محمد الحداد: مشروع الإسلام السياسي هو اللّادولة والفوضى الاجتماعية

محمد الحداد: مشروع الإسلام السياسي هو اللّادولة والفوضى الاجتماعية

محمد الحداد: مشروع الإسلام السياسي هو اللّادولة والفوضى الاجتماعية


11/11/2018

أجرت الحوار: حنان جابلي


يتناول الباحث التونسي الدكتور محمد الحداد في حواره مع "حفريات" واقع الحركات الإسلامية في المنطقة، ومستقبلها، في ظلّ المستجدّات التي رافقت وصول بعضها للحكم في بلدان "الربيع العربي"، ويرى أنّ مشروع الإسلام السياسي هو اللّادولة والفوضى الاجتماع، وأنّ دور هذه الحركات كان تخريبيّاً، ووجودها لن يتواصل إلّا في ظلّ انهيار المجتمعات، وانتشار الفكر القبلي والفوضى الاجتماعية؛ لأنّها تحمل مشروع اللّادولة. وحذّر من تفتّت بعض الدول خلال الأعوام العشرة القادمة.

ويتطرّق الحداد كذلك إلى قضايا المجتمع التونسي، في ظلّ التطورات التي عاشها منذ ثورة يناير 2011، التي أدّى بعض منها إلى بروز ظواهر سلبيّة أثرت في ثقافته، غير أنّه يرى فسحة أمل قد تصحّح مسار الثورة التونسية، عكس باقي الثورات.

اقرأ أيضاً: لماذا لم ينجح اليسار في تونس رغم إخفاق الإسلاميين؟

والحداد أستاذ تعليم عالٍ، متخصّص في دراسات الحضارة العربية والأديان المقارنة، وأستاذ كرسي "اليونسكو" للدراسات المقارنة للأديان، حاصل على الدكتوراه من جامعة السوربون-باريس، بإشراف المفكّر محمد أركون، وقد أسّس بالجامعة التونسية ماجستير الدراسات المقارنة للأديان والحضارات، وأسهم بعدّة محاضرات في ندوات دولية بأوروبا والعالم العربي.

لمحمّد الحداد عدة مؤلّفات، منها: "حفريات تأويلية في الخطاب الإصلاحي العربي"، و"الإسلام بين نزوات العنف وإستراتيجيات الإصلاح"، و"في آليات الاجتهاد الإصلاحي وحدوده"، و"ديانة الضمير الفردي"، وكان كتاب "الدولة العالقة" آخر إصداراته.

وهنا تفاصيل الحوار

أوّل ما يتبادر للذهن عند لقاء مفكّر، هو الحديث عن التيارات والحركات السياسية التي انتقدتها كثيراً، التي ترى أنّ الإسلام ليس ديانة فقط، إنما نظام سياسي واجتماعي وقانوني واقتصادي يصلح لبناء مؤسسات دولة، في البداية؛ دعنا نوضح المفاهيم؛ ما هو تعريفك للإسلام السياسي؟

في الحقيقة؛ نقد الحركات الإسلامية كان فقط جزءاً من كتاباتي، التي بلغت 20 كتاباً، بين التأليف والترجمة، في الأعوام الأخيرة؛ كان تركيزي على التيارات الإسلامية استجابةً لتزايد الطلب حول مسألة الإسلام والسياسة، ودور المثقّف الذي يجب أن يتدخل وفق الطلبات الاجتماعية، إذا كانت لها أبعاد معرفية.

اقرأ أيضاً: الإسلام السياسي.. وتمثيلات خطاب الهوية

ثمّ إنّ القول إنّ الإسلام السياسي، إضافة إلى الديانة، يقحم بعداً سياسياً؛ هو قول يحتاج إلى التوضيح؛ لأنّ التعريف الصحيح للإسلام السياسي هو ذاك الذي يختزل الإسلام في السياسة، طبعاً كلّ الأديان لها أبعاد ونتائج سياسية، سواء الإسلام أو المسيحية أو اليهودية؛ لأنّ كلّ فعل اجتماعي، مهما كان، من المرجح أن تكون له نتائج سياسية في التاريخ، وبالتالي؛ فالإسلام –كديانة- كانت له نتائج سياسية، لكن اختزال دين معيّن في برنامج سياسي، هذا ما يخرج بنا عن الجانب الديني، ويدخل بنا في إطار توظيف الدّين، وأنا أعتقد أنّ كلّ الأديان يمكن أن تكون لها أبعاد سياسية، لكن لا يمكن أن تُختزل في السياسة؛ لأنّها لو اختُزلت في السياسة ما سُمّيت أديان، بل أفكار سياسيّة، أو أيديولوجياتّ سياسية، والإسلام –كديانة- يتضمّن العديد من الأبعاد، قد تكون لها نتائج سياسية، لكن لا يمكن اختزال كلّ الدّين الإسلامي في السياسية، حركات الإسلام السياسي، إذاً، هي التي تختزل الإسلام في الموضوع السياسي.

إن اختزال دين معيّن في برنامج سياسي يخرج بنا عن الجانب الديني

بالنظر إلى المستجدات في المنطقة العربية؛ كيف تقيّم -كمتابع للأحداث وباحثٍ فيها- دور الحركات الإسلامية في مجتمعاتها؟

هو دور تخريبي، وهذا ما يشهد به الواقع، بعيداً حتى عن الموقف الفكري، وهذا ما حصل في التجارب التي نسمّيها بالثورات العربية، التي استحوذ عليها الإسلاميّون؛ لأنّ جميعها انتهت، إمّا إلى الفشل أو إلى حروب طائفية ودينية، أو إلى فشل إدارة الحكم، وعودة الأنظمة القديمة نتيجة هذا الفشل، وأنا أعتقد، وهذا ما ذكرته في كتابي الأخير "الدولة العالقة"، أنّه لا يوجد مشروع سياسي إسلامي؛ بل يوجد مشروع اللّادولة، بالتالي؛ الأشخاص الذين يصلون إلى الحكم، وليس لهم مشروع دولة، يبقى لهم مشروع اللّادولة؛ بمعنى الفوضى الاجتماعية، ومع الأسف؛ هذا ما حصل في بلدان الثورات العربية، وهذا ما حصل حتى قبل الثورات العربية في العراق مثلاً، صحيحٌ أنّه تعرّض إلى الاحتلال، عام  2003، لكن هناك العديد من البلدان سابقاً تعرّضت إلى الاحتلال، واستطاعت أن تنهض فيما بعد، لكنّ العراق، إلى اليوم، ورغم انسحاب القوات الأمريكية لم ينهض، لأنّ حكم العراق بعد 2003، خاصّة بعد انسحاب القوات الأمريكية، قام على المقاسمة المشهورة بين حزبٍ أصولي شيعيّ وحزبٍ أصولي سنّي، ونعلم أنّه تمّ بذلك إحياء الصراع بين الشيعة والسنّة. وذاك حال السودان أيضاً؛ الذي شهد حروباً ومواجهاتٍ منذ إعلان تطبيق الشريعة، وانقسم إلى السودان وجنوب السودان، وجنوب جنوب السودان، فضلاً عن منطقة دارفور الملتهبة، إذاً؛ كلّ هذه التجارب "الإسلامية" انتهت بالفشل.

الحداد: الإسلام السياسي ليس ديانة بل هو اختزال للإسلام في السياسة والسياسة لا تقوم على المطلقات؛ بل على التفاوض

في المقابل؛ هناك من يرى أنّ تركيا مثال نقيض، لكنّ الحزب الحاكم هناك نأى بنفسه إلى حدّ 2013، عن أن يكون حركة إسلامٍ سياسيّ؛ إذ ينصّ قانونه الأساسي على احترام اللائيكية التركية، وعندما كان أردوغان رئيس وزراء تركيا؛ زار مصر وتونس، وطلب من الحركات الحاكمة آنذاك أن تقبل بمبدأ الدولة العلمانية، يعني أن يحكم حزب إسلامي في دولة علمانية، وقد لقي رفضاً شديداً من الإخوان، وأظنّ هنا أنّ تركيا، قبل كلّ شيء، دولة قومية، معتزة بقوميتها، وقد فشلت في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فاتجهت إلى العالم الإسلامي، لتجعل منه عمقها الإستراتيجي، وهي تتعامل مع أحزاب الإسلام السياسي؛ لأنّها تعلم أنها أحزاب مستعدة دوماً للعمل ضدّ مجتمعاتها، وهو ما يعزّز فكرة أنّ تركيا تجربة قومية أكثر من أنّها إسلامية.

هل يعني ذلك أنّ أقلمة الإسلام مع خصائص الدولة ومع مستجدات كلّ مرحلة قادر على النجاح في الحكم؟

أنا أرى أنّ الإسلام –كديانة- يستطيع أن يتلاءم مع الحداثة، لكنّ الإسلام السياسي ليس ديانة، بل هو اختزال للإسلام في السياسة، والسياسة لا تقوم على المطلقات؛ بل على التفاوض والاقتسام، وتقوم على التغيير الدائم لموازين القوى والانتخابات الدورية، وأيّ طرفٍ يحاول أن يقيّم السياسة على المطلقات، سواء الدينية أو غيرها، سيؤدّي ذلك حتماً إلى الدكتاتورية، أو إلى الفوضى، وهما وجهان لعملة واحدة؛ إذ يسعى لفرض معتقداته وسلوكه على الآخرين، فإمّا أن يهيمن عليهم، أو يدخل معهم في صراع دون نهاية.

حسناً؛ لنتحدّث عن الشأن التونسي، كيف تقيّم المشهد السياسي التونسي، خاصة الخطاب الديني هناك؟

المشهد السياسي التونسي مضطرب، والخطاب الديني هو جزءٌ من المشهد، بالتّالي هو الآخر مضطرب، ففي تونس هناك نوع من تسييس الدّين بعد الثورة، ومع بداية عام 2014، لاحظنا تراجعاً عن ذلك، لكنّ البلد بقي في وضع غير واضحٍ؛ إذ كان من المفترض أن تتّضح العديد من الأمور، فهناك مثلاً حزب التحرير الإسلامي، المعترف به في تونس، ينادي بالخلافة، ويقول على مسمع ومرأى من الجميع إنّه مع نظام الخلافة، وضدّ النظام الجمهوري، وضدّ مجلة الأحوال الشخصيّة، وهو ليس الحالة الوحيدة الموجودة في تونس، لكن ربّما الحالة الوحيدة المعلنة، وأرى أنّ وجود أحزابٍ من هذا النوع، هو في حدّ ذاته تحدٍّ، لأنّه مخالف للدستور التونسي، خاصّة أننا لم نوضح هذه الأمور.

اقرأ أيضاً: الشعبوية ويمين الإسلام السياسي

كذلك السياسة الدينية العامّة للبلاد غير واضحة، وبقيت عدّة أسئلة مفتوحة، منها مثلاً: من هي الجهات التي ينبغي أن تدير الشأن الديني في البلاد؟ وكيف يقع اختيار الأئمّة والوعّاظ؟ وكيف يقع اختيار الدروس في المساجد؟

هل تقصد هنا أنّ الدولة مشاركة في هذا الاضطراب؟

الدولة نفسها في حالة اضطراب؛ لأسباب سياسية، تتمثّل في الصراع بين رأسي السّلطة التنفيذية، أعني هنا رئيس الدولة، الباجي قايد السبسي، ورئيس الحكومة، يوسف الشاهد، وهناك صراع داخل السلطة القضائية، وهناك أيضاً أسباب اجتماعيّة، تتعلّق بسوء اختيار نمطٍ تنمويّ، خاصّة أنّ الثورة التونسية كانت اجتماعية بالأساس، لكنّها انحرفت عن مسارها، وتركت الوضع الاجتماعي على ما كان عليه من فقر وبطالة وتفاوت جهويّ، بالتالي؛ من الطبيعي أن يكون الجانب الديني والخطاب الديني في حالة اضطراب؛ لأنّ المسار كلّه مضطرب.

يقودنا حديثك هنا إلى التساؤل ما إذا أثّر وصول الحركات الإسلاميّة إلى الحكم في بعض البلدان، خاصّة منها تونس، في إعطاء صورة سيّئة عن الإسلام؟

نعم، أعتقد أنّ الحركات الإسلامية التي تولّت الحكم بعد الثورات العربيّة فشلت في الحكم، وهذا أعطى صورةً سلبيةً عن المجتمعات، وعن العرب، وعن الإسلام؛ لأنّ الأطراف الخارجيّة ترى أنّ الثورات لم تنجح، وأنّ سبب ذلك أنّ الإسلام، كما قدمته تلك الحركات، مناقضٌ للحريّات والديمقراطيّة.

اقرأ أيضاً: الثورات العربية بعين المؤرخ الأمريكي خوان كول

فرغم كلّ الخطابات الوردية التي يقولها السياسيون الرسميون، فإنّ صورة البلدان التي شهدت ثورات أصبحت سلبيّة في الخارج إلى أبعد الحدود، بعد موجة من التعاطف غير المسبوق، في البداية، لا سيما مع الثورة التونسيّة، بشكلٍ خاصٍّ، لكن حصل بعد ذلك نوع من الإحباط بسبب مسار هذه الثورات.

الحداد: الحركات الإسلامية التي تولّت الحكم بعد الثورات العربيّة فشلت

إذاً؛ هل ترى أنّ التيّارات الإسلاميّة في حاجة اليوم إلى إعادة مراجعة خطابها الفكريّ، أم أنّها أحزاب تمثّل خطراً على هيبة الدول ويجب حظر نشاطها السياسي كما يطالب البعض في تونس بحظر نشاط حركة النّهضة؟

فكرة حظر أنشطة الأحزاب ليست مجدية؛ لأنّها قادرةٌ على العودة من جديد بأسماءٍ جديدةٍ، بالتّالي لن يكون هذا حلّاً مثالياً، لكن قد يكون الحلّ في تطبيق الدستور الذي لا يسمح باستغلال الدّين في السياسة، كما يجب على هذه الحركات أن تستخلص الدرس من كلّ هذا الفشل الذي تعاقب تاريخيّاً، وليس المطلوب مراجعة الخطاب فقط؛ بل عليها أن تقطع مع ماضيها ذي الأصول الإخوانيّة، وأن تمارس السياسة كما يمارسها الأشخاص العاديّون من خلال البرامج، وليس من خلال مقولاتٍ دينية

اعتبرتم في كتابكم "الدولة العالقة"؛ أنّ الدولة الدينيّة هي "نسفٌ" لمبدأ الدولة الوطنيّة، وليست بديلاً عنها، ودعوتم إلى القيام بمراجعة عميقة للتأويل الديني وللوظائف الدينية في المجتمع، هل يستند كتابك إلى حقائق من التجربة التونسية؟

التجربة التونسية جزءٌ من عديد من التجارب، وما حصل في تونس حصل في عديد البلدان الأخرى، وهو تهميش القضايا الاجتماعيّة في البلاد، والتركيز على مسائل وجوديّة لا يمكن الاتفاق حولها؛ كمسألة الإيمان والهويّة، بالتالي كان يجب أن نحترم الاختلاف حول هذه القضايا، ونعمل على وضع قواعد العيش المشترك، أمّا العكس؛ فقد أدّى إلى ظهور عدد من المشكلات في بلدان أخرى، وتونس لم تستخلص الدرس، وكان يمكن للتجربة التونسية أن تتفادى هذا المسار الخاطئ، لكن للأسف أعادت الأخطاء التي مرّت بها بعض البلدان الأخرى، مع ذلك؛ فإنّ ما يميز التجربة التونسية أنّها قادرة على النّهوض من جديد، وإصلاح مسارها.

اقرأ أيضاً: النهوض العربي والمسألة الدينية السياسية

أريد أن أشير هنا أيضاً إلى أنّ المجتمع التونسي ما يزال مجتمعاً سلمياً، وما يزال يحاول الحفاظ على الحدّ الأدنى من الدولة الوطنية، بالتالي؛ ما تزال هناك إمكانية في تونس لإصلاح الخطأ.

لكنّ حركة النّهضة الإسلاميّة في تونس قامت بفصل جانبها الدعوي عن السياسي، في رأيك؛ هل هي دعوة للاعتراف بجانبها المدني، أم مجرّد تكتيك سياسي مرحلي؟

أوّلاً: عليها أن تجيبنا عن سؤالنا، ما معنى الدعوة؟ ودعوة من إلى ماذا؟

محمّد الحدّاد: الإسلاميّون في تونس لعبوا دوراً تخريبياً وظنّوا بانتصارهم في انتخابات 2011 أنّه "نصر اللّه والفتح"

نحن في تونس مجتمع مسلم، وبالتّالي؛ لا يحتاج إلى أن يُدعى إلى الإسلام، لأنّه دُعي منذ 14 قرناً، واستجاب لذلك، ثم لنفترض أنّ لدينا في تونس أقليات دينية؛ لماذا تريد أن تغيّر هذه الأقليّات وتدخلها إلى الإسلام، والحال أنّ الدولة الحديثة والديمقراطية تحترم الأقليّات، وتتعامل معهم على ما هم عليه، ولا تسعى إلى إدخالهم في دين الأغلبيّة، إلا لمن أراد منهم ذلك بصفة فردية، وعن قناعة، بالتالي كلمة دعوة هي كلمة "مغشوشة".

ولاحظنا، للأسف، أنّ جزءاً من المراقبين، في الداخل والخارج، قبلوا ورحّبوا وصفّقوا لهذا الإعلان، نظراً لقلّة فهم منطق هذه الحركات، وهذا إن دلّ على شيء فهو يدلّ على غياب الحسّ النقدي، وأنا شخصيّاً لا أرى أنّ حركة النّهضة تدعو فعلاً إلى الإسلام؛ لأنّني لم أرَ يوماً من دخل الإسلام بفضلها، بل أعرف من خرج من الإسلام، وأصبح يشكّك فيه، نتيجة ما عاشه خلال فترة حكم الترويكا بقيادة النهضة، ثمّ هل يمكن لحركة النهضة أن تقدم لنا قائمة بالأشخاص الذين أدخلتهم إلى الإسلام منذ نشأتها؟ الحقيقة أنهم قسّموا المهام فيما بينهم، ولم يتخلّوا عن جانبهم الدعوي، في حين أنّ المطلوب أن تكون هذه الحركة سياسية، وليست دينيّة.

ما هو تعليقك على بعض المفكرين الذين يرون أنّ السبب في فقدان المسلمين لقوّتهم هو أنّهم هجروا شريعتهم الإسلاميّة، وهم يفترضون أنّه إذا اتّبع المسلمون الشريعة الحقيقية، فإنّهم سيحظون بالمجد مرة أخرى مثل أسلافهم؟

سننتظر نتائج تجارب بعض الدول التي تحتكم إلى الشريعة في حكمها، لنرى مدى صحّة ذلك، سننتظر مثلاً متى يصبح السودان، الذي يطبّق الشريعة منذ 1989، بلداً عظيماً ويعيد مجد المسلمين.

قبل أن نفكّر في إقامة خلافة إسلاميّة نتساءل: هل ننجح في إنقاذ عديد الدول من التفتّت؟

كأنّك تبعث برسائل مفادها أنّ هذا لن يحصل؟

نعم، أكيد، فأنا من الجيل الذي عايش انقلاب حسن الترابي، عام 1989، وقد رحّب به الإسلاميّون ترحيباً كبيراً، بمن فيهم التونسيون، ونحن نعرف العلاقة الوطيدة التي كانت تربط رئيس حركة النّهضة، راشد الغنوشي، بحسن الترابي، وقد ذهب حينها إلى السودان، السؤال هنا لماذا ترك الغنوشي السودان، وغادر إلى بريطانيا إذا كان يؤمن بالشريعة؟ ولماذا هاجر الذين رفعوا شعارات الدين بعد الثورات العربية إلى أوروبا عندما تأزّمت الأوضاع في بلدانهم؟

وهل تجيبنا عن هذه الأسئلة؟

ببساطة؛ لأنّ الإنسان يبحث عن السعادة، وعن العيش الكريم، كلّ الأمور الأخرى يستعملها عندما يفقد الأمل، الإنسان العادي والمتوازن يسعى دائماً إلى أن يعيش عيشاً كريماً، وكلّ مجتمع يمنح له ذلك يكون مطلوباً، حتى إن كان مجتمع "كفّار".

لو نظرنا إلى الأحداث الإقليميّة للاحظنا اختلاف رؤى واتّجاهات الحركات الإسلامية؛ فبعضها عالمي ويسعى إلى إقامة خلافة إسلامية عالمية، مثل "حزب التحرير"، وبعضها ينحصر عمله في إطار دولةٍ معيّنة، ويسعى إلى إقامة دولة إسلاميّة فيها؛ مثل حماس في فلسطين، أو حركة طالبان في باكستان. إضافة إلى الحركات الإقليمية، وأبرزها الإخوان المسلمون، الذين يتمثل هدفهم النهائي في إقامة دولة إسلامية عربية؛ هل تعتقد أنّ هذا الاختلاف سيولّد تصادماً بين هذه الحركات في المستقبل؟

قبل أن نفكّر في إمكانية إقامة خلافة إسلاميّة، أو حتّى اتّحاد بلدين أو ثلاث دول إسلاميّة، علينا أن نتساءل: هل ننجح في إنقاذ عديد الدول من التفتّت؟ إذا نجحنا سيكون ذلك شبه معجزة، فأنا أتوقّع بعد عشرة أعوام أن تتقسّم العديد من البلدان التي تُسمّى اليوم بالبلدان الإسلامية، أعطيكِ مثالاً عن السودان؛ هو اليوم مقسّمٌ إلى ثلاثة بلدانٍ، وثلاث حكوماتٍ؛ هم السودان، وجنوب السودان، وجنوب جنوب السودان، كما أنّ ليبيا التي يسيطر عليها الإسلاميّون، هي بلدٌ مقسّمٌ، وأستبعد أن تعود ليبيا التي نعرفها.

بالتالي؛ من يدعون إلى إقامة دولة إسلاميّة هم يسعون بهذه الدعوات إلى تقسيم بلدانهم ومزيد تفتيته

هل تعتقد أنّ هذه حركات لها مستقبل في العالم العربي؟

كما هي الآن؟ لا أعتقد أن يكون لها أيّ مستقبلٍ، إلا في حال انهيار هذه البلدان، يعني هذه الحركات ستتمدّد، وتتواصل في حال تصبح الدول العربية المعنية، قبائل، وميليشيات، وتسود حالة الفوضى واللادولة، آنذاك، يتمدّد الإسلام السياسي ويزدهر.

هل ترجّح نجاح مثل هذا السيناريو؟

في بعض المجتمعات؛ نعم، أقصد هنا المجتمعات التي تعيش صراعاً طائفياً أو قبلياً، ولم تستطع أن تخرج منه؛ كالعراق وليبيا، والصومال، واليمن، والمسألة هنا خطيرةٌ جداً، إذا اعتبرنا وجود أربعة بلدانٍ معنيّةٍ من أصل عشرين دولة عربية، دون اعتبار فلسطين، التي تُركت تصارع مصيرها بمفردها.

إذاً؛ بذكرك دولة فلسطين، كيف تقيّم تعاطي حركات الإسلام السياسي مع قضيتها؟

الحداد: المشهد السياسي في تونس مضطرب، وتجارب الإسلاميين في الحكم انتهت بالفشل، وحتّى أمريكا التي ساندتهم تراجعت عن دعمهم

هو تعاطٍ انتهازيّ؛ لأنّ الخلاف مثلاً بين حركة حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية، التي هي الممثل الشرعي للفلسطينيين، هو أنّ منظمة التحرير تفاوضت في فترة ما مع إسرائيل، والحال أنّ حماس أيضاً تتفاوض مع إسرائيل اليوم، وتعلن معها الهدنة.

في تونس أيضاً؛ كلّنا نتذكر عام 2011 و2012، حين أقيمت الخيمات المناصرة للقضية الفلسطينية، لكنّها انتهت بانتهاء المحطة الانتخابية، أعلّق هنا بتعليق وحيد؛ هو أنّ من لا يتورّع عن استغلال الدين، قادرٌ على استغلال أيّ شيء آخر.

في تصريح سابق لرئيس حركة النهضة، راشد الغنّوشي، قال: "أصبح ظهرنا محمياً بما تحقّق من انتصار في مصر"، كيف تعلّق على هذا التصريح، سيما أنّ المشهد تغيّر في مصر بعد مجيء السيسي للحكم؟  وأيّ سيناريو يمكن أن يحدث في تونس؟

هو قال أيضاً: إنّ ظهرنا أصبح محمياً بانتصار الإسلاميين في طرابلس، وهذا دليلٌ على عدم حسن تقدير الأمور، ودليلٌ على أنّهم غير واعين بما يحدث في المنطقة والعالم، هم ظنّوا، بانتصارهم في انتخابات 2011، أنّ "هذا نصر اللّه والفتح"، وأنّهم سيظلّون في الحكم طويلاً، وهذا نتيجة تسليمهم بالمطلقات في عالم السياسة المتغيّر، حتى القوى الخارجية، أعني هنا أمريكا، ساندتهم في فترة معينة، لكنّها اليوم تراجعت عن هذا الدعم، ذاك حال السياسة؛ فهي عالم المتغيرات.

اقرأ أيضاً: الانتخابات البلدية في تونس: تقدّم النهضة على وقع مقاطعة شبابية

في الجزء الثاني من السؤال؛ أعتقد أنّ تونس هي البلد الوحيد من بين البلدان التي شهدت ثورات، ما يزال يحمل فسحة من الأمل للنجاح.

تونس أقرّت مشروعات قوانين جديدة بخصوص الحريّات والمساواة؛ كالمساواة في الميراث، والمساواة بين المرأة والرجل، أثارت ردود أفعالٍ متباينة، كيف تنظرون إلى حضورها مستقبلاً في اليومي التّونسي؟

في الواقع؛ عمليّة تمرير هذه المشروعات طويلة ومعقّدة؛ فهي عليها أن تمرّ عبر اللّجان البرلمانيّة، ثمّ عبر التصويت العامّ، ثمّ توضع لها نصوص تطبيقيّة، بالتالي هناك صعوبة تقنية في أن ينتهي كلّ هذا المسار في السنة الوحيدة التي بقيت تفصلنا عن الانتخابات القادمة.

الحداد: جزءٌ كبيرٌ من حالة الإحباط التي يعيشها التونسيون مرتبط بضعف الدّولة

يشهد المجتمع التونسي، خلال الأعوام الأخيرة، بروز بعض الظواهر الخطيرة، التي تطوّرت نحو الأسوأ؛ كارتفاع منسوب العنف، وتطوّر الجريمة وأساليب الاغتصاب، والبعض يدين تراجع علم الاجتماع في تحليلها وتفسيرها وحتّى مقاومتها، ما رأيك في ذلك؟

هذه الظواهر كانت موجودةً في السّابق، لكن التضييق على الإعلام حال دون تعاطيها والحديث عنها، بالتّالي المجتمع التونسي لم يكن مجتمعاً فاضلاً، ثم انهار في الأعوام الأخيرة، وأنا أعتقد أنّ هذه الظواهر استفحلت اليوم بسبب الشعور بضعف الدّولة، وهو ما أكّده العلّامة ابن خلدون نفسه، منذ القرن الثامن ميلادي، بأنّ الدولة هي التي تدفع الشعوب إلى احترام القيم والقوانين، بالتّالي فإنّ المشكل الرئيسي هنا هو ضعف الدولة وعجزها عن فرض هيبتها، وليس مشكل قيم وأخلاق.

هل يفسّر ضعف الدولة حالة الإحباط التي يعيشها التونسيون وتراجع ثقتهم في السياسيين كما تؤكّده نسب سبر الآراء؟

نعم، جزءٌ كبيرٌ من حالة الإحباط التي يعيشها التونسيون مرتبط بضعف الدّولة، أوّلاً: لأنّ التونسيين تعوّدوا أن تحلّ الدولة كلّ مشكلاتهم، ثم وجدوا أنفسهم فجأةً في مهبّ الريح، وثانياً: لأنّ المستقبل بدا لهم غامضاً وولّد لديهم شعوراً بالخوف والفزع.

طيب، كيف ترى مستقبل تونس والتونسيين؟

أنا أرى فسحةً من الأمل، ربّما يبرّرها بقاء الصراعات السياسية الحالية حول المصالح الحزبية والوزارية، رغم طابعها العبثي والانتهازي، صراعات سلميّة وغير عنيفة؛ فهي -رغم إخلالها بروح الدستور- إلا أنّها ما تزال متمسّكة بشكله، وهو ما يُعطي أملاً في غدٍ أفضل.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية