بعد تطور العلاقات مع الصين... هل تتخلى دول الخليج عن الولايات المتحدة؟

بعد تطور العلاقات مع الصين... هل تخلت دول الخليج عن الولايات المتحدة؟

بعد تطور العلاقات مع الصين... هل تتخلى دول الخليج عن الولايات المتحدة؟


19/06/2023

فرضت تطورات العلاقات بين الصين ودول الخليج العربية الكثير من التساؤلات عمّا إذا كان هناك تَوَجُّهٌ خليجيٌّ يدفع نحو التخلي عن الولايات المتحدة، أو على الأقل تحديد العلاقة معها، أو الدفع باتجاه الاعتماد على بكين، كحليف جديد للحفاظ على استقرار المنطقة. أم أنّ الأمر لا يعدو أن يكون مناورة خليجية لخلق شيء من التوازن في علاقات دول الخليج مع القوى الكبرى في العالم، لا سيّما بعد أن بات هذا العالم يشهد تنافساً شديداً على النفوذ في المناطق الإقليمية المهمة، وعلى رأسها الشرق الأوسط.

مركز (تريندز) للبحوث والاستشارات تناول في دراسة له نشرها عبر موقعه الإلكتروني دوافع وتأثيرات التقارب بين الصين ودول الخليج، خاصة عقب القمة الخليجية-الصينية التي عقدت في كانون الأول (ديسمبر) 2022 في الرياض بحضور الرئيس الصيني شي جين بينغ.

وأضاف مركز البحوث: "لم يختلف نشاط الدبلوماسية الخليجية بقيادة المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة عمّا كان عليه قبل هذه القمة، إذْ استمرت كُلٌّ من الدولتين في اتباع استراتيجيتهما القائمة على تصفير المشاكل وتحجيم الأزمات مع دول الجوار، وأيضاً مع غيرها من دول العالم، لكنّ هذا التواصل لم يَعُد يجري بأسلوب ومنطق ما قبل عام 2013، بعد أن شهد ذلك العام أكبر انعطافة في العلاقات الخليجية-الأمريكية، حين كشف رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان حقيقة الموقف الأمريكي تجاه ما كان يُسمّى بثورات "الربيع العربي"، ومُفاد هذه الحقيقة أنّ الولايات المتحدة حليفٌ لا يمكن الاعتماد عليه على المدى الطويل.

هل هناك تَوَجُّهٌ خليجيٌّ يدفع نحو التخلي عن الولايات المتحدة، أو على الأقل تحديد العلاقة معها؟

في المقابل، تقوم الصين –إلى أقصى درجة– باستغلال هذا الخلاف الخليجي الأمريكي، حيث بدأت تُوَسّع وتُنَوّع علاقاتها مع كل مغامرة أمريكية جديدة لكي تُرَسّخ تواجدها وتُعَمّق علاقاتها في المنطقة، إلى أن نجحت وساطتها أخيراً في حلحلة الخلاف بين السعودية وإيران، والذي كان يُعَدُّ من أعقد الأزمات التي مرت بها منطقة الشرق الأوسط –وليس منطقة الخليج فحسب– لا سيّما في الأعوام الأخيرة، على اعتبار أنّ التنافس على النفوذ في هذه المنطقة قد أدّى إلى حدوث صداع مزمن فيها، وكان له تداعيات مختلفة على الوضع في الإقليم ككل. أمّا بعد الوساطة الصينية، فقد أصبح هناك لغة دبلوماسية جديدة، تغلب عليها الرغبة في حلحلة الأزمات، والحرص على تجاوز كل الخلافات، وسادتْ لغة تبادل الاستثمارات والتفاهمات، وهذا يُحسب للدبلوماسية الصينية.

ووفقاً للدراسة فإنّ الدول الخليجية ترغب اليوم في إقامة علاقات متوازنة، وتحاول أن تحقّق هذه الرغبة، ولكنّها تفعل ذلك بطريقة من يمشي على حبل مشدود. ومن المعروف أنّ هناك حالة من التنافس الشديد تسود أجواء المنطقة، فهناك رغبة صينية جامحة في لعب أدوار نشطة في المنطقة، وإن كانت وفق أسلوب الدبلوماسية الهادئة. وفي المقابل لا يمكن إنكار عمق العلاقة الاستراتيجية التي تربط دول الخليج بالولايات المتحدة، والتي تتغلغل في تفاصيل كثيرة، وتسود في سياقها مصالح كبيرة ومتنوعة.

الصين استغلت الخلاف الخليجي الأمريكي، وبدأت تُوَسّع وتُنَوّع علاقاتها وتُرَسّخ تواجدها في المنطقة، إلى أنّ نجحت وساطتها في حلحلة الخلاف بين السعودية وإيران

ما زال هناك أيضاً قناعة لدى الدول الخليجية بأنّ بعض السياسيين الأمريكيين –وليس كلّهم– هم الذين يهددون قوة ومتانة العلاقة بين الجانبين، وهذه المجموعة من السياسيين ينتمي أغلبها إلى الحزب الديمقراطي. ومن هذا المنطلق نجد أنّ السياسيين الأمريكيين أصبحوا يترددون ويتناوبون على زيارة الدول الخليجية بين الفترة والأخرى، ويؤكدون في تصريحاتهم على أهمية الحفاظ على العلاقة مع هذه الدول وتعزيزها، في دلالة واضحة على أنّ الإدارة الأمريكية الحالية بدأت تراجع سياساتها، لا سيّما بعد أن اكتشفت أنّ هذه السياسات كانت سبباً في حدوث بعض التوترات. ولكن ينبغي أن يُوضع في الحُسبان أنّ هذه المراجعات –حتى الآن– لم تبلغ المرحلة التي تَبُثُّ الطمأنينة في نفوس الدول الخليجية، فعلى سبيل المثال نجد الولايات المتحدة تُجري مفاوضات نووية سرية مع إيران، وفي الوقت نفسه تتعمد تجاهل وجهة النظر الخليجية في هذا الملف حتى هذه اللحظة.

وأضاف المركز أنّه من المؤكد أنّ سياسات ومواقف دول الخليج قد تغيرت، انطلاقاً من تغيُّر طريقة إدراكها لمصالحها، وتقديراتها لكيفية تحقيق تلك المصالح، فضلاً عن مواجهة التحديات ومصادر التهديد القائمة والمحتملة. غير أنّ هذا التّحوُّل لم يأتِ من فراغ، ولم يحدث فجأة، أو بشكل غير مبرر. بل على العكس؛ فقد كانت دول الخليج حريصة على استمرار علاقاتها الاستراتيجية الوثيقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وإبقائها على ما كانت عليه دائماً من وثوق وترابط وتنسيق. وبالرغم من كل ذلك فإنّ شعوب وحكومات الخليج اكتشفت أنّ هذا الرهان – الذي كان دائماً الأول والوحيد– هو رهان في غير محله، لا سيّما بعد أن أثبتت واشنطن مراراً وتكراراً أنّ الترابط والتنسيق والوشائج العميقة التي تجمعها بدول الخليج كانت دائماً تأتي انعكاساً لوجهة النظر الأمريكية، ولم تكن قَطُّ نابعةً من وجهة نظر مشتركة أو متبادلة مثلما ينبغي لها أن تكون.

هناك مشاهد كثيرة ومتكررة من الخذلان الأمريكي، ليس لدول الخليج فحسب، وإنّما لكل الدول العربية

لقد كانت هناك مشاهد كثيرة ومتكررة من الخذلان الأمريكي، ليس لدول الخليج فحسب، وإنّما لكل الدول العربية، إذْ بدأت الولايات المتحدة الأمريكية تُقْصِي الشرق الأوسط عمّا يستحقه في استراتيجياتها الإقليمية الجديدة، ليس فقط من حيث الحياد والعدالة والموضوعية، بل أيضاً من حيث الاهتمام والمتابعة. بل إنّها أيضاً بدأت تستبعد دول الشرق الأوسط من أيّ تنسيق حقيقي، حتى في الملفات التي كانت تمثل قمة أولويات دول الخليج، مثل الاتفاق النووي الإيراني؛ ومن ثَمَّ انتقل الاهتمام والتنسيق بالطبع لصالح مناطق إقليمية أخرى، مثل شرق آسيا ومنطقة الإندوباسيفيك عموماً. وقد انعكس هذا الأمر في عدة مظاهر؛ أهمها التحركات الأمريكية التي تركت فراغات أمنية، ومنها الانسحاب من العراق، الذي كان سبباً مباشراً في خروج تنظيم (داعش) إلى العلن، وهو أخطر تنظيم إرهابي مَرّ على هذه المنطقة على مدار التاريخ. ثم تبنّت واشنطن مواقف ضعيفة ومتخاذلة إزاء الفوضى الأمنية التي بدأت تنتشر في كل المنطقة العربية بين عامي 2011 و2012؛ بسبب إطلاق يد تنظيم (الإخوان المسلمين)، بل ودعمه وتشجيعه، وتوفير الغطاء السياسي له. ثم بادرت إلى التقارب مع إيران، وتبنّت مواقف متساهلة تجاهها، وأجرت مفاوضات مباشرة معها، والتي أسفرت عام 2015 عن اتفاق نووي يشوبه كثير من النواقص، ويتضمن حزمة من الألغام سياسياً وتقنياً واقتصادياً، حتى اضطرت هي نفسها إلى الانسحاب منه لاحقاً في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب.

ما زالت هناك قناعة لدى الدول الخليجية بأنّ بعض السياسيين الأمريكيين يهددون قوة ومتانة العلاقة بين الجانبين، وهذه المجموعة تنتمي أغلبها إلى الحزب الديمقراطي

وتابعت الدراسة: إنّه في ظلّ استمرار تلك المواقف المتجاهلة للعلاقات التاريخية التي تربط الدول الخليجية بالحليف الأمريكي، فقد بات من الضروري والمُعلن أن تتحرك دول الخليج نحو البحث عن بدائل من الحلفاء الدوليين، وتنويعهم، والاعتماد على الكفاءات الوطنية للدول الخليجية، وأصبح هذا المسعى علنياً، إذْ رفضت هذه الدول أن تتحيَّز ضد روسيا في حربها مع أوكرانيا، وبدلاً من ذلك فقد وقفت موقفاً محايداً من الحرب، في الوقت الذي تورطت فيه الدول الأوروبية في انحياز صريح. ووصل الأمر بدول الخليج إلى حَدّ أنّها رفضت أن يتم تسييس نفطها في الحرب الروسية الأوكرانية، وتجسّد ذلك في موقفها حين رفضت سد النقص في النفط الروسي بعد فرض العقوبات عليها. بل إنّ الموقف الخليجي تصاعد أكثر من ذلك حين عبَّرت دول الخليج عن رفضها للزيارة التي قامت بها رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي إلى تايوان، واعتبرتها زيارة استفزازية؛ بمعنى أنّها بدأت تحدد اتجاه استراتيجيتها للحفاظ على مكتسباتها وأمنها الوطني وفق ما تراه مناسباً لها، وبدون التشاور مع الحليف الأمريكي، لدرجة أنّه فوجئ بصدور إعلان التحالف العربي لإعادة الشرعية في اليمن عام 2015.

هذا، وسعت دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية إلى توسيع شراكاتهما مع مختلف دول العالم، واستحدثت استراتيجية تنويع الحلفاء الدوليين الذين يمكن الثقة بهم، في عالم يغلب عليه الحراك والتغير بصورة لافتة؛ بهدف التخفيف من الارتباط بالولايات المتحدة، وتخصيص جزء من مساحة ذلك الارتباط للتقارب مع منافِسَيْها التقليديَّيْن في العالم، وهما الصين وروسيا. وقد وصل قادة دول الخليج إلى قناعة بأنّ كُلّاً من موسكو وبكين لديهما حرص على الحفاظ على سيادة الدول وعلى استقرار حكوماتها وأنظمتها السياسية والاقتصادية والمجتمعية، باعتبارها الأساس والمحرك الكفيل بتنفيذ ورعاية التنمية الاقتصادية، مع الاستمرار بتطويرها في الوقت ذاته، في حين أنّ التوجه الغربي يُصِرُّ على دعم بعض القوى الداخلية ذات الأهداف الخاصة والأجندات الضيقة، تحت شعارات سياسية دفعت القوى الغربية لأن تتدخل في الشؤون الداخلية للدول تحت تلك المسميات والشعارات غير الحقيقية مثل: دعم الحريات وحقوق الإنسان.

 العلاقات الخليجية-الصينية اكتسبت زخماً كبيراً

وأضافت الدراسة: إنّ العلاقات الخليجية-الصينية اكتسبت زخماً كبيراً، لا سيّما بعد تلك الزيارة التي قام بها الرئيس الصيني شي جي بينغ إلى الرياض خلال الفترة من 7 – 9 كانون الأول (ديسمبر) 2022؛ حيث كشفت هذه الزيارة عن اهتمام متبادل بين الطرفين، الخليجي والصيني،  لتنويع علاقاتهما وتوسعتها، لكي تتعدى الجانب التجاري والاستثماري الذي كانت تقتصر عليه من قبل مثل تلك الزيارات، ليشمل مجالات سياسية واستراتيجية. وقد تم تتويج كل ذلك بنجاح الوساطة الصينية بين السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، حيث استطاعت إحداث اختراق دبلوماسي لجمود العلاقة الأكثر تعقيداً في المنطقة.

ومن الطبيعي أن تبحث دول الخليج عن التوازن في علاقاتها الدولية، غير أنّ ذلك –في المقابل– لن يكون على حساب التضحية بعلاقاتها مع الولايات المتحدة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى واشنطن التي بدأت المؤسسات التقليدية فيها تراجع حساباتها الاستراتيجية تجاه المنطقة.

والحقيقة أنّ الإدارة الأمريكية الحالية لديها مشكلة كبرى في فهم متغيرات المنطقة والعالم، والتي لا يمكن حلها بالوسائل التقليدية التي كانت تتبعها قبل عام 2013، لا سيّما بعد أن أصبحت الدول الخليجية لاعباً مؤثراً نسبياً في السياسة الدولية، وباتت تجيد لعبة العلاقات الدولية.

سياسات ومواقف دول الخليج قد تغيرت، انطلاقاً من تغيُّر طريقة إدراكها لمصالحها، وتقديراتها لكيفية تحقيقها، فضلاً عن مواجهة التحديات

وخلاصة الأمر أنّه إذا لم تتقاطع مصالح الإدارة الأمريكية مع مصالح دول الخليج، فلن يكون بإمكانها أن تمنع دول الخليج، أو تطالبها بعدم ترسيخ علاقاتها مع الصين الصاعدة.

وفي الوقت ذاته، دائماً ما تؤكد الحكومات الخليجية على أنّ واشنطن حليف استراتيجي لا ترغب في التخلي عنه. لكنّها فقط تؤكد –من خلال هذه الواقعية السياسية– أنّ التطورات الاستراتيجية الأخيرة في المنطقة والعالم تفرض عدم الاعتماد على حليف واحد، حسبما ذكر مركز البحوث في دراسته.

وذكر المركز محددات تفسر التفاهم بين الدول الخليجية والصين، وهي محددات تتعلق بالإرادة السياسية، والتنمية والتعاون والمكاسب المشتركة، بالإضافة إلى المحدد الاقتصادي كمدخل لبناء علاقات قوية من المصالح.

وأضافت الدراسة أنّ كل ما تفعله الدول الخليجية من خلال توطيد علاقتها بالصين هو أنّها توائم بين أيّهما الأقدر على تحقيق مصالحها في اللحظة الآنية، ولكن دون الاعتماد الكامل عليه، من منطلق أنّه لا يوجد صديق دائم ولا عدو دائم، ولكن هناك مصالح دائمة. بل إنّ الدول الخليجية قد باتت تُحسن اختيار التوقيت في ممارسة الضغط على الحليف الدولي من أجل استمرار العلاقة معه وفق منطق "شعرة معاوية". وهاتان السياستان هما اللتان تحققان الربح والفائدة للدول الخليجية. ومن أجل الوصول إلى هذه النقطة من التوازن الاستراتيجي بين القوى الدولية، قد يبدو للمراقبين أنّ الحضور الصيني بارز ومسيطر على المشهد الخليجي، ومع ذلك فإنّه من غير المرجح أن تتخلى الدول الخليجية عن علاقاتها العميقة مع الولايات المتحدة، وإنّما كُلُّ ما في الأمر أنّه سيكون لديها شيء من المرونة في الاتفاق والاختلاف أكثر ممّا كان عليه الأمر في السابق، بعد أن كان يُنْظَر إلى هذه العلاقة فيما مضى على أنّها علاقة تابع بمتبوع.

مواضيع ذات صلة:

القمة الخليجية الصينية: هل تتراجع بكين عن سياستها تجاه طهران؟

تعاظم دور دول الخليج في 2023... ما الأسباب؟

ما هي أهم التحديات التي تواجه الأمن الخليجي؟ وكيف يمكن التصدي لها؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية