في منتصف العام 2015، استيقظ أهالي شمال سيناء، شرق مصر، على ملثمين يرفعون رايات سوداء، وينثرون في الشوارع منشورات تحمل توقيع جماعة "ولاية سيناء"، الموالية لـداعش، وجه فيها التنظيم رسالة جاء فيها: "الجهاز الأمني للجماعة سيقوم بتتبع معلومات عن "الجواسيس" وتحركاتهم، ولن يقر لهم قرار حتى يطهّروا بلاد المسلمين من هؤلاء اليهود وأعوانهم".
رأى مراقبون في هذا البيان، محاولة من التنظيم في سيناء، إثبات أنّه يملك جهازاً أمنياً واستخباراتياً، لديه قدرة على توجيه ضربات للأجهزة الأمنية، وذلك بعد زعمه أنّه استطاع الإيقاع بعنصر زرعه الأمن المصري داخل صفوفه، وجرت تصفيته بعد تصويره، وهو يرسل رسائل تهديدية للأمن المصري.
وبصرف النظر عن صحة ما يدعي التنظيم، أو عن مدى قدرات جهازه الاستخباراتي، إلا أنّ فكرة تشكيل خلايا توكل إليها مهمات استخباراتية وأمنية تبدو تطوراً نوعياً وخطيراً، يجب أن تؤخذ بعين الجدية والتحليل.
بات مصطلح "الأمنيين" في المناطق التي تخضع لسيطرة "داعش" مرتبطاً بزرع الرعب في النفوس
يقول الباحث في شؤون التنظيمات المتشددة، عمرو عبدالمنعم، لـ "حفريات" إنّه طالما شكلت الثغرة الأمنية نقطة الضعف الأخطر في جسد التنظيمات السرية المتطرفة، منذ بروزها منتصف القرن الماضي، وحتى الآن، ومع أنّ تلك التنظيمات كانت لديها القدرة على استحداث تكتيكات غير تقليدية في كيفية تشكيل الخلايا، واختيار أعضائها، وطرق التواصل بينها وبين القادة إلا أنّ غالبيّتها سقط بعد اختراقها أمنيّاً.
ويضيف عبدالمنعم: "استطاع "داعش" في العراق استحداث جناح أمني داخل التنظيم، بات فيما بعد أهم الأجهزة لديه، وعناصره يتمتعون بصلاحيات واسعة أدت إلى طغيانهم فيما بعد، وبات مصطلح "الأمنيين" في المناطق التي تخضع لسيطرة التنظيم مرتبطاً بزرع الرعب في النفوس، حتى طغى على مسميات أخرى مثل: الشرعيين والإداريين والإعلاميين وحتى المقاتلين".
جحيم سجون "داعش"
أحد المنشقّين عن "داعش" واسمه، صالح بن صلاح باجبع، المكنى بـــ"أبو صفية اليمني"، أصدر كتاباً إلكترونياً أسماه "الانفجار في كشف وفضح الأسرار.. من هم الأمنيون في تنظيم دولة الإسلام في العراق والشام"، يروي فيه تجربته، داخل أحد سجون "الأمنيين"، الذين يصفهم بـــ"أمن الدولة" أو "المخابرات السرية للدولة".
وحول طبيعة مهماتهم يقول اليمني: "عمل القوم هو الاستخبار عما يقوم به الناس من الدولة أو من خارجها، والقيام بعمليات اختطاف للمطلوبين لهم، وأخذهم لأماكن لا يعلمها إلا هم، والتصفية الجسدية لمن لا يرون له مصلحة عندهم، أو من يمكن أن يشكل خطراً على التنظيم أو أفراده وهذا ما يسمونه بقتل المصلحة".
يصف منشق عن "داعش" السجون المرعبة لـ"الأمنيين" بأنها مقابر جماعية وفردية
ويصف السجون المرعبة للأمنيين بأنها "مقابر جماعية وفردية، وحالة مزرية من الناحية الصحية، فالسجون رطبة جداً، وهناك من الحشرات ما يكفي لقتل فيل، ناهيك عن القمل والبراغيث التي يشهد الله أنها تعمل الجرب في الجلد .. إنها أقرب لسجن أبو غريب مصغر".
