق معه على إعادة ضبط الأمور داخل التنظيم، وأجرى البغدادي جولة على عدد من نقاط "داعش"، والتقى عناصرها، وأكد أنّه يتولى الأمور بنفسه حالياً، وسيزيح قيادات "اللجنة المفوضة".
وأضافت: استدعى البغدادي كلاً من أبومرام الجزائري، وأبو حفص الجزراوي، بالإضافة إلى أبو عبدالرحمن الشامي وأبو عبدالرحمن الزرقاوي، من قيادات ما يعرف بـ"تيار المناهجة"، وعقد مناظرة بين الطرفين حول قضايا التكفير والممارسات الأخيرة لـ"اللجنة المفوضة"، وأسفرت المناظرة عن انتصار "تيار المناهجة"، وعلى إثر ذلك تم اعتقال أبو مرام الجزائري وأبو حفص الجزراوي وغيرهما من قيادات "اللجنة المفوضة"، ونقلهم إلى سجن سري تابع للتنظيم.
وانتهى الأمر، وفق الصحيفة، بتكليف البغدادي أبو عبدالرحمن الشامي، إدارة شؤون "اللجنة المفوضة"، وإصدار بيانات جديدة تردّ على البيان القديم الخاص بالتكفير، وبعدها نشرت اللجنة الجديدة بياناً تلغي بموجبه التعميم الأخير لقيادات التنظيم الذين سجنوا بحجة تكفيرهم.
وبعد خطاب البغدادي الأخير، الذي بثته مؤسسة الفرقان التابعة لـ"داعش" في 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2017 وحمل عنوان "وكفى بربك هادياً ونصيراً" الذي انحاز فيه لـ "التيار المنهجي" أو ما يُسمى بـ "البنعلي"، فمن المتوقع أن يشهد التنظيم موجة جديدة من الانشقاقات والتمرد قد تسفر عن مفاجآت جديدة.