ضدّ الدوغمائية: الممارسة الحوارية لإنتاج المعرفة الإسلامية

ضدّ الدوغمائية: الممارسة الحوارية لإنتاج المعرفة الإسلامية

ضدّ الدوغمائية: الممارسة الحوارية لإنتاج المعرفة الإسلامية


06/01/2019

يشيع في الأوساط العربيّة الحديثة، وبين الباحثين التقليديين بصفة خاصّة، رأيٌ شائع يقول: إنّ الثقافة الإسلامية، بما أنتجته من علوم ومعارف، خاصّة في المعارف الدينية، هي ثقافة دوغمائيّة، لا تقبل الآخر ولا تتقبّل الحوار وتستثيغه. وأغلب من يُلقي بهذه الأحكام النهائية المغلوطة، يبني أحكامه على الصورة النهائية التي وصلت إلينا المعرفة الإسلاميّة، ولم تنتج هذه الأحكام عن صورة بناء هذه المعرفة الإسلاميّة داخليّاً، بين المسلمين والعرب، وخارجيّاً بين الحضارة الإسلاميّة والحضارات الأخرى، كاليونانيّة والفارسيّة وغيرها.

اقرأ أيضاً: هل بمقدور البشر معرفة شؤون العقيدة بمعزل عن رجال الدين؟
وبرأينا، فإنّ المبدأ الحواري، وسمة الاختلاف، أهمّ ما يميز هذه الحضارة الإسلاميّة، حضارة اللغة والخطاب، وذلك بدايةً من القرآن الكريم الذي يمثّل النظام لهذه الحضارة وما تنتجه من معارف،. فالقرآن الكريم كتاب ذو نصّ حواري، وحجاجي، يقوم على محاورة المؤمنين والكافرين على السواء، وذلك من خلال صيغ حجاجيّة تقوم على الاستفهام والتعجّب والمحاورة.. فطبيعة القرآن هي طبيعة جداليّة، ويمكن أن نستنبط منه معرفة حوارية لها قواعدها وشروطها وأخلاقها.
إنّ الطبيعة الحواريّة للثقافة الإسلاميّة لا تقتصر فقط على مجادلة الآخرين، ومناظرتهم، بل إنّها مغروسة في إنتاج هذه المعرفة وعلومها، فكلّ المعرفة الإسلاميّة لم تنتج بمعزل عن المناظرة والمحاججة والتحاور، بل نشأت ضمن أفق مناظراتي وفضاء تحاوري بين منتجي العلم على شتّى المستويات؛ من فقهٍ وكلامٍ ولغةٍ؛ لدرجة أنّه لا يمكن الفصل بحال بين الذات المُنتِجة لهذه المعرفة والآخر الذي شكّل أفقَ الاختلاف لإنشاء هذه المعرفة نفسها.

اقرأ أيضاً: ماذا نريد من المعرفة؟
وإذا كان لكلّ حضارة "مجالها التداولي" الذي يتكوّن من: العقيدة، واللغة، والمعرفة، كما وضّح البروفيسور المغاربيّ طه عبد الرحمن في كتاباته المعمّقة حول أصول الحوار وتجديد علم الكلام والتكوثر العقلي والحق العربي في الاختلاف الفلسفيّ، فإنّ المجال التداولي للثقافة العربيّة هو مجال حواري على المستويات الثلاثة -العقيدة، واللغة، والمعرفة- التي تشكّل بنية هذا المجال التداولي الإسلامي.

الطبيعة الحواريّة للثقافة الإسلاميّة لا تقتصر فقط على مجادلة الآخرين، ومناظرتهم، بل إنّها مغروسة في إنتاج هذه المعرفة وعلومها

اشتغل طه عبد الرحمن على مفهموم المجال التداوليّ منذ بداية أعماله المبكّرة لتحديد صناعة المعرفة والخطاب في نطاق الثقافة العربيّة، بحيث يكون هذا المجال التداوليّ هو الخيط الإبستمولوجيّ لشرط إنتاج المعرفة في هذه الثقافة. وارتكز عبد الرحمن في تحديده لهذا المجال على اللسانيّات والمنطق وعلوم الحجاج الحديثة، محاولاً صياغة نظريّة تقوم على الإبداع ضدّ الجمود الذي رأى عبد الرحمن أنّ المؤلفين العرب الحداثيين قد وقعوا فيه إثر تقّفيهم لآثار منتجي المعرفة الغربيين، دون إضافةٍ أو إبداع.
وكما أوضحنا، إذا كان عبد الرحمن قد حدّد العقيدة واللغة والمعرفة كمجال تداوليّ للثقافة العربيّة، فإنّني سأقوم بعمليّة توضيح، بشيء من الاختصار، للطبيعة الحوارية للعقيدة واللغة والمعرفة، أي للمجال التداولي الإسلامي، كما يأتي:
أولاً، العقيدة: فالعقيدة الإسلاميّة ذات طبيعة حجاجيّة، بمعنى أنّ النصّ العقديّ  المُنتَج داخل هذه الثقافة، على مستوى علوم الكلام، هو نصّ قد دخل في حجاج مع المخالفين لهذه العقيدة، وعمل على إيضاح مسالك وطرق هذه العقيدة بسبلٍ حجاجيّة معروفة، بمناقشة المعترضين والآخرين  بالبرهان الذي هو أساس الحجاج النافع، والمناظرة المجدية.

اقرأ أيضاً: هل يعيد اقتصاد المعرفة تشكيل الحالة الإسلامية؟
ثانياً، اللغة: فاللغة العربيّة التي هي لغة الثقافة الإسلامية، ومخيالها الرمزي، بشتّى ضروبها من نحوٍ وأدب وبلاغة، قد بُنيت على نحو حجاجي وبمسالك حوارية، ويكفي الاطلاع على كتاب واحد ليدل على ذلك، ألا وهو كتاب الإمتاع والمؤانسة لفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، أبي حيان التوحيدي، وهو الكتاب الذي نجدُ فيه أسمار أبي حيّان من المناظرات والتحاججات التي كانت تحدث حول اللغة والنحو والبلاغة.
فالمحاورات التي أوردها أبو حيّان التوحيدي في كتابه الإمتاع والمؤانسة، بحاجة إلى تدبّر منهاجي عميق في كيف كانت المثاقفة الإسلامية، والعربية عموماً، تقوم في الداخل الإسلامي، وتفكّر في سؤال هامّ: كيف تهاجر الأفكار داخل سياقها التداولي ذاته قبل مهاجرتها للخارج؟ وبعيداً عن الموضوعات التي تتطرق لها هذه المحاورات، فإنّ النظر الوسائلي/ الآلي -الذي يهتم بوسائل بناء هذه المحاورات- ينبغي أن يشغل حيّزاً من تفكيرنا لتحليل خطاب تلك المحاورات. فهذه المحاورات بها كمّ هائل من الإجابة على أسئلة لسانية تتتعلق بكيفية بناء القول، وأسئلة حجاجيّة في كيفية إقامة الحجّة وإلزام الغير المُخاطَب بها، وأسئلة أخلاقيّة تتعلق بالإطار الأخلاقي الناظم لهذه المحاورات؛ وهو إطار عملي بالأساس ناتج من فرضيّة ضمنيّة في نفوس المتحاورين هي: الإفادة والاستفادة، والفهم والإفهام، والبيان والتبيُّن.

اقرأ أيضاً: بين الجهل والمعرفة: الأمّي والمتعلم في خندق واحد!
ومن تلك المحاورات النفيسة والمهمة محاورة المنطقي الكبير بشر بن متّى مع النحوي الأكبر أبي سعيد السيرافي حول المنطق العربي والنحو اليوناني؛ فهذه المحاورة توضح نمطاً من أنماط التحاور الإسلامي الداخلي، وهو تحاور استشكالي، حيث يلقي المنطقي بدعواه، ويقوم أبو سعيد بتقويم الحجة أولاً كي تكون صحيحة الصورة -بالمعنى المنطقي-، ثم يبدأ في نقدها، وإبداء تصور صحيح للإشكال أخيراً.
ومن المُلفت في هذه الحوارات عموماً هو التقنية الأخلاقيّة لطبيعتها، حيث إن الحجاج ليس مجرّد خطاب مترهّل وعفوي وغير منتظم، فكما له بنية استدلاليّة تحكمه من حيث طريقة صياغة إشكالاته، فإن له أيضاً بنية أخلاقيّة تسنُد قوامه، بحيث لا يكون تناحراً، بل فيه كلّ الإفادة المعرفيّة والأخلاقية لكلا المتحاورين. ويمكننا القول إنّ البنية الحجاجيّة السليمة هي بنية أخلاقيّة في المقام الأول من حيث التوجّه إلى الغير ومحجاجته.

اقرأ أيضاً: مأزق الخطاب الديني في عصر المعرفة والشبكية
ثالثاً، المعرفة: إنّ المعرفة الأهمّ للثقافة الإسلاميّة هي المعرفة الفقهية والمعرفة الكلامية والمعرفة اللغوية. وقد تحدثت بالأعلى عن المعرفة اللغوية، فسأقصر كلامي في هذا الشقّ على الفقهية والكلامية.
يمثّل الفقه في الثقافة الإسلامية الفلسفةَ العمليّة لها، حيث إن الفقه هو المسؤول عن تقنين العمل بما يوافق الشارع الحكيم. يقوم الفقه بالأساس بوصفه المخول بإنتاج المعياريّة للأحكام الشرعيّة على بنية تحاورية بين الفقيه المنتِج والمكلَّف السائل عن الحكم. فضلاً عن الاحتدام الحواري بين الفقهاء حول إنتاج المعرفة الفقهية؛ الأمر الذي أدى بدوره إلى إنشاء قطاعات كبيرة في الثقافة الإسلامية من مدارس فقهية ومذاهب وآراء لا تعد ولا تحصى. فالحكم الفقهي، الذي يمثل مجمل المعرفة الفقهية، نشأ في أفق الحوار والمحاججة والمناظرة، وكتب الفقه لا تخلو من ذلك؛ نظراً للطبيعة اللغوية للنص الذي يستقي منه الفقهاء معرفتهم، أعني القرآن الكريم.

اقرأ أيضاً: إشكاليات منهجية في قراءة طه عبد الرحمن للتراث
أما بخصوص علم الكلام، فيعرّفه ابن خلدون تعريفاً يوضح طبيعته الحجاجية، فيقول: "هو العلم الذي يدافع عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية..."، فهو علم قائم بأساسه على الرد والأخذ، والحجاج والمدافعة، لأن طبيعته دفاعية، تتخذ شكل المناظرة بين المختلفين من أهل الكلام حول المسائل الميتافيزيقية والأنطولوجية ومسائل الذات والصفات.
ويمكن أن نوضح كيف أن الطبيعة الحجاجية لعلم الكلام كانت مساهِمة بشكل كبير في إنتاج إحدى أكبر الفرق الإسلامية، وهي الأشعرية. فمعلوم أن المذهب الأشعري تأسس بالأساس كمضاد أو كنقيض لمذهب الاعتزال، بعد خلاف أبي الحسن المشهور. ولا يمكن فهم المذهب الأشعري إلا إذا عرفنا الاعتزال، نظراً للحجاج الطويل الذي يدخل فيه الأشاعرة مع المعتزلة، مما يجعل آراءهم مبنية بالأساس على هذا الاحتجاج على الآخر، المعتزلي.

المعرفة الإسلامية معرفة غير معزولة عن الآخر، بل هي قابعة فيه، وليست معرفة دوغمائية نهائية

إذاً، يمكننا القول إنّ منتَج الحضارة الإسلامية العقدي واللغوي والمعرفي هو منتج تدخّلت في صناعته أدوات الحوار، والحجاج، والمناظرة، وهذا ما ينفي دوغمائية هذه المعرفة، بل انفتاحها. لأنّ الحوار، يعني الاختلاف، ولا حوار إلّا بين مختلفين، حتى ولو كان الحوار بين المرء ونفسه. والاختلاف إيمان عميق بتوزع الحقيقة المعرفية بين المشتغلين العلماء والمفكرين. إنّ الحقيقةَ هي نتاجٌ للاختلاف، لا العكس.
والاختلاف الناتج عن الحوار فضيلة أخلاقية، ولا عجب أن يعمل اللسانيون المعاصرون على تقنين مبادئ أخلاقية للحوار، حتى يتصف الحجاج بين المشتغلين على الإنتاج الرمزي بالنجاعة، ويكون ذا إضافة حقيقية. وهذا بول غرايس يضع مبدأ التعاون للممارسة الحجاجية، وتُقام دعوات فلسفيّة كبرى على تفعيل الحوار في المجتمعات المعاصرة، كما ينادي هابرماس وغيره.
ويمكن للمرء أن يستنبط قواعدَ للممارسة الحواريّة في الثقافة الإسلامية، هذه القواعد التي تناظر على أساسها -بشكلٍ مضمرٍ أو صريح- الفقهاء والأدباء والنحاة والمتكلّمون، فهذه الآداب "إذا استعملها الخصمُ وصلَ، وإن لم يستعملها كثرَ غلطُه واضطرب عليه أمره"، كما يوضّح أبو الوفاء بن عقيل في كتابه الجدل.

اقرأ أيضاً: السؤال الأخلاقي في فلسفة طه عبد الرحمن: من النظر إلى العمل
وحتى لا أتوسع فيما اصطلح عليه تراثياً بـ"آداب المناظرة" لطبيعة المقال، فهذا نص جامع ماتع ومختصر أورده الراغب الأصفهاني في كتابه "محاضرات الأدباء"، يلخص هذه الآداب على لسان متكلمين، فيقول: "اجتمع متكلمان، قال أحدهما للآخر: هل لك في المناظرة على شرائط، أن لا تغضب، ولا تعجب، ولا تشغب، ولا تحكم، ولا تقبِل على غيري وأنا أكلمك، ولا تجعل الدعوى دليلاً، ولا تجوّز لنفسك تأويل آية على مذهبك إلا جوّزت لي تأويل مثلها على مذهبي، وعلى أن تؤثر التصادق، وتنقاد للتعارف، وعلى أن كلّاً منّا يبني مناظرته على أن الحقّ ضالّته والرشد غايته".
وصفوة القول، إن المعرفة الإسلامية معرفة غير معزولة عن الآخر، بل هي قابعة فيه، وليست معرفة دوغمائية نهائية، فقد عمل منتجوها على إنتاجها ضمن أفق حواري-اختلافي، وضمن منظومة أخلاقية سُميت بآداب المناظرة. فالمناظرة علم إسلامي أصيل، يقوم على الاختلاف بين منتجي الحقيقة العلمية.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية