أسرار حركة النهضة وجناحها السري في كتاب "سنوات الجمر"

أسرار حركة النهضة وجناحها السري في كتاب "سنوات الجمر"


15/10/2018

من تونس، طفت مجددًا على السطح قضية التنظيمات السرية المسلحة للحركات الإخوانية، رغم ما يقال من أن حركة “النهضة” التونسية هي النموذج والمثال المحتذى به لحركة بريئة من السلوك الإخواني، وتقدم توجهًا جديدًا للحركات الإسلامية. وقد تجاوز الجدل حدود تونس ليصبح محل اهتمام الصحافة العالمية.

الغريب أن تنفي حركة “النهضة” بقوة وجود جهاز عسكري للحركة، وهو الذي كان موضوع اعترافات صريحة من بعض قادتها البارزين مثل نائب رئيسها عبد الفتاح مورو. لكن الأهم من ذلك أن الحركة قد عملت على مدى سنوات للتخلص من أهم اعتراف، وهو الوارد في كتاب نشر بعنوان “سنوات الجمر” للقيادي البارز منصف بن سالم، الذي ولّته “النهضة” بعد الثورة منصب وزير التعليم العالي.

غلاف الكتاب

لا يتضمن هذا الكتاب اعترافات فحسب، بل يخصص أيضًا فصلًا كاملًا -عنوانه “مجموعة الإنقاذ الوطني”- للحديث عن هذا التنظيم السري وتدبيره محاولة اغتيال الرئيس الحبيب بورقيبة ومحاولة قلب حكمه بالقوة. ومن قوة الدعاية للحركات الإخوانية أنها منعت دخول الكتاب إلى تونس، وفرضت حظرًا شاملًا على نشره وقراءته، بعد أن قرّر المنصف بن سالم نشره على حسابه الخاص في إحدى الدول الخليجية.

أول ما يلفت الانتباه في الكتاب خلطه المفضوح بين الإسلام الذي هو دين كل التونسيين وحركة “النهضة”، إذ يقدم في كل أجزائه صراع هذه الحركة مع الرئيسين بورقيبة ثم ابن علي على أنه صراع بين الإسلام والكفر، وليس صراعًا سياسيًا على السلطة؛ مثلًا نقرأ في العنوان الفرعي “شهادات حية على الاضطهاد الفكري واستهداف الإسلام”. وبدءًا بالمقدمة، يتم التشكيك في استقلال تونس على يد بورقيبة، وتصوير الأخير على أنه شخص نصّب لاجتثاث الإسلام، وأن كل عهده كان عملًا بهذا الاتجاه، قبل أن يواصل ابن علي السير على دربه.

ويكتب الوزير السابق لحركة النهضة بالحرف الواحد عن محاولة “النهضة” اغتيال بورقيبة عام 1987: “بما أن السلطة عازمة على استئصال الحركة الإسلامية، فإن السبيل الوحيد لإنقاذ البلاد هو مسك حماسة الشباب وتوجيهها توجيهًا محكمًا رصينًا قصد إجبار السلطة على تراجعها، أو تغيير رأس النظام بأي وسيلة كانت، بما في ذلك الوسائل الأمنية والعسكرية التي تتاح لنا”.

ويسرد ابن سالم مهامه في تحريك الجهاز السري للإطاحة ببورقيبة فيقول بكل صراحة: “جمعت ما أمكن لي أن أجمع من بعض الشخصيات النافذة والمطلعة على نقاط قوة الحركة، أو لها صلة ببعض ضباط الجيش والشرطة ممن لهم ميولات إسلامية، ومن المواطنين المخلصين”. ويقرّ بعدها بأنّ “المكوّن الأساسي للمجموعة من الإسلاميين، ولكن لم يمنع ذلك من وجود عناصر وطنية لها ميولات غير ذلك، قبلت بالفكرة وتبنتها وانضمت للمشاركة دون قيد ولا شرط، هدفها تغيير السلطة”.

ولا يخفي وزير حركة “النهضة” أن الجهاز العسكري السري للحركة كان ضخمًا، فهو يشبهه بخلايا النحل ويكتب قائلًا: “تكونت لجان مختصة تعمل كخلية النحل ليلًا نهارًا، دون كلل أو ملل، حين تم جمع رؤساء اللجان، وقمنا بتقييم الإمكانيات ومسح لكامل تراب البلاد، وما لنا وما يمكن أن يكون ضدنا، ثم اتخذنا قرارًا لا يمكن التراجع عنه: بورقيبة لن يحكم بعد 7/11/1987″، وهو يشير بذلك إلى الانقلاب الذي كان الجهاز السري ينوي تنفيذه قبل أن يعلم بذلك الجنرال زين العابدين بن علي، رئيس الوزراء آنذاك، ويستبقه بانقلاب أبيض منعًا للإسلاميين من الاستحواذ على السلطة.

وإذا بقي للقارئ أدنى شكّ في ضخامة هذا الجهاز السري وقوته، فليقرأ هذه الفقرة التي كتبها الوزير السابق، العضو القيادي لحركة “النهضة”: “أول عمل قمنا به وضع عناصرنا في المواقع الحساسة ليكونوا في أماكن التنفيذ، ثم أحصينا ما لنا من أدوات عمل: دبابات، طائرات، ناقلات جنود، مخازن أسلحة، ذخيرة، قاعات عمليات، هواتف، أجهزة اتصال لا سلكي، مواقع اتصال الوزارات الهامة والرئاسة، الإذاعة والتلفزة، شركة الكهرباء… وتمّ جلب 500 مسدس غازي للغرض”. هذه إذًا الحركة المدنية الدعوية الديمقراطية: دبابات وطائرات وناقلات جنود ومخازن أسلحة وذخيرة وأجهزة اتصال لا سلكي و500 مسدس غازي! إنها السلمية والديمقراطية في أبهى مظاهرها! ومع ذلك، فقد استطاعت “النهضة” أن توهم التونسيين والأجانب بأنها المثال الساطع للحركة الديمقراطية، وأنها كانت بريئة لما قرّر ابن علي الزج برموزها في السجن.

والأدهى من ذلك أنّ منصف بن سالم لم يكن آنذاك إلا أستاذ فيزياء في إحدى الجامعات، فكيف تمكن من التحكم في جيش سرّي داخل الدولة؟! ولقد بلغت به الثقة في نفسه أن يعتقد أنّ مخابرات حركته كانت أقوى من مخابرات الدولة التي كان يتحكم فيها زين العابدين بن علي، فكتب بلهجة الساخر منه: “تم اجتماعان: الأول بوزارة الداخلية برئاسة ابن علي جرى فيه جلب جل الوزراء، وكنا على علم به، والثاني بمنزل بمدينة باردو، برئاستي، وضمّ عددًا من قيادات الأجهزة المختلفة التابعة للمجموعة، ولم تكن السلطة على علم به”.

ما كان يريد الكاتب أن يوصله أن الجهاز السري للنهضة كان قادرًا على التجسس على اجتماع كامل الطاقم الحكومي بوزارة الداخلية، وبإشراف زين العابدين بن علي الذي قضى حياته في المخابرات العسكرية، بينما لم تكن الدولة قادرة على التفطن لاجتماع المجموعة الأمنية في منزل يقع في أحواز العاصمة.

ومع أن وزير النهضة يتهم في كل الكتاب بورقيبة وابن علي بأنهما كانا عملاء للغرب، فإنه يكشف سرًّا خطيرًا عندما يكتب بقلمه ويورد بلسانه ما يلي: “في أكتوبر[/تشرين الأول] 1989، استقبلني مسؤول كبير في السفارة الأمريكية، وعبّر لي عن وقوف بلاده معي في محنتي”، بل أكثر من ذلك، يعترف بأن سفير ألمانيا عرض عليه “مساعدات مالية هامة”، وقال له بأن السفارة الألمانية “تحت تصرفه في كل ما يحتاج”، حسب العبارة التي استعملها في كتابه. فعلًا إنها الوطنية التي لا يشق لها غبار!

ويذكر الوزير السابق للنهضة أسماء بعض من كانوا معه في إدارة الجهاز الخاص، أبرزهم المعروف بسيد فرجاني، وقد عيّن بعد الثورة مستشارًا لوزير العدل، وهو من الأشخاص الذين أوكلت لهم بعد الثورة مهمة تجنيد الشباب التونسي للمساهمة في الجهاد في سوريا، وما يزال إلى اليوم من الشخصيات ذات النفوذ في تونس رغم ما يحيط بشخصه ومساره من غموض.

من المهم أيضًا تسجيل اسم آخر مهم، هو الدكتور الصحبي العمري، الذي بترت رجلاه تحت التعذيب في العهد السابق، لكن النهضة تبرأت منه ونفت أن يكون من أعضائها. أما كتاب “سنوات الجمر” فيذكره في مواضع عديدة، ويقرّ أنه كان في التنظيم السري، وأنه تولّى التفاوض مع ابن علي بعد وصوله إلى السلطة للإفراج عن الموقوفين من هذا الجهاز.

وفي السنوات الماضية، كشف الدكتور الصحبي العمري معطيات كثيرة جدًا عن التنظيم وعن مواضيع أخرى محرجة جدًا للحركة، منها الاتفاق الذي عقد سرًا بين رئيس الحركة راشد الغنوشي والرئيس السابق زين العابدين بن علي، يُسمح بمقتضاه لرئيس الحركة وأسرته بالخروج الآمن من تونس بعد أن دفع أبناء حركته للمواجهة المسلحة، وترك مناضليهم البسطاء يواجهون السجون والتعذيب. وقد دأبت حركة “النهضة” على تكذيب شهادات الصحبي العمري ونفي علاقاتها به.

أخيرًا، بالنسبة للمُضللين والبسطاء الذين ما زالوا يشكّون في هذا الموضوع، فعليهم أن يقرأوا ما نقله منصف بن سالم عن نفسه في الكتاب، عندما قال لشخص سأله متحرجًا عن الموضوع: “سأتحدث معكم في موضوع المجموعة بكل فخر واعتزاز لأن الموضوع مشرف”. نعم، كان شرفًا لحركة “النهضة” أن يكون لها جهازها السري وعدتها من الأسلحة والذخيرة والمسدسات، وهي الحركة السلمية الديمقراطية جدًا جدًا!

لم يتح لغالبية التونسيين قراءة هذا الكتاب والاطلاع على هذه الاعترافات؛ لأن حركة “النهضة الديمقراطية جدًا” قد حكمت بمنع تداوله، بعد أن أصرّ منصف بن سالم على طبعه في إحدى الدول الخليجية كي يحفظ التاريخ شرف إنجازاته.

عن "كيوبوست"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية