لبنان وذهنية الولي الفقيه: هكذا يصادر الملالي جغرافيا الإقليم لصناعة "الهلال الشيعي"

لبنان وذهنية الولي الفقيه: هكذا يصادر الملالي جغرافيا الإقليم لصناعة "الهلال الشيعي"

لبنان وذهنية الولي الفقيه: هكذا يصادر الملالي جغرافيا الإقليم لصناعة "الهلال الشيعي"


14/01/2024

رامي شفيق

يمثل التفاعل والتلاقح الثقافي الفكري بين الشعوب والأمم أحد أهم المرتكزات التي تقوم عليها علاقات الدول والمجتمعات الإنسانية، بعيداً عن الضغوط والإكراهات السياسية فضلاً عن كونها تعد عاملاً راسخاً في إنتاج تفاعلات إنسانية تضفي للفضاء البشري نواتج صادقة لأجيال ممتدة عبر التاريخ. 

غير أن هناك اختراقات تجري في جدران المجتمع، بغية إحداث انحرافات في مسارها الطبيعي وتشكيل حواضن لأفكار محددة لها طبيعتها الأيديولوجية أو المسيّسة تحقق من خلالها أجندة كاملة واستراتيجية، مثلما تقوم إيران عبر أذرع ثقافية ودينية في عدة عواصم إقليمية منها لبنان واليمن والبحرين وسوريا والعراق والتي تدخل في حيز ما يعرف بـ”الهلال الشيعي”، وهي المساحة الحيوية التي تتولى فيها إدارة عملية “تصدير الثورة” وفق أدبيات الملالي. 

يضحى ذلك ماثلاً للعيان بفعل عدة اعتبارات جيوسياسية وثقافية واجتماعية ودينية، الأمر الذي يستجيب معه الواقع بتبيان مدى أثر تلك الاعتبارات في إنتاج أفكار وقيم ومقولات فلسفية ودينية مؤدلجة ومتشددة تهدم التنوع الاجتماعي وتصطدم بالبُنى الثقافية الغنية وتحوّل هذه البُنى لمربعات طائفية في صراع هوياتي وداخل تكتلات أمنية وعسكرية تباشر التحريض بخطابات كراهية.

حلقة جديدة في استراتيجية الملالي

الواقع السياسي وأدبياته كُرّس لتوظيف تلك العناصر لخدمة السياسات الخارجية كما هو الحال مع إيران في مرحلتها الخمينية، خاصة عبر استغلال الهوية الدينية والمذهبية كجزء أصيل من ممارسة المصلحة السياسية، وهذا ما يبدو بوضوح في شكل وملامح العلاقات الإيرانية بلبنان، خاصة فيما يتصل بحدود نشأة وسياق فكر وعمل ومنهاج “حزب الله” والأخير نموذج حقيقي في تطور توظيف العلاقات بين الدول والشعوب لخدمة الدوافع السياسية.

إذ تكشف العلاقات السياسية بين الدول بشكل عام، داخل فضاء النظام الدولي عن جملة من العناصر البراغماتية التي تفرض نفسها على توجهات النظام السياسي، لا سيما على مستوى المعتقدات الدينية والمذهبية والقومية والعرقية، بينما تبرز حمولة تلك المبادئ وتفاعلاتها ونواتجها في ظل تغليب نظام أيدولوجي مثل “الولي الفقيه” الذي يجعل مبادئ النظام المتشدد هي الإطار المحرك لسياساته الإقليمية والدولية، الأمر الذي يعرف بـ”عسكرة” مؤسسات الدولة.

وتبرز هذه الحالة عبر المتغيرات السياسية والتاريخية التي رافقت تأسيس “حزب الله” وكذا الحالة السياسية العامة للبنان لصالح توجهات “آيات الله” وأجنداتهم الأيديولوجية والعقائدية، والذي يتصل بحلمها نحو تمدّد الدور الإيراني عبر محيط جغرافيا الشرق الأوسط. 

ومن خلال ذلك يتخلق عامل المصلحة السياسية القوية والترابط العضوي الوثيق بين إيران و”حزب الله” الذي تجلى في مواقف سياسية عديدة منذ لحظة التأسيس والمشاركة الفعالة في ثمانينات القرن الماضي عبر الدعم الكامل والشامل سواء على مستوى الدعم الإعلامي والمؤسسي وكذلك الدعم المالي والسياسي والعسكري المتواصل.

"الهلال الشيعي" عبر لبنان

ليس ثمة شك أن شكل ومنظومة العلاقات الإيرانية اللبنانية، اتخذت أنماطاً متعددة كان من بينها المسألة الثقافية من خلال المنح الدراسية التي عرفتها إيران ولبنان منذ العهد الملكي في إيران إبان حكم محمد رضا بهلوي، وبدأ ذلك قبل أن تقوم الثورة بإطاحته بعامين حيث كانت أول منحة دراسية للطلاب اللبنانيين في طهران وكانوا حينها من المذهب الشيعي وعددهم قرابة 10 فقط. 

غير أن قيام “الثورة الإسلامية” في إيران وضع جملة من التحديات أمام تلك المِنح من خلال إصرار نظام الملالي على فرض التخصص على طلاب المنح.

ثمة مناقشات ومشاورات بين الطرفين صنعت استثناءات لطلاب لبنان، حيث لم يعمم ذلك وزير التعليم العالي الإيراني على الطلاب اللبنانيين، بينما لم يشملهم القرار الجديد، وذلك في إشارة لافتة على الموقع الذي تتموضع فيه لبنان بخارطة إيران الإقليمية وسياستها الاستراتيجية وقد كان هناك حالة من الوعي للطبقة والنخبة الحاكمة في إيران بضرورة تعبئة المجتمع الشيعي اللبناني لحساب طهران و سياساتها ومصالحها.

تشمل المنحة الدراسية السفر والإقامة والطعام والمصاريف الإدارية، بالإضافة لمنح طلاب الدكتوراه لراتب شهري حتى يستطيعوا شراء حاجاتهم الإضافية. ووصل عدد المنح الدراسية التي توفّرها إيران للطلاب اللبنانيين في الفترة بين عامي 2020 و2021 حوالي 148 منحة دراسية وتدريبات قصيرة المدى على مدار السنة. إذ عملت طهران على زيادتها حتى تضمن حضور أذرع وظيفية عند عودتهم لبلادهم.

يبدو ذلك واقعياً مع فحص الحالة الديموغرافية في لبنان، وواقع الحالة الدينية. إذ يعتبر الدين الإسلامي الدين الأكبر والأكثر شيوعاً في لبنان ويقدر حوالي 69.4 بالمئة من السكان. لكن تعتبر الطائفة الشيعية أكبر طائفة في لبنان وتمثل 31.6 بالمئة من الشعب اللبناني. أما الطائفة الإسلامية السّنية تقدر 31.3 بالمئة، وتأتي ثاني ديانة في لبنان وهي المسيحية وتقدر بحوالي 30.6 بالمئة من عدد السكان.

كما تهتم إيران بترميم المؤسسات الدينية في لبنان دائماً. وكان واضحاً بعد الحرب الإسرائيلية في العام 2006 حرص طهران البالغ على إنشاء لجنة إعادة إعمار لبنان وضمت دور العبادة والمؤسسات الدينية وأضحت بتلك اللجنة تمتلك إيران نحو 42 مركز تربوي وكذلك 51 داراً للعبادة مما يعكس الاهتمام الواضح بالدعم الإيراني للمؤسسات الدينية في لبنان بهدف نشر التعاليم الشيعية في نسختها الخمينية وبقالبها السياسي والأيديولوجي الذي تعبّر عنه في نموذج “الولي الفقيه”. ومن هنا، تعميم الثقافة بالشكل المسيس لتسهيل عملية توظيف الحالة العقائدية والمذهبية الإيرانية في لبنان.

الحرب الباردة الجديدة في لبنان

في هذا السياق يبدو واضحا مدى النفوذ الذي خلقته طهران في لبنان من خلال وكيلها المباشر “حزب الله” الذي يتحرك طبقا لأركان ومحددات السياسة الخارجية الإيرانية. وقد نفذ “حزب الله” إلى الفضاء السياسي في لبنان من خلال انتخابات البرلمان لأول مرة في العام 1993 وقد فاز حينها باثنى عشر مقعداً نيابياً وفاز أيضا بـ10 مقاعد في انتخابات العام 2009 البرلمانية. 

كما نجح “الحزب” في إحداث الفراغ الرئاسي كما حدث قبل بضع سنوات لتحقيق أو فرض أجندته السياسية الإقليمية تحديداً استكمال دوره العسكري في سوريا والذي كان سببا في معارضة شديدة ضده في أوساط سياسية لبنانية عديدة.

بينما كان الدور السياسي الأبرز والأخطر لـ”حزب الله” في لبنان خلال العام 2011، حينما نجح في إسقاط حكومة الوفاق اللبنانية بقيادة سعد الحريري من خلال رفض “حزب الله” معظم قرارات الحكومة؛ لأن الأخيرة كانت تريد عرقلة دور “الحزب” وسلاحه، بعدما سيطر الحزب على معظم أراضي الدولة اللبنانية، كما رفض “حزب الله” قرارات نزع السلاح ورفض الانضمام للجيش اللبناني، الأمر الذي أدى في النهاية لسقوط الحكومة اللبنانية.

إلى ذلك يذهب الأكاديمي اللبناني، باسل فرحان صالح، بقوله إلى أنه في حال حدوث أي اهتزاز في محددات ومرتكزات العلاقة بين إيران وبين و”حزب الله”، أو حصول أي قطع للخط الواصل بين طهران والحزب، سيكون له أثر مباشر لناحية نقل الأموال والسلاح وخلافه وما يعنيه ذلك من تأثير سلبي على قوة الحزب.

ويلفت صالح في سياق حديثه لـ”الحل نت”، إلى أنه من الصعب أن يحدث أي قطع للعلاقة بين الطرفين، لأن الحزب ليس كغيره من حلفاء إيران، فهو يرتبط عضوياً بالقيادة والعقيدة الإيرانية. لكن إيران في النهاية دولة لها مصالح، ويمكن أن تفاوض، في وقت الشدة، على كثير من الأمور، ناهيك عن أي إمكانية للتغيير داخل إيران نفسها لسبب أو لآخر.

ففي حال حدوث أي اهتزاز لهذه العلاقة يسمح الهامش الحر للحزب بأن يكون له حسابات مختلفة. فمن الممكن أن ينقلب على الداخل وأن يهيمن على لبنان عسكريا بشكل تام (على غرار أحداث 7 أيار/مايو 2008)، وأن يسيطر على مناطق جغرافية بأمها وأبيها تتخطى تلك التي يسيطر عليها في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت، وفق الأكاديمي اللبناني. 

كما وأنه من الممكن أن ينقلب على قوات الطوارئ الدولية، بما ينعكس في إيصال رسائل إلى المجتمع الدولي وقوامها أن القرارات الدولية لا تعنيه في شيء وغيرها الكثير من السيناريوهات المحتملة التي قد يلجأ إليها. 

لبنان كبش فداء لإيران

في هذا السياق الملتوي، يرى الأكاديمي اللبناني باسل صالح في حديثه لـ”الحل نت”، أن كل تلك السيناريوهات قد يلجأ الحزب إليها إذا ما شعر أن المعركة باتت “معركة وجودية”، وأنه لا سبيل إلى حماية نفسه والإبقاء على نفسه كجزء أساس في طاولة المفاوضات إلا من خلالها ومن خلال قلب الطاولة على الجميع.

تظهر هذه الصورة التي تم التقاطها في 8 يناير 2024 لافتة تصور الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله معلقا على المبنى الذي تعرض لهجوم بطائرة بدون طيار، مما أسفر عن مقتل الرجل الثاني في حماس في معقل حزب الله حليف حماس بجنوب بيروت في 2 يناير 2024. ( تصوير أنور عمرو / وكالة الصحافة الفرنسية)

هذا لا يعني أن الحزب وفق صالح لا يهيمن اليوم على الدولة اللبنانية كونه الطرف الأقوى فيها، وهذا ما ظهر في عدة مفاصل كان أبرزها في تكليف رؤساء الحكومة وفي تشكيل الحكومات وفي إيصال ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية. 

فالحزب يقرر في الأمور الاستراتيجية ويترك الأمور التفصيلية الصغيرة للقوى التقليدية بما يسمح له لعب دور ثنائي خارج وداخل الدولة أقله على مستوى الخطاب، وبما يسمح له من تنسيق وقياس أداء تلك القوى، بما لا يتخطى الوضع المستقر القائم كونه كحزب لا يمتلك أي تصور بديل ولا أي مشروع سياسي مختلف يحكم الدولة على أساسه. ناهيك عن أن النظام الطائفي السائد هو شرط أساس من شروط وجود واستمرار الحزب تمامًا كما غيره من القوى المهيمنة. 

يختتم الأكاديمي اللبناني حديثه قائلاً: “ثمة ضرورة للانتباه إلى أن إيران سعت نحو تعزيز هويتها الثقافية والعقائدية في جنوب لبنان، خاصة كما في بقية العواصم العربية التي هيمنت عليها والتي احتلتها من خلال الإمعان في مصادرة الجغرافيا إلى تعزيز مسح الهوية الوطنية التعددية و العابرة للطوائف وللفئوية المناطقية لصالحها وصالح هويتها الثقافية والعقائدية الواحدة، وأدت فيما أدّته إلى تغيير العادات والتقاليد الاجتماعية التي كانت سائدة. 

غير أن هذا التغير على المستوى الثقافي و الهوياتي لا يهيم في الفضاء بل هو مرتبط بعلاقات اقتصادية وطبقية ووشائج اجتماعية، أي أنه يرتبط بشروط ومحددات استمراره. فالثقافة ترتبط أولاً وأخيراً بشكل مباشر وغير مباشر بشروط إنتاج العيش، وإلا لن تصمد أمام أي اهتزاز على النحو الذي قد يحدث للعلاقة بين الطرفين إذا ما وصلت الأمور إلى هذا الحد المستبعد حتى اللحظة.

عن "الحل نت"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية