ما سر تحالف اليسار الفرنسي مع المشروع الإخواني؟

ما سر تحالف اليسار الفرنسي مع المشروع الإخواني؟

ما سر تحالف اليسار الفرنسي مع المشروع الإخواني؟


14/02/2024

أينما حلّ المشروع الإخواني، حلّت معه ظواهر مرتبطة به، بصرف النظر عن وجود قواسم مشتركة أو فوارق في المقام المجتمعي الذي يتواجد فيه، ومن بين هذه القواسم، ظاهرة "يسار الإخوان"، الذي سنركز هنا على نسخته الفرنسية.

ظهر هذا التيار في المنطقة العربية بدرجة أولى بعد منعطف اعتداءات نيويورك وواشنطن، في 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وهي الحقبة التي تميزت بارتفاع مؤشرات الخطاب الذي يدور في ما كان يُصطلح عليه بالحوار القومي ــ الإسلامي، ويُقصد به هنا بالتحديد الحوار اليساري ــ الإسلاموي، ولكن جرت أحداث لاحقة، وفي مقدمتها أحداث "الفوضى الخلاقة" أو "الربيع العربي" باصطلاح البعض [بين 2011 و2013]، لنعاين من جهة تراجع أو أفول خطاب الحوار القومي ــ الإسلامي، ونعاين من ناحية ثانية، صعود أسهم ظاهرة "اليسار الإخواني".

هذه ظواهر لم تكن قائمة في المنطقة العربية وحسب، بل همّت حتى الساحة الأوروبية، والنموذج في الدول التي تتواجد فيها أكبر نسبة من المسلمين في القارة؛ أي فرنسا، بعدد مسلمين يتراوح بين 6 و7 ملايين نسمة.

"يسار الإخوان" تيار ينتمي إلى ظاهرة "اليسار الإسلامي"، وتتوزع هذه الظاهرة بدورها على عدة تيارات؛ لأنّها ليست وليدة أحداث السنوات الماضية، وخاصة السنوات التي تلت اعتداءات شارلي إيبدو في 7 كانون الثاني (يناير) 2015، أو اعتداءات أخرى، وإنما وليدة عقود مضت.

ظهرت أولى بوادر "اليسار الإسلامي" في فرنسا، منذ سبعينيات القرن الماضي، مع تعاطف أحزاب يسارية، وخاصة الأحزاب الشيوعية، مع بعض القضايا التي كانت مرتبطة بالجاليات العربية المسلمة، من قبيل انتفاضات معامل شركة "رونو" لصناعة السيارات في 1973.

ظهرت بوادر "اليسار الإسلامي" بفرنسا منذ السبعينيات مع تعاطف أحزاب يسارية مع قضايا مرتبطة بالجاليات المسلمة

وجاءت الموجة الثانية من "اليسار الإسلامي" مع تفاعل بعض النخب الفكرية الفرنسية مع الثورة الإيرانية في العام 1978، وفي مقدمتهم الفيلسوف ميشيل فوكو، إلى درجة تورطه في تحرير متابعة إعلامية من إيران، في عز فترة التعاطف مع تلك الأحداث، قبل ظهور الوجه الآخر لتبعات الثورة، ومنه اغتيال أو ملاحقة الخارجين عن الشق الإسلامي الطائفي في الأحداث، بما تسبب في مراجعات فوكو ومَن معه.

اقرأ أيضاً: فرنسا والعرب.. مرحلة جديدة في عالم متغير

على أنّ الجيل الحالي من الظاهرة هو الذي بالكاد شرعت بعض الأصوات البحثية في تسليط الضوء عليه؛ أي الجيل الذي ظهر إما في الحقبة الأولى التي تلت اعتداءات نيويورك وواشنطن، والنموذج هنا مع الباحث فرانسوا بورغا، أو الحقبة الثانية التي تلت أحداث "الفوضى الخلاقة"، والنموذج هنا مع الإعلامي إدوي بنيل، الذي ألف كتاباً بعنوان "من أجل المسلمين"، وسوف تصدر ترجمته إلى العربية قريباً، وهو أحد المدافعين سابقاً عن الداعية والباحث طارق رمضان.

إدوي بنيل

ومن بين الأسماء اليسارية التي كان طارق رمضان مقرباً منها، نذكر الناشط الحقوقي ألان سورال في مرحلة أولى، والمفكر إدغار موران في مرحلة ثانية، إلى درجة صدور بعض الأعمال المشتركة بين طارق رمضان وإدغار موران، إضافة إلى أسماء أخرى، ولو أنّ مصير هذه العلاقات تطور لاحقاً إلى النقيض كما هو الحال مع ألان سورال، الذي سيأخذ مواقف نقدية من طارق رمضان، كما أعلن عن ذلك بشكل صريح في إحدى حلقات برامجه على موقع جمعية "مساواة ومصالحة" التي يترأسها، إلى درجة أنّه بخلاف تعامله السابق مع رمضان، حيث كان يصفه حينها بالباحث المسلم أو الناشط الجمعوي، أشار في أحد مواقفه النقدية إلى أنّ الأمر يتعلق بـ"منظّر الإخوان المسلمين".

غالباً ما تركز أقلام "يسار الإخوان" على نقد الأنظمة العربية مقابل ما يُشبه تبييض مسؤولية الحركات الإسلامية

أما فرنسوا بورغا، الذي لا يشارك هنا في دول المغرب العربي إلا في المؤتمرات والندوات الإخوانية (وخاصة في المغرب وتونس)، فله ثلاثة إصدارات تدور في فلك الإسلاموية، والدفاع عنها، ومنها كتابه الذي اشتهر به لدى إخوان المنطقة، وعنوانه "الإسلام السياسي في المغرب العربي/ صوت الجنوب" (وصدر في سنة 2008)، ثم كتاب آخر عنوان "الإسلام السياسي في زمن القاعدة: إعادة أسلمة، تحديث، راديكالية" (2006)، وأخيراً، كتاب ثالث حديث الإصدار نسبياً، وعنوانه "فهم الإسلام السياسي" (2016).

اقرأ أيضاً: كيف ستتعامل فرنسا مع الجهاديين المفرَج عنهم؟

ومن بين الأسماء، نجد آلان غريش، أحد كُتّاب شهرية "لوموند دبلوماتيك"، وأسماء أخرى، وهذا التيار هو الجيل الثالث من "اليسار الإسلامي"، لولا أنه مصنف في خانة "يسار الإخوان" بالدرجة الأولى، حتى إنّه الأكثر حضوراً في المنابر الإعلامية والبحثية التابعة للمشروع الإخواني في المنطقة، ومن بين أحدث المواد في هذا الصدد، عرض في كتاب "فهم الإسلام" فرانسوا بورغا، وصدر في موقع "أواصر" القطري، بتاريخ 19 تشرين الأول (أكتوبر) 2021، وهو موقع من مواقع "أسلمة المعرفة" المحسوبة أو المقربة من المرجعية الإخوانية.

إدوي بنيل هو أحد المدافعين سابقاً عن الداعية والباحث طارق رمضان

لجوء إخوان المنطقة إلى خدمات أقلام "يسار الإخوان" في فرنسا، أمر متوقع، ولذلك لعدة أسباب، منها البحث عن شرعية بحثية وإعلامية من خارج المنظومة الإخوانية، على غرار ما قاموا به مع أسماء صوفية خلال الآونة الأخيرة، ومن بين الأسباب أيضاً، إصرار تلك الأقلام على ترديد نفس الخطاب النقدي ضد أنظمة المنطقة، حيث كلما تعلق الأمر بالخوض في الإسلاموية، السياسية مع الإخوان والقتالية مع تنظيم "القاعدة" وتنظيم "داعش"، غالباً ما تركز أقلام "يسار الإخوان" في فرنسا على نقد الأنظمة العربية، مقابل ما يُشبه تبييض مسؤولية الحركات الإسلامية، كأنّها لا تتحمل أي مسؤولية في الانحرافات أو التهديدات أو الاعتداءات التي جرت هنا وهناك في المنطقة وفي أوروبا.

من الأسماء اليسارية التي كانت مقربة من طارق رمضان إدغار موران الذي ما لبث أن انقلب عليه

ولكن لجوء تلك الأقلام اليسارية إلى ما يُشبه التحالف مع المشروع الإخواني، أو على الأقل الدفاع عنه في الساحة الفرنسية، مع أنه أقلية عددية مقارنة مع عدد المسلمين، هو الذي يطرح أسئلة عن دوافعه، والتي لا تخرج في الغالب عن الدوافع ذاتها التي نجدها عند "يسار الإخوان" في المنطقة العربية، من قبيل صعود أسهم الإسلاموية الإخوانية، خاصة بعد أحداث "الفوضى الخلاقة"، مقابل تراجع أسهم الخطاب اليساري ومعه المشاريع اليسارية؛ وهناك أيضاً عامل تصفية الحسابات السياسية مع الدولة الوطنية، وخاصة مع صناع القرار، وهذا ما نعاينه في عدة منابر إعلامية، من قبيل منبر "ميديا بار" الذي يديره التروتسكي إدوي بلنيل سالف الذكر، أو في منابر أخرى، كيومية "ليبراسيون"، يومية "لوموند"، إذاعة "فرانس أنتر" وإذاعة "فرنسا الثقافية".

كانت هناك عدة محطات جعلت الرأي العام يتابع نقاشات في المنابر الإعلامية حول ظاهرة "اليسار الإسلامي"، أو "اليسار الإسلاموي" في نسخته المدافعة عن التيار الإخواني، وفي مقدمتها تبعات تظاهرة "كلنا شارلي" التي نظمت في 11 كانون الثاني (يناير) 2015، حيث ظهر أنّ نسبة لا بأس بها من الأسماء البحثية والسياسية اليسارية، رفضت المشاركة في التظاهرة، وهو الموقف الذي ستكون له تبعات على مواقف صناع القرار من جهة، ومواقف بعض الباحثين والإعلاميين، بخصوص قراءة ظاهرة "اليسار الإسلامي" في نسخته المتحالفة مع الإسلاموية.

وزيرة التعليم العالي الفرنسية حذرت من أنّ اليسار الإسلامي ينخر مجتمعها بأكمله والجامعات غير محصنة

أما المحطة الثانية، فجاءت مع تظاهرة 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 2019 التي دعت إلى مناهضة "الإسلاموفوبيا"، بناءً على دعوة ودعاية قام بها "التجمع المناهض للإسلاموفوبيا في فرنسا"، المحسوب على المرجعية الإخوانية، حيث شاركت عدة فعاليات يسارية في التظاهرة. وكانت المسيرة أشبه بعلامة إنذار عند متتبعي الإسلاموية، بخصوص التأثير الذي أحدثته الدعاية الإخوانية في الساحة الفرنسية؛ لأنّ الأمر هنا لا يهم مسيرة دعت إليها مؤسسة إسلامية عريقة في الساحة الفرنسية، من قبيل المؤسسات التابعة أو المحسوبة على السلطات المغاربية، والتي لا علاقة لها بالإسلاموية بشكل عام، وإنّما يتعلق بمسيرة انخرطت في الدعاية لها جمعية محسوبة على المشروع الإخواني، وهنا أيضاً، شتان ما بين المقامين.

اقرأ أيضاً: إخوان فرنسا: عقود من الانتشار والتغلغل والازدواجية

أحدثت هذه المحطات وغيرها ضجة سياسية تسببت فيها وزيرة التعليم العالي الفرنسية، فريدريك فيدال، عندما تحدثت عن ظاهرة "اليسار الإسلامي" في الجامعات الفرنسية، وأضافت حينها في مقابلة مع فضائية "سي نيوز"، بتاريخ في 14 شباط (فبراير) 2021، أن "اليسار الإسلامي ينخر مجتمعنا بأكمله، والجامعات ليست محصّنة، وهي جزء من المجتمع"، وهو التصريح الذي تسبب في انخراط العديد من الأسماء الفرنسية، من عدة مرجعيات.

وسبق هذا التصريح الوزاري تحذير صادر عن وزير التربية، جان ميشيل بلانكيه، ومؤرخ في 22 تشرين الأول (أكتوبر) 2020، مفاده أنّ "اليسار الإسلامي يثير الفوضى في المؤسسات الأكاديمية الفرنسية"، أي في الشهر نفسه الذي تحدث فيه الرئيس الفرنسي عن "الانفصالية الإسلاموية"، في إحالة على المعضلة الإسلاموية الحركية بالتحديد، وليس إحالة على مسلمي فرنسا من غير المعنيين بهذه الإسلاموية، وحتى هذه الجزئية الدقيقة لم تتطرق إليها قط أقلام "يسار الإخوان" على هامش نقد خطاب الرئيس الفرنسي، ومنها الباحث فانسان جيسير، أحد ضيوف معرض "لوبورجي" الذي ينظمه الفرع الفرنسي للمشروع الإخواني، والذي نشر دراسة نقدية تحت عنوان "انفصالية قادمة من فوق"؛ أي إنّ المعضلة هنا أصبحت من وجهة نظره، تهم رئاسة الدولة الفرنسية وليست الإسلاموية الفرنسية، بل وجّه نقداً إلى الرئيس الفرنسي بشكل مباشر، واعتبر أنّ "التلويح بتأثير جهات أجنبية في تغذية تلك الانفصالية، أمر مردود عليه"، مع أنّ واقع الحال يُفيد خلاف ذلك، وبشهادة إصدارات وأبحاث ومتابعات إعلامية، أكدت تورط بعض دول المنطقة في دعم الإسلاموية، وفي مقدمتها المشروع الإخواني، إلا أنّ هذه المعطيات خارج دائرة التفكير عند أقلام "يسار الإخوان" في نسخته الفرنسية.

اقرأ أيضاً: فرنسا وحديث الإسلاموفوبيا من جديد

صدر الموقف النقدي نفسه ضد الرئيس الفرنسي عن آلان غريش، حيث نشر مقالة بعنوان "فرنسا: تحريف العلمانية لاستهداف الإسلام"، وقد حرّر غريش مقدمة خاصة بالطبعة الجديدة من كتابه الذي يحمل عنوان "الإسلام، الجمهورية والعالم"، في سياق التفاعل مع اعتداءات شارلي إيبدو، حيث لا نقرأ أي شارة نقدية ضد الإسلاموية، مقابل توجيه النقد إلى الدولة الفرنسية وإلى العنصرية وظاهرة "التخويف من الإسلام"، ولهذا يُصنف في خانة "اليسار الإسلامي"، وهذا نموذج من الخدمات التي يُقدمها هذا التيار للمشروع الإخواني.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية