الجنة والنار.. اللعبة الآثمة في يد أئمة التكفير وفقهاء التشدد والعنف

الجنة والنار.. اللعبة الآثمة في يد أئمة التكفير وفقهاء التشدد والعنف

الجنة والنار.. اللعبة الآثمة في يد أئمة التكفير وفقهاء التشدد والعنف


24/03/2024

هشام الجندي

تفشي ظاهرة نواب السماء، والناطقون بلسان الله، هي قصة مريرة. وفي الفترة الأخيرة عاد من جديد صخب الحديث عن الفئة التي ستحظى بدخول الجنة، والفئات الأخرى التي ستلقى حتفها في النار. ثنائية مرعبة تجيد القوى الإسلاموية والجماعات الأصولية تمريرها لفرض إكراهاتها، ونشر الخوف، فضلاً عن بناء حواجز ومرتفعات ضد البشر والمجتمعات الإنسانية، بحيث تفشل في الحوار والتواصل مع الذات والآخر. 

رؤية العالم من منظور النعيم والجحيم يفترض معه معاني قديمة وبدائية وتقليدية، وهي رؤية قائمة على الصراع وشعور طرف بالتعالي على طرف آخر، والتفوق عليه. ومن ثم، تعميق الإحساس بالغيرية.

“الناجون من النار”

ليس ثمة شك أن التيارات المتشددة عمدت إلى بناء تلك الحواجز وتخويف الناس بالنار ومحاولة الإغراء بالجنة و”الحور العين”، لأغراض أيديولوجية وبراغماتية، تتصل بإدارة الهيمنة على الأفراد التابعين لهم، وضمان ولاءاتهم وتنفيذ خططهم، بالإضافة إلى ضمان فعالية خطاباتهم العنيفة ضد خصومهم الذين هم حتماً في النار. ولما كانت الجنة وسيلة لشحن وتعبئة الشباب بتلك التنظيمات وتنفيذ عمليات إرهابية ضد المدنيين والأبرياء، فإن النار الحتمية لـ”الغرب” الذي هو “كافر” بالضرورة في أدبيات الإسلامويين، تجعل فتاوى القتل والتدمير والكراهية لها مشروعيتها.

وقبل سنوات، برز مقطع فيديو لقيادي من تنظيم “داعش” الإرهابي وهو يستغيث ويبكي ويلحّ على عدم تركه في المعركة وحيداً بينما يردد: “ويقول عنصر داعش في الشريط المصور “أجبنتم عن لقاء الله؟ أما تحبون لقاء الحور العين؟… يا أخوتي أحذركم من غضب الله إن ركنتم الى هذه الحياة الدنيا الفانية وكرهتم لقاء الله عز وجل”.

وعلى ضوء ذلك، تبدو مسألة الجنة والنار مغرية للتيارات الدينية المسلحة والتنظيمات الأصولية، لا سيما أنها توفّر تصورات تلقائية بأن مصير من هُم خارج “الجماعة” العذاب، الأمر الذي يجعل الاعتداء والعدوان عليهم مشروعاً ومقبولاً طالما هم عند الله في “النار”. 

لخّص فيلم “الإرهابي” لعادل إمام هذه الصورة التي يتبناها أتباع ما يمكن تسميته بـ””فقه الكآبة والجهاد” عندما كان يردد الشيخ الذي يقود جماعة “إرهابية” نصائحه الدعوية لمن حوله في حلقة درس: “لا تقرأ صحف الحكومة الكافرة، ولا تشاهد السينما والتلفزيون، فهي بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، ولا تصلي خلف إمام يدخن السجائر ولا تسمح لأمك أو أختك الخروج بغير نقاب، ولا تصافح نصراني أو تلقي عليه السلام وإلا جهنم وبئس المصير..”.

ومع هذا الخطاب العنيف والدموي التحريضي على القتل والتبديد، كان طبيعياً أن تظهر جماعة تطلق على نفسها اسم: “الناجون من النار”. الجماعة التي حملت هذا الاسم في ثمانينات القرن الماضي ثم جاء فيلم بنفس الاسم يوثق حقبة أخرى مريرة بعدما اعتبرت نفسها الفئة الناجية من الجحيم وقررت أن تضع باقي المجتمع في ما نجت منه، وبالتالي قفزت على إرادة الله ومشيئة السماء نظرياً وعملياً. 

الجماعة المسلحة التكفيرية نفذت في مصر ثلاث حوادث فاشلة، اثنان منها لقياديين أمنيين كبيرين، أحدهما وزير الداخلية وثانيهما لمدير جهاز أو قطاع أمن الدولة، والثالثة للكاتب الصحفي ونقيب الصحفيين السابق مكرم محمد أحمد، والذي كان رئيساً لتحرير إحدى الصحف وقتذاك.

