يلاحظ المفكر الاجتماعي والأنثروبولوجي، لويس ممفورد، أنّ التوسع في دور الدين في الحياة والتطبيقات في التاريخ المسيحي، لم يكن أصيلاً بقدر ما كان تطورات سياسية واجتماعية، أعقبت انهيار الإمبراطورية الرومانية عام 476م، وقد كان ذلك أسلوب حياة جديدة يواجه به، الناس والقادة الجدد، حالة الفشل والفوضى التي غرق فيها عالم المسيحية الغربي، وهي ملاحظة يمكن اقتباسها في عالم الإسلام بنسبة كبيرة اليوم؛ حيث تتوسّع السلطات والمجتمعات والجماعات في الدور الديني، وإقحام الدين في مجالات وتطبيقات لم يسبق أن استخدمت من قبل في تاريخ الإسلام. وفي إدخال هذه المفاهيم في تطبيقات إدارية وسياسية وتنظيمية معاصرة، فقد حوّلنا الدين إلى منتج سياسي واجتماعي واقتصادي، وسلع ومنتجات وخدمات تخضع مرّة إلى قواعد المجتمع والسياسة والسوق، ومرة إلى الدعوة والدين والإيمان، وفي مرات أخرى تفلت من الدعوة والسياسية والتنظيم، وتصير حالات من الفشل والفوضى!
لا يشترط أن تكون المقولة المقدسة صحيحة علمياً، كما لا يشترط في المقولة الصحيحة علمياً أن تكون مقدّسة
لا يشترط أن تكون المقولة المقدسة دينياً التي يجب الإيمان بها، أن تكون صحيحة أو مثبتة عقلياً، كما لا يشترط في المقولة الصحيحة علمياً والمثبتة عقلياً أن تكون مقدّسة دينياً، فالإيمان والتصديق بمقولة أو فكرة أو اعتقاد أو خبر، لا يغيّر فيها إثباتها دينياً، أو نفيها علمياً، الناس يصدقون أو لا يصدقون وكفى. وهذا يقتضي، بالضرورة، أنّ المعتقدات والأفكار الدينية يجب أن تظل فردية؛ لأنّ نقلها إلى الفضاء العام يعني إخضاعها للعقل والتجربة، ما يعني بالضرورة أنّها قابلة للمراجعة والتصحيح وإثبات الخطأ، فالقابلية لإثبات الخطأ شرط بنيويّ في الأفكار والتطبيقات العقلية والانسانية. يجب الإيمان بأنّ الفكرة التي تخضع للتصويت والمراجعة، يمكن أن تكون خاطئةً، والفكرة المختلفة يمكن أن تكون صحيحة، فإذا تقدمنا باليقين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه، إلى الفضاء الإنساني والتطبيقي العقلي، فإنّنا نلحق ضرراً بالغاً وتأسيسياً بالدين والحياة، فكلّ فهمٍ يجب أن يكون عقلياً وإنسانياً.
الذين يحاسبون غيرهم، أفراداً أو مؤسسات، في المشاعر أو المعاملة أو التطبيق على أسس دينية، أو بمعيار الاتفاق والمخالفة في المعتقدات والأفكار الدينية، يقحمون الإلهي في الإنساني، ويؤنسنون الإله، ويمارسون الشرك بالله، أو يجعلون أنفسهم مكان الله أو شركاء له، فإذا كنت مؤمناً بقدرة الله وحسابه، فدع ذلك له، واشغل نفسك، سواء كنت فرداً أو مؤسسةً أو سلطةً، بما يخصك، وبما تتوافق فيه مع أفراد المجتمع.
الذين يحاسبون غيرهم على أسس دينية يقحمون الإلهي في الإنساني ويؤنسنون الإله
هذا الاستقلال بين الاعتقاد الديني وبين تنظيم الحياة ضرورة دينية وحياتية، حتى لأولئك المؤمنين بتطبيقات حياتية جماعية، ومؤسسية مستمدة من الدين، يجب أن يؤمنوا بوضوح بأنّ الفهم والتطبيق، بما هو عملية إنسانية وعقلية مختلفة عن الدين، أو النصّ الديني الذي نستمدّ منه الفهم والتطبيق، ذلك أنّها عمليات (الفهم والتطبيق) على قدر من التعدد والاختلاف، يساوي عدد المتدينين والمؤمنين، فلا يوجد فهم واحد، أو تطبيق واحد للنص الديني، ما يضعنا في خانة الإنساني والعقلاني، وليس الديني حتّى، ونحن نطبق الدين، أو نظنّ أنّنا نطبقه.
لا بأس في أن تؤمن بنصّ أو بمعتقد ديني، ولا بأس في أن يمنحك ذلك قدراً من الرضا والتميز، لكنّه شعور يخصك وحدك، ولا تملك أن تقدّمه إلى غيرك، أو تفرضه عليه، أو تحاسبه على أساسه، إنّك بذلك تتحول من مؤمن بالله إلى الله نفسه.
يكفي الإنسان، كي يصل إلى الهدى، أن يفكر ويتأمل بصدقٍ، ويهتم بالعالم اهتماماً عميقاً بعيداً عن اللغو، مهما كان اعتقاده، وما توصَّل إليه، ولا يضرّه أن يكون مخطئاً، أو مصيباً، فلا أحد غير الله يعلم الصواب. قال الله: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ}.
لن يتأثر التعليم الديني والعمل الديني ولن ينقص أو ينحسر لو ألغيت الوظائف الحكومية الدينية
في مثالٍ قابلٍ للتعميم على الدول والمجتمعات العربية والإسلامية: أنّه يعمل في الأردن خمسون ألف موظف متفرغ تقريباً؛ أساتذة في الجامعات، وقضاة، وموظفون في المحاكم الشرعية، وأساتذة العلوم والثقافة الدينية في المدارس، والأئمة، والمؤذنون، وموظفو الأوقاف والإفتاء، وعاملون متفرغون في الجمعيات الأهلية. والواقع، أنّ الحاجة لا تستدعي وجود أكثر من ألف متفرغ من الأساتذة والقضاة (وهذا كثير). فالتعليم والإمامة والخطابة والإفتاء، يمكن أن يؤدّيها المجتمع من خلال متطوعين أو متعاونين، دون الحاجة إلى تفرّغهم، أو يمكن تفريغ عدد محدود اعتماداً على الموارد المجتمعية، وليس من الموارد العامة. ثمة حاجة لكليةٍ جامعيةٍ واحدةٍ تدرّس في أربعة مجالات من الفقه والتشريع، وتمنح الشهادات الجامعية بها، وهذا يجب أن يكون من خلال كليات القانون والقضاء، والثقافة الدينية العامة، على أنّها متطلب جامعي أو مدرسي في المرحلة الثانوية فقط، والعلوم الدينية بما هي علوم فلسفية واجتماعية وثقافية، والإعداد والتأهيل المهني للأئمة والدعاة والمفتين.
لن يتأثر التعليم الديني والعمل الديني، ولو مثقال ذرة، ولن ينقص أو ينحسر أو يواجه تهديداً، لو ألغيت الوظائف الحكومية الدينية؛ فالمجتمعات قادرة على تدبير شؤونها الدينية بنفسها، وقادرة على إدارتها وتنظيمها، وعلى تعليم الدين، بتكاليف وجهود أقل بكثير مما تبذله المؤسسات الدينية الحكومية، وفي مستوى من القبول والجودة والانسجام أفضل بكثير من الوصاية الحكومية على الدين.
الجانب المؤسسي الذي تقوم به المؤسسات الدينية الرسمية يمكن أن تؤدّيه مؤسسات أخرى مختصة وبكفاءة أفضل
أمّا الجانب المؤسسي الذي تقوم به المؤسسات الدينية الرسمية؛ فيمكن أن تؤدّيه مؤسسات أخرى مختصة، وبكفاءة أفضل، مثل: المحاكم والمجالس القضائية النظامية (العامة)، ويمكن لوزارة المال والبلديات أن تدير وتوثق وتستثمر الأملاك والأموال الوقفية، كما تدير أموال الدولة وأملاكها.
المؤسسات الحكومية، في دورها الديني، تهدر الموارد العامة، وتشكّل وصاية على الناس وضمائرهم وأرواحهم، وتنتج التطرف والتعصب، ولو توقفت عن دورها الديني فستنحسر تلقائياً معظم، إن لم يكن جميع، موارد التطرف المالية والفكرية، والملاذات الآمنة والمجانية للتطرف، وتنشأ اتجاهات دينية معتدلة منسجمة مع تطلعات الناس واحتياجاتهم. ستنشأ جماعات وطرق دينية تمنح الناس تطلعاتهم الروحية، كما كانت الطرق الصوفية والجماعات والحركات الاجتماعية تفعل على مدى التاريخ، وستنشأ مؤسسات علمية تعلّم الناس الدين، كما نشأت المذاهب الفقهية، ولم يكن للسلطة السياسية دور، أو شأن، في ذلك.
أنشئت وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية في الأردن، عام 1967، لكنّ الناس، على مدى القرون السابقة، ظلّوا مسلمين يعرفون دينهم ويطبقونه، ولم تزد وزارة الأوقاف في الشأن الديني سوى الهدر. ويبدو لافتاً بالفعل أنّ إنشاء وزارة الأوقاف، ومنحها دور الوصي على المحتوى الديني، بعدما كانت جزءاً من مؤسسة القضاء لإدارة الأملاك والأموال الوقفية وتوثيقها، تزامن مع الصعود الديني، وظهور جماعات الإسلام السياسي، والقتالي، والتكفير، والعنف المنتسب إلى الدين.
خمسون ألف موظف يتقاضون رواتبهم من الضرائب والموارد العامة، من دون أن يقدموا شيئاً، ويمكن للمتطوعين والمؤسسات المجتمعية أن تؤدّي ما يفعلونه بكفاءة، ولو شغل هؤلاء بأعمال حقيقية ومنتجة، لأمكن تحسين مستوى المعيشة والتنمية، أو على الأقل، يمكن توفير مليار دولار سنوياً من الإنفاق العام، وبالطبع؛ فإنّ المثل الأردني قابل للتعميم عربياً، فنحن نتحدث، إذاً، عن مليون ونصف المليون موظف، يؤدّون ما يمكن الاستغناء عنه، وعن 30 مليار دولار سنوياً، تكفي لإنجازات كبرى ممكنة في التعليم والصحة، والرعاية الاجتماعية، وتطوير الأراضي الزراعية والموارد المائية الشحيحة، وتوفير الطاقة المتجددة الأقل كلفة وتلويثاً، والتخلص تلقائياً، ومن غير جهود كبيرة، من التطرف والكراهية!