ويؤكد اليمني أن التنظيم أجرى عدداً من التجارب الكيميائية على المساجين "فقد جرّبوا مادتين على بعض المساجين الذين يقولون إنّهم محكوم عليهم بالإعدام، وقد كان مفعول هاتين المادتين قويّاً على بعضهم؛ فقد أغمى على أحدهم فوراً بعد شمّه لإحدى هذه المواد، وآخر قامت المواد بتعطيل كليتيه، وثالث قامت تلك المواد بحرق أنفه وبلعومه وصدره، ويقومون من حين لآخر برش الغاز الخانق لإسكات المساجين من حين لآخر، وكاد هذا أن يميت بعضهم من قوة المادة المستخدمة".
ويسهب اليمني في شرح طرق التعذيب "إما بالضرب وفي الأماكن التي قد تسبب كسوراً داخلية أو رضُوضاً قوية، مثل المفاصل وعظام الفخذ، والظهر والصدر، ثم التعليق أو ما يسمونه "الشَّبح" وبأشكال وطرق مختلفة، والتغريق بالماء، ثم الدولاب والضرب من خلاله، فلكل حالة من حالات التحقيق وسيلة للتعذيب بل قد تجتمع كل الأساليب في شخص واحد".
تنظيم داعش أجرى عدداً من التجارب الكيميائية على المسجونين المحكومين بالإعدام
ويضيف: "والتعذيب بالكهرباء أعجب ما رأيت، فهذا النوع من التعذيب يعمل حفراً في الجسد، فعلمي أن التعذيب بالكهرباء يعمل حروقاً لا حُفراً، فحينما سألت عن سبب هذا الشيء قال أحد من عُذّبوا: إنّهم يضعون مسامير في داخل جسده، أو يغرسون أسلاك الكهرباء في لحمه، ثم الضرب الجماعي الذي يكون وسيلة للتسلية الليلية بالذات لمجموعة السجانين، فيجتمعون على أحد المساجين بشكل جماعي، فيقومون بتعذيبه بالضرب والتخويف والصراخ والضحك في وجهه، وغيرها من أنواع التعذيب التي يرونها مسلية، أو يقومون بالتدرب عليه بموافقة المسؤول عن السجن، إما بالضرب أو في كيفية الأساليب التي يتدربون عليها لمقاومة أعدائهم، كما يقولون".
وثائق الهيكل التنظيمي لجهاز "داعش" الأمني
نشر موقع "jihadology.net" الأمريكي في 2 آب (أغسطس) 2017 تحليلاً مبنياً على وثائق حول الهيكل التنظيمي لجهاز "داعش" الأمني في سورية والعراق، أعده الباحث العراقي أيمن التميمي.
يقول التميمي إنه ليس من المستغرب أن يمتلك "داعش" مثله مثل أي "دولة"، بيروقراطية مؤسسية للحفاظ على الأمن في المناطق الخاضعة لسيطرته، مضيفاً أنّ هذه المسألة تقع على عاتق ما يعرف بـ "ديوان الأمن العام" أو "إدارة الأمن العام" التي أسّسها التنظيم بعد إعلانه للخلافة المزعومة في العام 2014.
وتكشف الوثائق التي حصل عليها الموقع من فصائل سورية معارضة، بعد استيلائها في نهاية شباط (فبراير) 2017 على مدينة الباب السورية، الهيكل التنظيمي للأمن الداخلي في مناطق سيطرة التنظيم.
ويبين التميمي أنّ "داعش" أنشأ عدداً من الدواوين من بينها ديوان الأمن العام، كجزء من الخلافة، وهي أكثر مراحل "الحكم الجهادي" تطوراً منذ نشأة التنظيمات الإرهابية، وقسّم التنظيم أماكن سيطرته إلى ولايات مكانية، وكل ولاية يرأسها محافظ أو "والٍ".
وبحسب الوثائق فإنّ تنظيم "داعش" قسّم الولايات إلى "شرقية وغربية"؛ حيث تقع الولايات الشرقية في نطاق العراق والغربية في نطاق سورية، وتشير الوثائق إلى أن هيكلية "الأمن" المذكورة موجودة بالولايات الغربية، كما بولايات شرقية أخرى مثل؛ الفلوجة ونينوى.
وتلمح الوثائق إلى أنّ كلّ ولاية لها عدد مختلف من المكاتب التابعة للدواوين، مثل: ديوان الخدمات والأمن العام والتعليم، بحيث يكون هناك مكتب أو مركز في كل ولاية.
ويوضح الباحث أنه يبدو من النظرة الأولى لهذه الوثائق أن "أمير مكتب الأمن العام" يعد بمثابة والٍ، لكن بمقارنة هذه الوثائق مع نظيرتها التي وجدت في مدينة الفلوجة العراقية فإن الأخيرة تقول إنّ أمير المكتب الأمني تابع للوالي، وهو أقلّ منه في الدرجة التنظيمية، مع ذلك، فإنّ "وثائق الباب" تؤكد أنّ مكتب الأمن لا يقوم بوضع السياسات العامة المقرّر اتباعها فقط، بل يضع أيضاً النظام الداخلي الذي تسير بمقتضاه الولاية، على حد وصف الباحث.
الضرب الجماعي أحد وسائل التسلية الليلية لسجّاني "داعش"
ويشير التميمي إلى أنّ اختيار وتعيين أمير المكتب الأمني ينبغي أن يتم بموافقة كاملة من والي الولاية واللجنة المفوضة التي يحق لها أن تتدخل في حالة الخلاف بين الطرفين، ومع ذلك فلا يحق لأمير المكتب الأمني تولية نوابه أو رؤساء القطاعات داخل الولاية، بل تقدم ترشيحات التعيين للديوان العام لكي يوافق عليها، بينما يحق للوالي اختيار نائب أمير المكتب فقط، وبالمثل، فلا يحق نقل أو عزل أي من هؤلاء المسؤولين إلا بموافقة الديوان العام، على حد وصفه.
ويتابع: "يحق للديوان العام إصدار أوامر التعقب والاعتقال، ويجب على مكتب الأمن في الولاية الامتثال لها كلية، وله الحق في أن يتعامل مع القضايا التي يفترض أن تكون أكثر خطورة التي تحول له من مكتب الأمن بالولاية".
وتلفت الوثائق النظر إلى جانب آخر، وهو أنّه يتعين على مكتب الأمن بالولاية تقديم تقارير شهرية إلى الديوان العام.
ومن ناحية أخرى، لا يحق لوالي الولاية إعادة توزيع أو أخذ المعدات التي سلمها ديوان الأمن العام لمكتبه في الولاية، ويشمل هذا الأجهزة الإلكترونية الموجودة بمكتب أمن الولاية.
وتلمح "وثائق الباب" إلى أنّه في حالة الكوارث العسكرية التي يتعرض لها التنظيم والتي تقتضى الحاجة إلى أفراد، فإنه يمنع على والي الولاية ضمّ أي من الأمنيين إلى "الأفراد الذين يحتاجهم" إلا في حدود نسبة 20% فقط، وبهذا فإنّ الديوان العام للأمن يتبع سياسة عدم التدخل في الولايات و"أشباه الولايات"، بمعنى أنّه يعطيها "مساحة واسعة" من الاستقلالية، كما يقول التميمي.
قسّم "داعش" أماكن سيطرته إلى ولايات مكانية وكلّ منها يرأسها محافظ أو "والٍ"
ويتطرق التميمي إلى "دور ضباط النظام العراقي السابق في إنشاء الهيكل التنظيمي" لـداعش، قائلاً إنّ العديد من المراقبين أرجعوا النجاح اللافت الذي حققه تنظيم داعش منذ 2010 - 2011 إلى دور ضباط الأمن والاستخبارات العراقيين السابقين المعروفين بـ"البعثيين"، مستدركاً أن محاولة الربط هذه ليست إلا "مجرد سرد غير مدعوم بالأدلة"؛ إذ "الفشل الأمني" الذي مُني به التنظيم ينفي الفرضية القائلة إنّ البعثيين السابقين قادرون على إنشاء جهاز أمني فعال للغاية داخل "داعش".
ويؤكد التميمي أنّ مفهوم الأمن الداخلي مستقر في أذهان "الجهاديين" منذ إعلانهم تشكيل تنظيم ما سمي دولة العراق الإسلامية في العام 2007؛ إذ أعلن التنظيم وقتها، عن تشكيل وزارة للأمن العام من بين وزارته، وعلى نفس المنوال فإنّ مفهوم لجنة الأمن الداخلي مستقر في أذهان تنظيم القاعدة، وكان جزءاً من تنظيم أنصار الإسلام في العراق قبيل الغزو الأمريكي في العام 2003.
استخبارات "داعش" والأمن الوقائي
ويشير الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية علاء النادي، لـ"حفريات" أنّ هذه الوثائق تلفت القدرة العالية لمجموعات "الأمنيين" على تنظيم نفسها، مما يوحي بأنّ هناك قدرات تفوق هذا التنظيم في بناء الجانب الإداري والمؤسسي داخله، والتي تنكشف شيئاً فشيئاً كلما مر الوقت، والتي تساعد القراءة في هذه الوثائق على كشف أسرارها.
إذ تكشف هذه الوثائق في "الدليل التنظيمي للمركز الأمني التابع للولايات" عن فرع جديد يطلق عليه "الأمن الوقائي"، يناط به تجنيد أي شخص تجد فيه الدولة "التنظيم" إمكانيات تحصل منه على المعلومات، وكذلك مكافحة التجسس بكشف أي عميل تم تجنيده من قبل أي من الأجهزة الاستخباراتية، وهذه التهمة قد تودى بحياة أي من عناصر "الدولة" مهما كان انتماؤه التنظيمي وولاؤه للخليفة.
أما ديوان إدارة الاستخبارات بالوحدة الإدارية، فيوكل إليه الاتصال التنظيمي بأمير المركز، وتعيين وظيفة المسؤول عن الوحدة الإدارية بإدارة الاستخبارات، ومراقبة جميع الشعب التابعة لإدارة الاستخبارات، والهدف العام هو إدارة مجموعات الاستخبارات والحصول على المعلومات المطلوبة من أي من الأشخاص في حالة طلب ذلك.
أما مهام "ديوان إدارة الاستخبارات"، وفق الوثائق، فجمع وتحليل المعلومات، وتقديمها إلى صناع القرار في التنظيم ودراسة الظواهر السلبية التي تشكل خطراً على أمن "الدولة"، وإحالتها إلى الأمراء ولجان الفتوى والتعامل معها، واصطياد شبكات التجسس واستخدام جميع الوسائل المتاحة للكشف عنها.
وتُعدّ شعبة المعلومات والمحفوظات التابعة للوحدة الإدارية، من الشعب المهمة التي يعتمد عليها التنظيم الإرهابي في إدارة استخباراته، بالاتصال التنظيمي بكل العناصر المتواجدة في العالم.
كما تقوم بتعيين الوظيفة الإدارية وإلحاقها بأمير شعبة المعلومات والمحفوظات، واتخاذ نقاط المراقبة بجميع الشعب المنتسبة إلى شعبة المعلومات والمحفوظات، والهدف العام من "إدارة المعلومات" هو الحفاظ على المعلومات وتحليلها.
وهناك إدارة المعلومات وجمعها وتحليلها والحفاظ عليها وتأمينها وفقاً للمبادئ العامة للتنظيم، وهي مكلّفة أيضاً بجمع المعلومات من مكاتب الأمن في القطاعات، وتطبيق وسائل العمل التي يضعها الديوان، وتتبع وتلقي المعلومات من وسائط الإعلام وتجميعها في شكل تقارير يومية، وتصنيف المعلومات وفقاً للمبادئ التي يجب التعامل معها، ونقل المعلومات إلى الأطراف المعنية بكتابة اقتراح أو إشعار يتعلق بمدى حقيقة المعلومات وخطرها.
فاعلية استراتيجية "داعش" الأمنية
ويطرح الباحث التميمي تساؤلاً حول مدى فاعلية جهاز داعش الأمني في "التجسس - مكافحة التجسس"، مشيراً إلى أنّه لم تحدث ثورات داخلية ناجحة في أراضي التنظيم؛ ويبرر هذه الحالة باحتكار التنظيم للقوة المسلحة في المناطق التي يسيطر عليها، ونزعه سلاح عدد من المجموعات المعارضة، وفرض دورات التوبة، وإشاعته للفزع والإرهاب عبر عمليات الإعدام الوحشية التي تتم للجواسيس المتعاونين مع التحالف الدولي ونشر تلك الإعدامات عبر آلته الدعائية.
وبالرغم من ذلك، فإنّ التنظيم لم يستطع منع عمليات اغتيال عدد من قياداته البارزين، وهو ما يوحي بوجود عملية اختراق استخبارية في مناطق سيطرته، وتسريب معلومات من العملاء للتحالف الدولي.
وتشير الوثائق أيضاً إلى وجود إدارة خاصة داخل الولايات تسمى بـ"إدارة أمن المجاهدين"، وهي مسؤولة عن تتبع قضايا الفساد العقدي الخاصة بأفراد التنظيم؛ وهي قضية مهمة جداً للتنظيم خاصة فيما يتعلق بقضايا التكفير ومدى انتشار هذه المسألة، إذ تتولى هذه الإدارة مراقبة الأعضاء المشبوهين والسلبيين "المخذلين والمرجفين"، وهذا يتطابق مع ما كشف عنه "أبو صفية اليمني" في كتابه؛ إذ تضطلع تلك الإدارة بمراقبة حالات فساد العقيدة؛ حيث يبلغ عناصر التنظيم عن أي مخالف في عقيدة وتصورات "التنظيم".
ويردف التميمي أنّه لا يوجد إلى الآن دليل واضح على قدرة "داعش" تطوير أدوات وبرمجيات لرصد الاتصالات بشبكات الإنترنت المحلية، مضيفاً أنّه بدلاً من ذلك بدأ التنظيم يحظر تدريجياً على المدنيين إدخال الاتصالات الشخصية بالإنترنت.
ويسترسل التميمي: "إلى جانب الوثائق الـ13 التي وجدتها قوات المعارضة السورية، كان هناك وثيقة موجزة أخرى مرسلة من ديوان الأمن العام لأمير المكتب الأمني في ولاية حلب خلال العام 2016، تشير إلى "تجهيز" إطار أمني جديد لمكاتب الأمن بالولايات، وإذا كان سيتم "تنقيح" الإطار الأمني لـتنظيم داعش فإنّ هذا التعديل ما هو إلا مجرد رد فعل لحالات الإخفاق الأمني التي تواجهه".
وتوقع الباحث ألّا تبقى مكاتب الأمن التابعة للتنظيم على نفس "النسق"، مرجحاً أن يعود التنظيم إلى استخدام تكتيكات إرهابية وأساليب "غير نظامية" أخرى.
أجهزة أمن التنظيمات فكرة إخوانية
وفي السياق ذاته، يؤكد الباحث في شؤون الجماعات المتشددة هشام النجار، لـ"حفريات"، أنّ إنشاء "جهاز سري خاص" داخل التنظيمات الموصوفة بالسرية استحدثته جماعة "الإخوان المسلمين" مطلع أربعينيات القرن الماضي عبر ما عُرف بـ"التنظيم الخاص"، ولم تقتصر مهمته على رصد وتتبع خصومه من خارج التنظيم، بل تعدّت أدواره لمراقبة عناصر التنظيم ذاته، وكتابة تقارير سرية حتى فيما يتعلق بالجوانب الشخصية، حسب اعتراف أحمد عادل كمال، القيادي السابق في النظام الخاص، في كتابه "النقط فوق الحروف"، ونقل مؤسس الجماعة حسن البنا، الفكرة من التنظيمات اليسارية المنتشرة في العالم في ذاك الوقت.
ويرى النجار أنّ التشكيلات الأمنية، وغلبة الرؤية العسكرية ظلت هي المسيطرة والمقدمة على غيرها من فكرية ومنهجية وغيرها في الحركات الإسلامية، وربما كان هذا هو أحد أهم أسباب تعثر التيار الإسلامي، في مختلف مراحله عندما قادته معالجات العسكريين لتنحية المسارات الفكرية الجانحة نوعاً ما للعقلانية ومراعاة الواقع.
"داعش" لم يستطع منع عمليات اغتيال بين قياداته ما يوحي بوجود عملية اختراق استخبارية في مناطق سيطرته
ويلفت النجار إلى حرص التنظيمات منذ البداية على استقطاب، وتصدير القيادات ذات الخلفية العسكرية؛ وداخل الجماعة الاسلامية، شاع صراع القيادة بين الشيخ والقائد العسكري، وربما اعتبر الجناح الجهادي نفسه منتصراً في النهاية بعد تمكنه من إقصاء من يمكن تسميتهم "إصلاحيين" مثل ناجح إبراهيم وكرم زهدي، مقابل سيطرة قادة جهاديين ومنحازين أكثر لفكر القاعدة مثل؛ رفاعي طه ومصطفى حمزة وآل الزمر، وهو جناح يميل إلى اللعمل الأمني السري والاستخباراتي، ولا يرى إمكانية سير الحركة بدون حماية عسكرية واستخباراتية ذاتية.
ويضيف النجار: "طوال نشاط الجماعة الاسلامية كانت الغلبة لتقديم تلك الرؤية، وكان عمل المنظرين مقتصراً على التخديم لما يطرحونه من حلول في مواجهة الأنظمة؛ مثل إباحة الاغتيالات، وتقديس الجهاد وصرفه لمسار الخروج على الحاكم..".
ويربط النجار بين الماضي والحاضر قائلاً: "لم تنفصل التنظيمات الحديثة عن تلك الرؤية لكن الجديد في "داعش" أنه لم يستعن فقط بمجرد عسكريين يعدون على الأصابع منشقّين عن الجيش كحال الجماعة الإسلامية والجهاد بمصر، في السبعينيات والثمانينيات، لكنه تعاون مع قطاع كبير من قادة عسكريين ورجال مخابرات مدربين من بقايا الجيش العراقي الذي تم حله، وكان جهد الزعيم الاستراتيجي لـ"داعش" المعروف باسم "حجي بكر" في بناء التنظيم ونشره وتوسيع رقعة نشاطه، أكبر بمراحل مما فعله أبو بكر البغدادي ومن سبقه، لذا كان حضور التنظيم أقوى، ومهمة القضاء عليه أكثر صعوبة".
ثمة وثائق توحي بأن هناك قدرات تفوق "داعش" في الجانب الإداري والمؤسسي داخله
ويوضح النجار: "حاول الاستفادة من التجربة، هشام عشماوي، الملقب بـأبي عمر المهاجر، ضابط الصاعقة السابق، زعيم جماعة "المرابطون" في مصر، وبصورة إجمالية يمكن رصد عدة ملاحظات عامة: الأولى أنّ الاعتماد على النشاط الاستخباري، والأمني أدى إلى انقسامات كبيرة داخل التنظيمات؛ حيث وظفت للصراعات على القيادة من ناحية، ولتغليب الجناح الأكثر تشدداً في مواجهة الإصلاحيين الذين لم يمتلكوا سوى طرح الأفكار المتطورة في مواجهة أجنحة تملك القوة المادية والبشرية علاوة على التمويل.
أما الملاحظة الثانية، كما يقول النجار، فهي أنّ الاعتماد على تلك الأجنحة الأمنية، والاستخبارية أدى إلى فشل متكرر للحركة؛ لأنه يوحي لها دائماً أنّه سيعوضها عن الرؤى التوافقية والتكاملية داخل المشهد السياسي، ومع مؤسسات الدول عبر الاعتماد على تشكيل جهاز استخباري وأمني مواز، يمنح الحركة شعوراً بأنّها دولة موازية ليست في حاجة للرؤى التوافقية، أو تنازلات فكرية تذهب بها للتجاوب مع الرؤى الوطنية الجامعة.
والملاحظة الثالثة، وفق النجار، فهي أنّ هذه العسكرة أدت إلى وقوع التيار الإسلامي في فخاخ التوظيف الخارجي، فاستخدام الإسلاميين في الحرب الأفغانية والسورية لاحقاً، كان سببه إظهار هذا التيار كحالة أمنية وعسكرية بدون رؤى فكرية وعقول استراتيجية، تمنح أعضاءه المقدرة على التمييز بين ما يفيد الحركة وما يضرها، وبين ما هو مواجهة تصب نتائجها في صالح الإسلام والعرب والمسلمين، أو استغلال لمصلحة قوى خارجية وظفت تلك الكيانات في مواجهات كبرى لتحصيل مكاسب استراتيجية على حساب قوى دولية منافسة.