هنا، مربط الفرس أو حجر الزاوية التي تضيء على المفارقة التي تحققها عبارة الروائي المصري نجيب محفوظ، والذي يرى أن الجنة لا يمكن أن تكون أكثر من شعور الإنسان، أي إنسان، بالكرامة والأمن، وهي شروط العالم الذي يبدو منفتحاً على إنسانية وليس منغلقاً على توحّشه وغرائزيته الطائفية والدينية. هذه الطائفية التي ألمح لها فيلم مصري، هو “لا مؤاخذة” والعبارة هنا لها دلالة في سياق الفيلم وتشير إلى وجود شي يبعث على الحرج أو “العيب” بخصوص الآخر الذي قد يكون غير مسلم. 

وعبارة: “الحمد لله كلنا مسلمين” التي جاءت على لسان مدرس مادة الدين الإسلامي بالفيلم لتفضح شعور طائفي عميق هي تعبير آخر عن الامتياز الحصري لفئة ترى الحقوق كافة في صالحها، بينما تسلب الأمر ذاته من الآخرين، بما يؤدي إلى مسافات شاسعة مجتمعية تجعل الحقوق وقيم المواطنة والتشارك مفقودة ومغيّبة.

هل الجنة حكراً على المسلمين؟

كان الجدل الذي بعثه قبل أيام قليلة الدكتور علي جمعة مفتي جمهورية مصر السابق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، مثيراً بل ومفيداً للغاية، حيث إنه جدد المعنى الإصلاحي الديني الذي يبدد فعالية هذه اللعبة الآثمة في يد الغوغائيين وأئمة العنف والتشدد، وأجاب جمعة عن سؤال ورد على لسان طفلة: “إيه سبب دخول المسلمين فقط الجنة، رغم أن هناك ديانات أخرى ولها رسل من السماء مثل المسيحية التي أرسل بها سيدنا عيسى عليه السلام؟”، وباغتها بإجابة غير تقليدية، فقال إن أي حديث بشأن احتكار المسلمين للجنة هو حتماً فهم مغلوط للدين.

وقال: ” هو مين قال لك أن المسلمين بس الي حيدخلوا الجنة؟ هذه معلومة مغلوطة عندك”. وتابع مفتي مصر السابق: “ربنا قال غير كده، قال (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) والآية واضحة جدا أنه ربنا سبحانه وتعالى.. إن الدين عند الله الإسلام، كل اسمه إسلام عندنا..”.

كما أجاب الدكتور علي جمعة على سؤال آخر بخصوص عذاب المنتحر على خلفية الألعاب الإلكترونية، وهل سيعذّبه الله أم سيرحم جهله وعدم اكتمال وعيه؟ قائلاً: “بندعو الناس من زمان إلى الرحمة والحب، وليس إلى الكراهية، وبنقول فيه ناس عاوزة تشوفها سودة، لكنها ليس كذلك لا الدنيا كده ولا الآخرة كده، الحياة ليست فقط اللى أحنا فيها، ولكن الآخرة برضه لقوله تعالى: “وإن الدار الآخرة لهي الحيوان”، هل انتوا فاكرين إن القبر حفرة من حفر النار، احنا مؤمنين بأنه روضة من رياض الجنة فشوف الخطاب عامل أيه يسيب الروضة اللى من رياض الجنة و الفرحة بلقاء الله ويخلوها ثعبان الأقرع اللى موردش فيه حاجة ويخلوها عذاب القبر، وأنا مالي بعذاب القبر ويعذبني ليه؟”.

رفض المفتي السابق خطاب الكراهية ونشر الأهوال والرعب بخصوص مآلات الإنسان في الحياة والتي تجعله يشعر بالتهديد طوال الوقت، وقد يجد النجاة في يد فئة أو جماعة من الناس تحرضه على تفادي الجحيم والنار من خلال تحويل هؤلاء ونقلهم عوضا عنه إلى العذاب الأبدي، موضحاً: “انتوا فاكرين أن يوم القيامة، هيبقى أهوال؟ أيوه فيه كتب بتقول كده، ولكن فيه المتحابين على منابر من نور يوم القيامة، و7 يظلّهم الله في ظله، أنتوا فاكرين أنه يوم القيامة ليس فيه شفاعة؟ ده فيه 70 ألف شفيع يشفع في 70 ألف شفيع وعدد المسلمين في الأرض 2 مليار بس، شوفه قوله تعالى ورحمتي وسعت كل شيء، فلما حد يسأل الردّ بيجى أن الموت أسود وياخدنا من الدار إلى النار .. وهنبدأ العذاب من القبر”.

كما باغت الحضور بموقف يبدو جريئاً ويخالف النمط العادي والسائد بالفكر الديني، وقد ذكر أن النار قد يلغيها الله يوم القيامة. وقال:”ربنا أخبرنا بأن هناك جنة ونار، طيب لو أن الله ألغى النار يوم القيامة هنقوله لا.. ما يدخل كل الناس الجنة، هو فعّال لما يريد، وده وارد وعلماء مسلمين كتير قالوا أه وارد، وده يبقا كرم وعطاء، ولما وعد بالنار مش ضرورى يعملها، ويبقا معموله لينا حتى لا نؤذي أحداً والخوف من الله تعالى”.

وطالب جمعة في النهاية ضرورة أن تنبني العلاقة مع الله على “الحب والأمل والتفاؤل والرحمة”. ما قاله مفتي مصر السابق يكاد يكون بالنسبة لكثيرين صادماً أو جديداً ولم يسمعوا به من قبل تحت سطوة أدبيات التكفير، وشيوع الفكر التقليدي، وعدم الرغبة في قبول التجديد والإصلاح الديني، إلا أن هناك آخرين قد سبقوه إلى هذا الفكر وبناء ذلك الوعي بتمهّل شديد قبل أن نصطدم بشيوخ يصنّفون مجدي يعقوب في النار كما فعل داعية متشدد يدعى عبد الله رشدي، أو يبشرون نجيب محفوظ وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ في النار، كما فعل مصطفى محمود الذي كتب مقالاً فيه قوائم بمن سيظفر بالنار، وصحيح أنه تراجع عنه لكن ظل بعد مروره من رحلة الشك إلى الإيمان الشهيرة يواصل نداءاته التي بها غمز ولمز تكفيري أخف وطأة من التصريح المباشر.

تسييس الدين واستغلاله

وكان الإمام محمد عبده، الذي قاد ورفيق دربه جمال الدين الأفغاني خطوات مهمة في طريق الإصلاح الديني الطويل، قد رفض الخطابات الطائفية العصبية و المتشنّجة، كما كان أول من رفض عمليات تسييس الدين واستغلاله لحسابات جماعة تسعى لاحتكار الحقيقة لخدمة مشروعها وتصدى لذلك، وقد سبق له أن قال”: “الأديان ما شرعت للتفاخر والتباهي، ولا تحصل فائدتها بمجرد الانتماء إليها والمدح بها، بلوك الألسنة والتشدق في الكلام، بل شرعت للعمل… ولو سئل الواحد منهم، ماذا فعل للإسلام؟ وبماذا يمتاز على غيره من الأديان، لا يجد جواباً”. 

وتابع: “حكم الله العادل سواء، وهو يعاملهم -الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين- بسنة واحدة، ولا يحابي فريقاً ويظلم فريقاً”.

كما أن الداعية اليمني، الحبيب علي الجفري، سبق له في إحدى الندوات بجامعة مصرية أن رفض حصر الجنة للمسلمين تحت أي دعوى، مشيراً إلى خطورة النسخ المتشددة من الإسلام وألمح إلى النسخة الداعشية على يد أبو بكر البغدادي، ومؤكدا أنها نسخة غير صحيحة، ولا ينبغي تعميمها أو المساهمة في رواجها. وقال: “غير صحيح أن كل من هو ليس مسلم لن يدخل الجنة، لأن الله قال لا يعذب قوم حتى يبعث رسول، وأن هناك من لم يصلهم الدين بشكل صحيح، فبعض الناس يرون أن الإسلام هو أبو بكر البغدادي أو هو داعش، وهذا غير صحيح، وعلينا أن نصحح هذا، من الممكن أن نُحاسَب نحن المسلمون على عدم توصيل الرسالة الصحيحة والدين الصحيح لغير المسلمين”.

وبخلاف ما يقول به شيوخ سلفيون بأن من يموت على دين غير الإسلام مصيره “نار جهنم خالدين فيها”، كما سبق وقال أحد أئمة السلفية المتشددة بمصر أبو إسحق الحويني، مشيراً إلى أن “حكم إطلاق لفظ (“شهيد”) على المسيحي المقتول في حرب أو المرابط على الحدود، لا يجوز”. حيث إن “من مات على دين غير دين الإسلام فهو كافر ومصيره نار جهنم بدليل قول الله تعالى: “أن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ”، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلاَّ كان من أصحاب النار”، فقد أوضح الشيخ الأزهري أحمد كريمة: “الجنة ليست وقفاً على شريعة من الشرائع، الجنة ليست لليهود فقط ولا للمسيحيين فقط وليست أيضاً للمسلمين فقط، هي ملك الله يدخل فيها من يشاء من عباده”.

وتابع: “الجندي المصري أيا كانت عقيدته طالما يبذل مجهوداً من أجل الأرض والعرض فلو استشهد فهو في سبيل الله ومن كان في سبيل الله فالله وعد أن يدخله الجنة والله لم يشترط في كتابه عقيدة معينة عندما قال ′ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون′”.

عن "الحل نت"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية