الحكم الإثني الاستقصائي وانتحار “الإخوان” في مصر

الحكم الإثني الاستقصائي وانتحار “الإخوان” في مصر

الحكم الإثني الاستقصائي وانتحار “الإخوان” في مصر


09/03/2024

صبحي نايل

تتميز التجربة “الإخوانية” في مصر عن باقي التجارب بأنها وصلت للحكم في دولة المنشأ، فجماعة “الإخوان المسلمين” تمت نشأتها في مصر على يد حسن البنا عام 1928 كجماعة دينية تهدف إلى التمسك بالدين وأخلاقياته، وجاءت كمردودٍ على انتهاء “الخلافة العثمانية” والسعي نحو إعادة الخلافة كنظام حُكم إسلامي يعمل على حلّ النزاعات والمشكلات في المجتمعات الإسلامية، وطوال تاريخها تتّهم كافة النُّظم القائمة في الدول العربية الإسلامية بالتواطؤ والعمالة وتعمد التخريب.

وقد وصل “الإخوان المسلمون” للحكم في العديد من البلدان إثر أحداث “الربيع العربي” عام 2011 وما بعده، وكانت تجربتهم غير ناجحة للحدّ الذي دفع المجتمعات لـ لفظهم وليس فشلهم السياسي فحسب.

“الإخوان” في حكم مصر

وصل “الإخوان” إلى السلطة في مصر، واستمروا في الحُكم قرابة عام كامل، وحصلوا على الأغلبية في مجلسي الشعب والشورى، مما ساعدهم على تشكيل الحكومة المصرية وقتئذٍ دون مشاركةٍ مؤثرة أو ضغوطٍ تُذكر من أحزاب أو تيارات أخرى، وعلى هذا نرى أن التساؤل الذي يطرح نفسه: هل “الإخوان” لم يأخذوا الفرصة في الحكم كما يزعمون، أم أن الجماعة لم تُحسن إدارة هذه المرحلة؟!

وعلى مدار عام كامل، شهدت مصر حكم “الإخوان” على كافة الأصعدة والمؤسسات. أحدثت هذه الفترة إرباكاً وتخبّطاً وعشوائية وصدعاً في إدارة كافة المؤسسات، حيث تم تشكيل لجان فنية في مختلف الإدارات التابعة للمؤسسات. وتضم هذه اللجان أعضاء ينتمون إلى جماعة “الإخوان”، ومثّلت هذه اللجان الإدارة الموازية لأجهزة الدولة الإدارية، واعتمدت عليها الجماعة في إدارة شؤون الدولة.

ويفرض هذا تساؤلاً حول سعي “الإخوان المسلمين” خلال هذه الفترة نحو فرض السيطرة على المؤسسات، بعيداً عن تقديم حلول للأزمات أو رؤية واضحة للمستقبل يشارك فيها الجميع، بل يمكن القول إنها أظهرت حقيقة نوايا للجماعة بفرض سيطرتها أولاً، فهي لم تكن مجرد محاولة للاعتراف بها لأنها أصبحت جزءاً أصيلاً من اللحظة التاريخية، بل سعت لفرض الإيمان بها والانتماء لها.

وحسب ما أفاد به الباحث المصري في شؤون الإسلام السياسي عبد الله بهجت لموقع “الحل نت”، يبدو أن الانتقال من مرحلة أداء دور المعارض الذي يقدّم خدمات مجتمعية وسيطرة على بعض الأنشطة الخدمية، والانتشار في النقابات إلى مرحلة الحُكم المطلق، “ومع بريق السلطة” فقدتْ الجماعة القدرة على التفكير والإدارة.

وأردف بهجت أن هذه التجربة والتي استمرت مدّة عام واحد فقط، وصل فيها “الإخوان” إلى الحكم في مصر، قد أثبتت ضيق أُفقهم، وغياب إدراكهم وفهمهم للمجتمع وطبيعته المتنوعة، وغياب تام لمفهوم الدولة الحديثة والتي قوامها التعددية، وانتقلت إلى فكرة السيطرة للجماعات والحركات الشعبوية المتحيزة ذات الرؤية الواحدة الضيقة التي لا ترى سوى نفسها، وتقوم أدبياتها على إقصاء الآخر، لا على الإدارة والبحث عن مساحة تعمل من خلالها على حلّ أزمات المجتمع المصري، مما أفقدها مصداقيتها وشعبيتها داخل الأُطر الاجتماعية المصرية.  

خاصة أن هذه الشعبية التي جاء بموجبها محمد مرسي إلى قيادة الدولة كانت في جزءٍ كبيرٍ منها نتيجة اتفاق “فيرمونت” الشهير، الذي جاء من خلال اجتماع محمد مرسي بقيادات المعارضة والاتفاق على الاستقالة من جماعة “الإخوان” ليكون رئيساً لجميع المصرينَ في مقابل تأييد المعارضة واليسار له في الانتخابات الرئاسية ضد أحمد شفيق، وبالفعل فور أن نجح مرسي في الانتخابات حزيران/ يونيو عام 2012، أعلن استقالته من جماعة “الإخوان” ولكنه ظل على علاقة بهم بوصفه في الأخير المرشّح السياسي لـ”حزب الحرية والعدالة”، وحاول مرسي بضغط من المعارضة وجماعات اليسار، أن يظهر بمظهر الرئيس المستقل، أو رئيس لكل المصريينّ مما أرّق خيرت الشاطر ومحمد بديع، وسعوا إلى امتلاك دفة الحكم.

النزاع بين قصر الرئاسة ومكتب الإرشاد

جرت العادة في جماعة “الإخوان” أن يتم اختيار المرشد العام ومبايعته في المقابر أثناء دفن المرشد القديم ويهتفون باسم المرشد الجديد في المقابر؛ لذا سُمّيت ببيعة المقابر، ولكن مع المرشد محمد بديع كان الوضع مختلف، حيث كان أول مرشد يأتي بالانتخاب بعد الإطاحة بمهدي عاكف، في عام 2010، واتّهم العديد منهم هذه الانتخابات بالتزوير وطعنوا فيها، لدرجة أن عدداً ليس هيّناً رفض أن يُبايع المرشد الجديد الدفراوي والزعفراني وعبد المنعم أبو الفتوح، وكان عبد البديع أول مرشد لم يتم الإجماع عليه داخل جماعة “الإخوان”.

وطوال فترة وجود بديع في مكتب الإرشاد كانت هناك مشاكل عديدة وانقسامات داخل التنظيم لعل أشهرها انشقاق عبد المنعم أبو الفتوح، ومحمد حبيب عضو مكتب الإرشاد وفي وقت من الأوقات كان نائباً للمرشد، واتُّهم بديع باختطاف الجماعة والتزوير والإطاحة بمهدي عاكف، وساهم في ذلك خيرت الشاطر وصنع هذا صدعاً كبيراً داخل الجماعة، وأذّن بنهايتها والخروج من مبدأ الولاء والبراء على يد محمد بديع.

وبتولي “الإخوان” الحكم ظهرت هذه الانقسامات حول إدارة الدولة، وظهر اشتباكٌ جديدٌ بين رئيس “حزب الحرية والعدالة” وبين مكتب الإرشاد، فأيّهم يدير الجماعة، هل تبتلع الجماعة الحزب أم يبتلع الحزب الجماعة، وهل ستُدار الدولة من مكتب الإرشاد أم من قصر الرئاسة المصري.

وتمّ حسم هذه المسألة في اجتماع جماعة “الإخوان” في قصر الرئاسة بمصر، فحسب التسريبات حينها جلس محمد بديع مكان الرئيس وأدار الاجتماع، وكان هذا مؤشراً لامتلاك الجماعة لقصر الرئاسة وقرار الإدارة في الدولة، وظهر هذا في عدم قدرة مرسي على أن يكون رئيساً لكل المصريين وتمت إدارة الدولة بشكل إثني استقصائي.

فحسب ما أضافه الباحث عبد الله بهجت لـ “الحل نت”، كانت قرارات الدولة عبارة عن محاولة استرضاء التيارات الإسلاموية والتي كان يراهن تنظيم “الإخوان” على وقوفها بجواره مقابل الشعب؛ مثل التيار السلفي الذي تبنّى بعض الشعارات الرنانة، مثل ادعائه بمحاولة تطبيق الشريعة وأسلمة المجتمع، فقد كانت القرارات أو التصريحات بشكل أدق عبارة عن إرضاءات لبعض التيارات على حساب المجتمع، وهذا ما جعل أرضيته تتلاشى في المجتمع المصري، وتخّلي أنصار اليوم عنه في الغد. لقد أدت كل هذه الأمور في وقتها إلى ذهاب المجتمع لهوة النزاع والوقوف على مشارف الانقسام، حيث جاءت الجماعة لتعبّر عن فئة بعينها لا لتعبّر عن المجتمع.

ويؤكد هذا، حالة القلق والرفض للانتخابات، وليس المقصود هنا انتخابات الرئاسة فقط، بل الانتخابات التشريعية كذلك، لإدراكه تراجع شعبيته في المحيط الاجتماعي المصري “الوسط المتعاطف”، ومن ثم لجأ إلى اتهام المؤسسات بعدم التعاون، فهو يُخفى حالة القصور والعجز التي ظهرت عليه، وعدم تقديم رؤية واضحة، إلى كيل الاتهام للمؤسسات بعدم التعاون، فإذا كان هذا صحيحاً، فلماذا لم يأخذ إجراءاته القانونية اتجاه المقصّرين؟! وحسب رؤية عبد الله بهجت، لأنه كان يعوّل على تشكيل الإدارات الموازية التابع له، بالإضافة لحالة التخّبط التي يُظهر بها القائمون على المؤسسة، وبالتالي يؤدي هذا إلى غضب الشارع على المؤسسات، فتكون الفرصة مواتية للإدارة الموازية.

وأوضح بهجت بعبارات واضحة وصريحة أنها كانت مؤامرة من “الإخوان” على تصدير الأزمات للشارع المصري عبر مؤسساته، ليبرر بعد ذلك حالة البطش التي يفعلها، وهذا ما أثبتته الأحداث، فالتكوين الذهني يدفعهم لفرض رؤيتهم والتركيز على الإيمان بهم أكثر من محاولة إدارة الدولة والبحث عن حلٍّ في أزماتها.

الانقسام الاجتماعي ولفظ المجتمع للجماعة

حسب نمط الحكم الاستقصائي الذي مارسه “الإخوان” وحالة التخبط الإداري التي فُرضت على المجتمع المصري لم تفضِ إلى فشل الجماعة في الإدارة السياسية فحسب، بل دفع المجتمع إلى لفظها بشكلٍ نفوري.

ودلل على هذا الباحث المصري في شؤون جماعات الإسلام السياسي أحمد زغلول شلاطة لـ “لحل نت”، بوجود تيار إسلامي يطالب بعدم دفع فاتورة “الإخوان” في مصر، ويعلن ذلك كشعارٍ له، والمغرب كذلك منذ فترات تخففت من حمل “الإخوان”، وتقدم الجماعات الإسلاموية في المغرب نفسها في صورة تنفي عنها الانتماء لـ “الإخوان”، ويصرحون بخلفيتهم الإسلامية، ولكن في الوقت نفسه يصرّون على أنهم تنظيم مغربي صرف لا علاقة له بـ “الإخوان”، و”حركة النهضة” الإخوانية بتونس في أوقات عديدة يعلنون تخلّيهم عن المرجعية السياسية الإسلامية لعدم دفع فاتورة فكر فشل أو تنظيم له أزمات سياسية.

وأدى الفشل السياسي واللفظ الاجتماعي لتنظيم “الإخوان المسلمين” إلى محاولة تنصّل الجماعات الإسلامية، خاصة بعد لفظهم اجتماعياً، وظهر هذا في إعلان حركة “حماس” انعزالها عن تنظيم “الإخوان” عام 2017، وتخلّي الحكومة التركية عن رعاية “الإخوان” بمصر، على الأقل من ناحية الترويج الإعلامي، والاعتراف بالإدارة السياسية للدولة المصرية كإدارة مشروعة وليس انقلاباً عسكرياً، وكذا دولة قطر، واعتُبر هذا هزيمة إضافية لـ “الإخوان” قد تدفع بهم إلى الانتهاء بشكلٍ نهائي من هذه المجتمعات، بيد أن جماعة “الإخوان” في الأخير تبرع في أن تكون تنظيماً سرّياً، ولديها الإمكانيات للتحايل السياسي على مثل هذه الأمور وتخرج في الوقت التي تكون في الدولة في حالة ترهّلٍ أو ضعف، ويشهد تاريخها بذلك.

فالفشل السياسي الذي حدث في العقد الأخير وغياب الحواضن الاجتماعية، مثّلوا عوامل كبيرة جداً تجعل أي تيار محافظ أو قريب من “الإخوان” يحاول أن يتخفف من الفشل السياسي والهزيمة السياسية التي لحقت بهم، ويكون مهتم أكثر من غيره بنفي هذا الفشل عنه، خاصة أن الأمر لم يقف عن حدّ الفشل السياسي، بل وصل إلى اللفظ الاجتماعي لهم الذي جاء ثمرة الحكم الإثني الاستقصائي.

ومن خلال تاريخ جماعة “الإخوان” يمكن القول إن الجماعة بارعة في لعب الدور الدعوي وتشويه الآخر وتنزيه الذات، أكثر من أي شيء آخر، وهو منطق عمل انقسامي لا يقبل المجتمع بتنويعاته واختلافاته ويعمل على إدارته، بقدر ما يهدف لإثبات رؤيته غير الواضحة، وفرضها قسراً إذا ادّعى الأمر، وظهر هذا في تجربة السودان بشكلٍ أوضح، حيث حكم التنظيم لمدة ثلاثين عاماً وخرج بثورة ترفضه تماماً، ويُعدّ هذا ردّاً على حجة عدم اكتمال تجربته في حكم الدولة المصرية، ولم يتوانَ التنظيم عن دفع المجتمع إلى الانقسامات والحروب للعودة مرة أخرى إلى الحكم.

عن "الحل نت"


  •  



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية