في فلسطين حرب.. ورقص أيضاً

في فلسطين حرب.. ورقص أيضاً

في فلسطين حرب.. ورقص أيضاً


22/06/2023

في الوقت الذي كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم مدينة جنين ومخيمها وتقتل الأبرياء وتعتقل المقاومين، كانت مدينة رام الله تحتفل بالدورة السابعة عشر لمهرجان الرقص المعاصر الذي جاء تحت شعار "للجسد ألف قصة وقصة"، وشاركت فيه خمس فرق دولية وعشر فرق فلسطينية، من سائر أرجاء الوطن والشتات.

لا فرق بين الحالتين، الفلسطينيون يعبّرون عن المقاومة بأشكال مختلفة ومبتكرة، لأنهم كما قال شاعرهم يحبّون الحياة إذا ما استطاعوا إليها سبيلاً.

قدم المهرجان، الذي نظمته سرية رام الله الأولى، صوراً متعددة للاحتفاء بالأمل، فراح فلسطينيون يجسدون في رقصات عميقة الدلالة معنى الافتقاد إلى البحر.. ذلك البحر البعيد الذي يبتلع المهاجرين والأشواق، ويقف وحيداً يتجرع مرارة الغائبين.

وفي قلب هذا الحدث تتجلى القوة الناعمة للثقافة والفن، باعتبارها رافعة لا تقل شأناً عن أدوات المقاومة الأخرى، بل ربما تكون أبلغ أثراً، إذا شاء الفلسطيني أن يخاطب العالم بلغة لا تختزله في صورة نمطية ألِفتها السرديات المتعاقبة.

راح فلسطينيون يجسدون في رقصات عميقة الدلالة معنى الافتقاد إلى البحر.. ذلك البحر البعيد الذي يبتلع المهاجرين والأشواق، ويقف وحيداً يتجرع مرارة الغائبين

قبل أن ينحت جوزيف ناي مصطلح القوة الناعمة (Soft power) كانت العرب منذ قديم الزمان، ومن قبلها شعوب أخرى بالتأكيد، قد أدركت أهمية التعبير عن مكونات حالة الوعي التي تشكله الجماعة البشرية، قبيلة كانت، أم كياناً سياسياً، أم حتى مجموعة منشقّة في هيئة "عصابة".

ولعل المثال الأكثر سطوعاً في أهمية الإبلاغ، هجاءً جاء أم مدحاً، يتمثل في قول الشاعر دُريْد بن الصِمَّة: "وما أنا إلا من غزيّة إن غوت غويت، وإن ترشد غزيّة أرشد"، في إشارة لا تقبل الالتباس إلى الذوبان في القبيلة، خطّاءة كانت أم محقّة.

وكانت العرب تحتفي بشعرائها، الذين جعلتهم بمثابة ناطقين إعلاميين باسم قبائلها، فيشنّون الحملات ضد خصومهم، تمجيداً أو تقريعاً، ما يستدعي قول الشاعر حسّان بن ثابت، محتقِراً قبيلة بني عبد المدان: "لا بأس بالقوم من طولٍ ومن عِظَمٍ، جسم البغال وأحلام العصافير"، قبل أن يتراجع الشاعر فينقلب على ما قاله، بعد أن طبق قولُه الآفاق، فصار مجلبة عار على قبيلة كانت تمجّد طول أبنائها الفارع وقوتهم، وتختال ببأسهم الشديد.

العوالم تبدّلت، لكنّ الموقف ثابت، لجهة قدرة الإبلاغ على تشكيل الانطباعات، وفي تلك الانطباعات تكمن قوة الصورة. ولهذا أدركت المجتمعات الحديثة أهمية إنتاج صورة ذهنية متفوقة عنها، لترسيخها في مخيلة الآخرين، فكانت أكثرَ الطرق أماناً وديمومة هي الثقافة والفنون بما يتفرّع عنهما من أشكال وتعبيرات تتسع يوماً بعد آخر، وهذا ما يرومه القائمون على مهرجان الرقص الفلسطيني.

سقطت القوة العسكرية الغاشمة في اختبار تشكيل الانطباعات بمحض الخاطر الإنساني، أي بلا إكراه أو تحريض يعتمد البروباغندا. خرجت الجيوش وظلت أطلالها: المدرّجات، المساجد، المآذن، الكنائس، الأديرة، التماثيل. وفي غمرة ذلك نسيت الشعوب، أو تناست، أنّ هذا التراث يعود إلى دولة غازية. هزم التاريخُ بسلطته الطاغية الممتدة نزعات الانتقام العابرة، وظل العقل الإنساني محتفظاً بعافية الرغبة في الاستمرارية. وقليلة (أو ليست غالبة) النماذج التي استدعت إرث "طالبان" الهمجيّ عندما حطّمت، عام 2001، تماثيل بوذا التي وصفها الملّا عمر بأنها "حجارة تخالف الشريعة".

الملّا عمر، وما يمثّله هو تعبيرعلى التطرف الذي تسعى القوة الناعمة إلى مكافحته، بعد أن أخفقت قوتان عسكريتان جبارتان (الاتحاد السوفييتي، والولايات المتحدة) في إنجاز نصر عسكري في هذا البلد الذي مزقته النزاعات.

لا أحد يخشى الثقافة كما يخشاها المتطرفون والمتشدّدون والطغاة. ألم يقل غوبلز، وزير إعلام هتلر: "كلما سمعت كلمة مثقف تحسّستُ مسدسي". ألم ينهمك الفقه المتشدّد في تحريم الموسيقى، وبالتالي الغناء والرقص، وما ينجم عنهما من أشكال التعبير الجسدي، بذريعة أنها تنشر الابتذال، وتشجّع على العري والفواحش، وتضرم الرذيلة في هشيم المجتمعات؟

"للجسد ألف قصة وقصة"، وللقوة الناعمة ألف مرآة، وألف مسبار، وآلاف الأجنحة التي تخفق بالأفكار.

في البدء كان الرقص.

🎞



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية