الوحدة اليمنية: بين مقتضيات المصلحة وأحلام الماضي

الوحدة اليمنية: بين مقتضيات المصلحة وأحلام الماضي

الوحدة اليمنية: بين مقتضيات المصلحة وأحلام الماضي


22/05/2023

احتفل اليمنيون الوحدويون في 22 أيار (مايو) الجاري بمرور (33) عاماً على الوحدة اليمنية (1990)، وقبلها بيوم احتفل المجلس الانتقالي الجنوبي بمرور (29) عاماً على فك الارتباط عن الشمال. وهو فك ارتباط شكلي؛ فالوحدة اليمنية مستمرة إلى اليوم شكلياً أو رسمياً؛ بحكم أنّ جنوب اليمن ما يزال ضمن مسمّى الجمهورية اليمنية ولم يكتسب صفة الاستقلال، رغم محاولات تحقيق هذا الهدف منذ حرب (94) التي يعدّها البعض تأريخاً لانتهاء الوحدة. واللافت أنّ عيدروس الزبيدي يشغل منصب رئيس المجلس الانتقالي، وهو في الوقت نفسه عضو في المجلس الرئاسي اليمني، ولا تخلو هذه الازدواجية من وجه براغماتي ناتج عن ضغوط خارجية وانعدام القرار الداخلي المستقل.

أحلام الوحدة

أتت حرب (94) ردّاً على إعلان علي سالم البيض الانفصال، لكنّ الحقيقة أنّ الحرب غير المعلنة كانت قد سبقت هذا التاريخ بشراء ذمم قيادات الحزب الاشتراكي، شريك الوحدة، واغتيال من لم يتمكن علي عبدالله صالح من شراء ولائه. وإلى اليوم ما يزال أتباع صالح يتحدثون عن دوره الأساسي في الوحدة لكنّهم يتجاهلون دوره في تدميرها وفي تمكين الحوثيين من السلطة، وهم لا يختلفون في هذا التناقض عن بقية الأطراف المفتقرة إلى النقد الذاتي ومراجعة أخطاء الماضي والحاضر.

تقرير المصير حق مشروع ويتم وفق إجراءات ديمقراطية يقررها الشعب. وأحرى بالحريصين على الانفصال رفض تقرير مصيرهم بغير الخيار الديمقراطي

أحد أسباب إخفاق الوحدة هو أنّها تُشكّل حالة حنين (نوستالجيا)، وهي على هذا النحو مرض عربي (الوحدة العربية)، وإسلامي (الخلافة الإسلامية)، ولا تُفهم إلا في شكلها الجغرافي، أرض واحدة، وحاكم واحد. هدف لا يرافقه أيّ تخطيط اقتصادي أو سياسي، ويغيب عنهم أشكال الوحدة الممكنة: اقتصادية وعسكرية وأمنية.

كان يمكن لحرب (94) أن تكون صفحة قد طويت، لو أنّ إصلاحات سياسية واقتصادية تلتها. لكنّ تلك الحرب أتت لتثبت نوايا السلطة في الشمال التي لم تقبل بالوحدة على أساس الشراكة المتساوية والعدالة والتخطيط لمراحل قادمة تنموية وسياسية. والمشكلة اليوم أنّ شعار الأمس "الوحدة أو الموت" هو نفسه السائد، وإن بلغة غير مباشرة تؤكد على غياب الوعي السياسي الذي أفشل الوحدة في (94)، وأجهز عليها بتسريح كوادر الجيش في الجنوب بعملية أشبه بالانتقام.

طموح لم يتحول إلى مشروع

في مقابلة مع الرئيس صالح مع التلفزيون الألماني في تشرين الثاني (نوفمبر) 1999 تحدث عن الوحدة اليمنية وعن معاناة ما بعد الوحدة وقارنها بالوحدة الألمانية، وكيف أنّ معاناة التشطير أشد من فاتورة الاتحاد، وهو محق في هذا. وفي مقابلة أخرى تحدث عن نموذج الوحدة اليمنية الذي يمكن أن يشكل نموذجاً يحتذي به الألمان أنفسهم! رغم ذلك كان صالح، عملياً، مشغولاً بترتيبات البقاء في السلطة أكثر من انشغاله بفاتورة الوحدة التي لم يخطط لها مع شريكه منذ البداية، وها هم قادة الانفصال يطبقون السياسة نفسها!

الانفصال، مثل الوحدة، لم تكن مشروعاً مخططاً له بعناية، وانتهيا إلى شكل من أشكال الصراع على السلطة. ذهب صالح والبيض إلى الوحدة مدفوعين بالحماس والأحلام والرغبة في إنجاز تاريخي دون عناء التخطيط للمراحل المقبلة. ويذهب قادة المجلس الانتقالي الجنوبي إلى الانفصال وكأنّه مصباح علاء الدين، ومثلما ذهبت الوحدة بالجميع إلى الحرب، قد يذهب بهم الانفصال إلى الحرب أيضاً، ليثبتوا مجدداً أنّ الهدف هو السلطة لا الوحدة ولا تقرير المصير.

ظروف الوحدة اليمنية والألمانية متشابهة تقريباً؛ فالتغيرات التي حدثت في الاتحاد السوفييتي سهّلت إعادة اتحاد ألمانيا في تشرين الأول 1990 ودفعت باتجاه الوحدة اليمنية في أيار 1990

تقرير المصير حق مشروع، ويتم وفق إجراءات ديمقراطية يقررها الشعب. وأحرى بالحريصين على الانفصال رفض تقرير مصيرهم بغير الخيار الديمقراطي؛ لأنّ من سيأتي لهم بالانفصال بغير الخيار الديمقراطي لن يتنازل عن سلطة يعتبرها ثمرة جهده، ولن يخدم إلا مصالحه ومصالح من يوجهه. دعوات انفصال الجنوب عن الشمال، بهذه الحال، وجه آخر لدعوة تعتقد أنّ الطريق إلى المستقبل مُعبَّد بالعودة إلى الماضي. وكل دعوة تؤسس مشروعها المستقبلي على إساءة فهم للماضي هي دعوة مآلها الفشل؛ لأنّ النظر إلى المستقبل والحنين إلى الماضي لا يجتمعان، حتى لو كان ذلك الماضي فردوساً، فكيف وقد كان جحيماً يحكمه صراع الرفاق على السلطة؟

مواجهة المشكلات بموضوعية وعقل سياسي ناضج يتطلب جهداً وقراراً مستقلاً. وأصحاب دعوة الانفصال لا يقرؤون التاريخ، ينظر المجلس الانتقالي إلى الشمال كعبء، وهذا صحيح حين يتعلق الأمر بالاستحواذ، لكنّ الوحدة كانت عبئاً على الشمال، وستكون عبئاً أكبر بعد الانفصال إن تم. والانفصال ليس مشكلة، لكنّها الدعوات التي لا تفسر لماذا سيكون الانفصال هو الحل. لماذا سيكون مستقبل دولة الجنوب أفضل من الماضي التشطيري والحاضر الوحدوي؟ غياب هذه الأسئلة وإجاباتها دليل على غياب مشروع مستقبلي عند أصحاب تلك الدعوات التي تخدم الحوثيين الذين يسيطرون على جزء كبير من الشمال.

ألمانيا واليمن

يرتبط اسم (اليمن) بحنين لكيان لم يدوّنه المؤرخون القدماء. كان يُشار إلى هذه المنطقة باسم "بلاد العرب" و "العربية السعيدة". المؤرخ اليوناني كلاوديوس بطليموس (121 ـ 151 ق م) قسَّمها إلى (3) أقسام: العربية الصحراوية والعربية الصخرية أو الحجرية والعربية السعيدة، وقد اكتسبت هذه الصفة بسبب خصوبة الأرض وانتشار النباتات العطرية. والمؤرخ سترابو (64- 20 ق.م) قسمها، على أساس ديموغرافي، إلى (4) أمم: المعينيون في الجانب المقابل للبحر الأحمر، وأكبر مدنهم قرنا أو قرنانا. وإلى جوارهم السبئيون، وأكبر مدنهم ماريابا. والقتبانيون، وعاصمتهم الملكية كانت تُسمّى تمنا. وأقصى هذه الأمم شرقاً يسكن الحضارمة، وعاصمتهم ساباتا.

 

الأحلام هي التي وحدت اليمنيين، ولا عيب في الأحلام إلا في كونها لا تضع المصلحة والتخطيط كأولوية. تلك المصلحة التي أعادت لمّ شمل ألمانيا. ظروف الوحدة اليمنية والألمانية متشابهة تقريباً؛ فالتغيرات التي حدثت في الاتحاد السوفييتي سهلت إعادة اتحاد ألمانيا في تشرين الأول (أكتوبر) 1990 ودفعت باتجاه الوحدة اليمنية في أيار (مايو) 1990، فما الفرق بين الوحدة الألمانية والوحدة اليمنية؟

الوحدة مشروع طويل

منذ ستينيات القرن الـ (20) كانت الوحدة (كشعار) هدفاً لكلا النظامين في الشمال والجنوب. أنشأت الجمهوريتان مؤسسات خاصة لشؤون الوحدة، واختلاف النظام السياسي والاقتصادي لم يكن المعرقل الرئيسي للوحدة. وجود مصلحة في الاتحاد هو ما يدفع إلى التخطيط لبقائه، أمّا العاطفة، فتدفع إلى استعجال وحدة هشة، وهذا ما حدث في اليمن.

بدأ لمّ الشمل الألماني بانضمام (5) ولايات شرقية إلى ألمانيا الغربية، والخطوات التي اتبعتها ألمانيا الغربية تبين أسباب نجاح ألمانيا وعجز اليمن. لتسهيل عملية الانضمام ولطمأنة الدول الأخرى، "قامت ألمانيا الغربية ببعض التغييرات على دستورها الأساسي. وبعد أن أتمت الولايات الـ (5) المذكورة انضمامها إلى ألمانيا الغربية عُدِّل الدستور مرة أخرى ليدلل على أنّه لا يوجد أيّ جزء من ألمانيا خارج الحدود التي أعيد توحيدها غير مضمّنة". في اليمن تم الاستفتاء على دستور جديد بعد إعلان الوحدة.

شكلت الوحدة اليمنية عبئاً ثقيلاً على الاقتصاد اليمني، وهكذا كانت الوحدة الألمانية في بداياتها حيث تُقدر كلفة التوحيد بما يزيد عن تريليون ونصف، أي بما يزيد عن مجمل الدين الوطني الألماني آنذاك. السبب الأساسي في الحالة اليمنية هو ضعف الاقتصاد في البلدين دون عمل حساب لفاتورة الوحدة المتوقعة. في الحالة الألمانية كان الاقتصاد الشرقي ضعيفاً، مقارنة باقتصاد ألمانيا الغربية، إضافة إلى التحول من المارك الشرقي إلى الغربي، ممّا أدى إلى انهيار الصناعات الشرقية.

كجزء من التخطيط لردم الهوة بين الألمانيتين خُصِّصت تمويلات تزيد عن (100) مليار يورو لإعادة إعمار الجزء الشرقي من ألمانيا، كما توجب خصخصة الصناعات الخاسرة التي كانت تدعمها حكومة ألمانيا الشرقية. وما زالت الحكومة الفيدرالية تستثمر مئات الملايين في تنمية البنية التحتية لبرلين. "تماماً كما حصل مع معظم مدن ألمانيا الشرقية. فعلى سبيل المثال تملك المدن الكبيرة فيها مثل درسدن ولايبزغ أحدث أنواع وسائل النقل، كما أنّ بنيتها التحتية أصبحت تضاهي مثيلاتها في مدن القسم الغربي من ألمانيا".

يوجد ناقمون على الوحدة في اليمن، على الرغم من تشابه الوضع الاقتصادي والمعيشي لأغلب اليمنيين، وما تزال هنالك فروقات اجتماعية بين الألمان الشرقيين والغربيين، وهنالك من هو ناقم على الوحدة "لأنّهم يربطون كثيراً من الضعف الناجم اليوم في اقتصاد ألمانيا كأحد تبعات الوحدة. في الجهة المقابلة، ينتاب كثير من الألمان الشرقيين الشعور نفسه، بأنّ حياتهم تغيرت جراء الوحدة، ويتمنون عودة النظام الاشتراكي"، لكنّ هذا الشعور لم يُولِّد حراكاً سياسياً يطالب بالانفصال.

التدرج في الوحدة له تاريخ عريق في ألمانيا، فالتوحيد الأول في 1871، على يد رئيس الوزراء بسمارك، هو نتاج عمليات توحيد "شهدتها الولايات الألمانية فيما بينها، والتي دامت أكثر من قرن قبل الإعلان الرسمي في 1871، بسبب الفوارق الدينية واللغوية والثقافية بين سكان البلاد الفيدرالية الجديدة". الهدف من هذا التخطيط هو تلافي إخفاقات سابقة كوحدة 1848 التي اقتصرت على فكرة غامضة عن التوحيد لكنّها لم تتضمن خططاً معينة حول كيفية تحقيقها. لكنّ النقاشات التي دامت لعقود بين مؤرخي الماضي الألماني، حول أسباب الإخفاق، ساهمت في تفسيرات جيوتاريخية لتشكل الأمّة الألمانية فيما بعد".

لنتعلم من التاريخ

اللافت أنّ عام 1990 شهد اتحادين وانهيار اتحادين! انهيار الاتحاد السوفييتي أعقبه انهيار الاتحاد اليوغسلافي بإعلان استقلال كرواتيا وسلوفينيا ومقدونيا عام 1991، ثم استقلال البوسنة والهرسك 1992، على إثرها بدأت الحرب اليوغوسلافية، لاسترجاع الجمهوريات المنفصلة، بين الجيش الصربي والجمهوريات المنفصلة. استمر الوضع باشتعال الحرب في إقليم كوسوفو ذي الأغلبية الألبانية في 1998 بين الصرب والألبان وتدخل حلف الناتو. العنوان الرئيسي لهذه الحروب هو محاولة فرض الوحدة بقوة السلاح لا بقوة المصلحة، أمّا التفاصيل، فتشير إلى استمرار الحرب الباردة أو تحولها إلى حرب ساخنة فيما تبقى من جيوب المعسكر الشرقي.

حلم الفيدرالية كان في طريقه إلى التحقق من خلال مخرجات الحوار الوطني، لكنّ المشروع الحوثي السلالي استغل الرغبة في الانتقام والصراع على السلطة وتسبب في حرب مستمرة منذ 8 أعوام

موت تيتو في 1980 كان بداية النهاية للاتحاد اليوغسلافي، الذي استمر طوال فترة رئاسته للوزراء، من 1945 حتى وفاته، وانتهى الاتحاد رسمياً في 1992. مثلما أنهى علي عبد الله صالح الوحدة بحرب (94)، وما تلاها من سياسات، ثم ختمها، مع بقية الأطراف، بخيار شمشون بعد ثورة 2011.

اليوم نحن أمام توجهين رئيسيين: أحدهما يدفع نحو الانفصال دون اكتراث بمأزق الحاضر وعواقب الانفصال على المستقبل، والآخر يطالب باستمرار الوحدة دون قيد أو شرط. وثمّة صوت عقلاني واقعي ماثل في كلمة رئيس المجلس الرئاسي رشاد العليمي الأخيرة: "لقد كان إخواننا الجنوبيون سباقين الى الوحدة: تنشئة، وفكراً، ونضالاً، وظلوا مخلصين لها...، وهم اليوم محقون في الالتفاف حول قضيتهم العادلة، بعدما انحرف مسار المشروع الوحدوي، وأُفرغ من مضمونه، وقيمته التشاركية بعد حرب صيف 1994".

الاحتكام للواقعية هو ما ينبغي أن يكون بأشكال أخرى للاتحاد، منها ديمقراطية صناديق الاقتراع، أو الفيدرالية التي تطبقها الكثير من الدول. حلم الفيدرالية تلك كان في طريقه إلى التحقق من خلال مخرجات الحوار الوطني، لكنّ المشروع الحوثي السلالي استغل الرغبة في الانتقام والصراع على السلطة، وفرض نفسه حاكماً بقوة السلاح، وتسبب في حرب مستمرة منذ (8) أعوام. والمفترض أن يبدأ التخطيط للمستقبل بأولوية الخلاص من هذا الحاضر الذي يستمد شرعيته من الماضي العنصري.

مواضيع ذات صلة:

وطن من كلمات: المشهد الأدبي اليمني واجهة لخلفية الحرب

"شهداء الحاجة".. أقل من 10 دولار تودي بحياة العشرات في اليمن (صور وفيديو)




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية