اعتادت حركة النهضة الإخوانية مفاجأة الرأي العام التونسي بخططها السياسية؛ فهي التي قرّرت في خطوة غريبة في العام 2016، التحوّل إلى حزب سياسي مدنيّ، من خلال تخليها الكامل عن النشاط الدعوي الديني، والتفرغ للنشاط السياسي فقط من أجل الحفاظ على السلطة، وهي أيضاً التي رشّحت رئيسات لوائح انتخابية غير محجّبات، للانتخابات المحليّة في العام 2018، واختارت مرشحاً يهودياً تونسياً في إحدى لوائحها الانتخابية، رغم مرجعيتها الإسلامية، ويُنتظر أن تقوم بإجراءات لا تقلّ جرأة خلال الانتخابات البرلمانية والرئاسية، المقرّر إجراؤها نهاية العام الجاري.
اقرأ أيضاً: السبسي نادم.. ما علاقة حركة النهضة؟
ويعدّ بعض المحللين خطط النهضة الانتخابية، مجرّد "مناوراتٍ" سياسية، و"دعايات" انتخابية هدفها كسب أكبر عددٍ من المؤيدين دون أن يؤثر ذلك في فكر الحركة، فيما يرى آخرون أنّه "لؤم" سياسي، هدفه الظاهر إعطاء الرأي العام انطباعاً بأنّ فكر الحركة متفتح وقابل للتغير، ويبطن مساع حثيثة للسيطرة على السلطة وعلى المشهد التونسي.
وتبحث الحركة مع قرب موعد الاستحقاقات الانتخابية المقبلة (في تشرين الأوّل (أكتوبر)، وتشرين الثاني (نوفمبر) 2019)، عن حلول تمكّنها من تجاوز المأزق الذي وضعت فيه، بعد اكتشاف تورّطها بالاغتيالات السياسية التي عاشتها البلاد في العام 2013، وتكوينها لجهازٍ سرّي ينفّذ خططها، فضلاً عن الاتّهامات الموجّهة إليها بتسفير الشباب إلى بؤر التوتر.
ما وراء زيارة الغنوشي قطر
في بداية شباط (فبراير) الحالي؛ أجرى زعيم الحركة، راشد الغنّوشي، زيارة إلى قطر، وصف مراقبون للشأن التونسي دوافعها بـ"المريبة"، ورجحوا ارتباطها بأزمة الحركة الأخيرة، خاصة أنّها جاءت في سياقٍ سياسي تمّ تضييق الخناق فيه عليها بسبب اتهامها بالاغتيالات السياسية، والفساد المالي والسياسي، وقدّر مختصون في الشأن السياسي أن تكون مرتبطة بالأزمة السياسية التي تعيشها البلاد، منذ قرّر حزب "نداء تونس" العلماني فكّ التوافق مع الحركة بسبب "شبهات الإرهاب" التي تلاحقها.
اقرأ أيضاً: انشقاقات واختراقات تهدد حركة النهضة .. بالتفاصيل
من جهته، نفى الناطق باسم الحركة، عماد الخميري، ما يتم تداوله حول أهداف الزيارة وخلفياتها، وقال إنّها زيارة عادية ككل الزيارات التي يؤديها الغنوشي إلى مختلف البلدان، مشدّداً على أنّ هذه الزيارات تندرج في خانة "الدبلوماسية الشعبية" التي يقوم بها الغنوشي، والتي حذّر من تأثيراتها السلبية على صورة البلد مختصون في المجال.
ورأى الخميري أنّ ما يقوم به الغنوشي "لن يؤثّر في عمل الدبلوماسية الرسمية للبلد، بل يخدمها، كما يخدم صورة تونس في الخارج، ويدعم اقتصادها"، نافياً أن تكون لذلك "علاقة بالاتهامات الأخيرة الموجهة للحركة بتكوينها جهازاً سرياً والتورط في الاغتيالات السياسة".
هذا، وتداولت وسائل الإعلام المحلية وثيقةً مسرّبة في شكل مراسلة صادرة عن محافظ البنك المركزي التونسي إلى البنوك التونسية، للتثبت من حسابات الحركة وعدد من الناشطين فيها.
نزار عمامي: حركة النهضة لها ارتباط إستراتيجي بالمحور القطري-التركي
وطالبت الحركة بفتح تحقيق قضائي حول تسريب هذه المراسلة، خصوصاً أنّها تتعلق بحساباتها وحسابات عددٍ من قياداتها دون باقي الأحزاب، وعبّرت عن إدانتها الشديدة لهذا السلوك، داعيةً إلى ضرورة تحييد أجهزة الدولة عن الصراعات السياسية والحزبية.
من جهته، يرى نزار عمامي؛ النائب عن الجبهة الشعبيّة المعارضة (يسار)، وعضو لجنة التحقيق حول موضوع الفساد المالي والتهرب الضريبي أنّ ما يربط حركة النّهضة بالمحور القطري-التركي، هو "ارتباط إستراتيجي، خاصّة في ظلّ وجود شبهاتٍ حول تدخّل المال القطري في الحملات الانتخابية السابقة لحركة النهضة"، منوهاً إلى أنّه "لا يستبعد أن تموّل قطر حملة النهضة الانتخابية القادمة، في ظلّ الأزمة التي تعيشها الحركة بعد محاصرتها باتهامات خطيرة".
ولفت عمامي، في تصريحه لـ "حفريات"، إلى أنّ الأحزاب الكبرى في تونس، في مقدّمتهم حركة النهضة، تصرف مبالغ مالية كبيرة، لأنشطتها ومؤتمراتها الحزبية، وهو ما يثير الشكّ في مصدر هذه الأموال، خاصة في ظلّ غياب عقوبات ردعية لتجاوزات مالية خلال المحطات الانتخابية السابقة.
اقرأ أيضاً: هل سهّلت حركة النهضة سفر تونسيين متطرفين للقتال في سوريا؟
وفي السياق ذاته، يقول زهير المغزاوي، النائب عن الكتلة الديمقراطيّة المعارضة (وسطية)؛ أنّ الدعم القطري لحركة النهضة "لم يعد خافياً على الجميع، وأنّ الزيارة التّي قام بها الغنّوشي مؤخراً إلى قطر تندرج ضمن المحور القطري-الإخواني، بحثاً عن دعم مالي وإستراتيجي خلال المحطات السياسية القادمة".
ملاعبة الأحداث
وأثار إعلان زعيم الحركة، راشد الغنوشي، التوصل رسمياً إلى حلّ أزمة التعليم في تونس، وإبرام اتفاق التوافق بين نقابة التعليم، والحكومة، قبل أن تعلن عن ذلك الأطراف المعنية بالتفاوض، استياءً لدى الرأي العام التونسي حول تدخّله في الملف.
زهير المغزاوي: الزيارة التي أدّاها الغنوشي قد ترتبط بالبحث عن دعم مالي وإستراتيجي خلال المحطات السياسية القادمة
واستنكرته المركزية النقابية التي تقود المفاوضات، ورأت أنه تصريح مفاجئ، وادعاءات بالمحاولة اليائسة للركوب على الأحداث وافتعال مبادرات لا أساس لها من الصحة، وأكّدت المركزية النقابية، في بلاغٍ رسمي، أنّ المفاوضات بشأن أزمة التعليم جرت رأساً مع الحكومة دون سواها.
وكشف المرشّح السابق للانتخابات الرئاسية في العام 2014، الصافي سعيد، في تدوينة نشرها على موقع فيسبوك، سرعان ما سحبها، أنّ "قطر تعهّدت بدفع الزيادة في رواتب الأساتذة التي طالبوا بها، بتدخّل من الغنوشي، لمدّة سنتين، معلّقاً بأنّ تونس أوّل دولة حداثية يحكمها الإخوان".
من جهته؛ نفى الغنوشي أن تكون دولة قطر قد موّلت الزيادة في الأجور التي وقعتها الحكومة مع الاتحاد العام التونسي للشغل، كما نفى أن يكون قد لعب دور الوساطة بين الحكومة التونسية وقطر لتمويل هذه الزيادات، وقال: "لم يحصل هذا ولو حصل لعدّوه شرفاً وأنا لا أدّعي شرفاً لم يحصل".
اقرأ أيضاً: الغنوشي يناقش في الدوحة عدم استقرار حركة النهضة
ويعتقد المحلل السياسي، باسل ترجمان، في تصريحه لـ "حفريات"؛ أنّ الغنّوشي أراد أن يحقق "سبقاً سياسياً"، بحديثه عن وجود اتفاق حكومي-نقابي وهو ليس طرفاً في المفاوضات، ويرى أنّه لم يوفَّق في ذلك، واصفاً إياه بالخطأ الاتصالي.
وأضاف ترجمان؛ الغنّوشي أراد أيضاً أن يوجّه رسالة لخصومه السياسيين، بأنّه يمثل الحكومة، كنوع من التسويق السياسي، غير أنّ ردّ المركزية النقابية، دفعه إلى مراجعة حساباته وتبرير هذه الخطوة التي قام بها، وهو ما يعكس محاولته للقفز على الأحداث وتطويعها لمصلحة سياسية ضيقة، دون اعتبار النتائج التي قد تنجرّ عنها.
المحلل السياسي، يؤكّد في سياق متصل، أنّه من الضروري تهيئة الأجواء السياسية العامة من أجل إجراء الانتخابات التي اقترب موعدها، وأنّ ذلك لا يمكن أن يحدث دون غلق ملف الجهاز السرّي، والنظر في التهم الموجّهة لحركة النهضة نهائياً، لأنّ الأجواء السياسية المشحونة لا تستطيع تأمين انتخابات ديمقراطية ونزيهة.
ما علاقة حركة النهضة بالجمعيات الدينية المثيرة للجدل؟
هذا وقد كشف وزير الداخلية، هشام الفوراتي، خلال جلسة عامة في البرلمان، بتاريخ 11 شباط (فبراير) العام 2019، عن وجود 259 جمعية ذات توجهات دينية ودعوية في تونس، من بينها 15 جمعية قرآنية، تستغل فضاءات عشوائية، وتستقطب 530 شخصاً.
علي الزرمديني: الجمعيات الدينية غطاء خلفي لممارسات الأحزاب ذات المرجعية الدينية، في مقدمتهم حركة النّهضة
وأشار إلى تنامي ظاهرة تكوين الجمعيات ذات التوجهات الدينية، منذ العام 2011، وهي تنشط تحت غطاء العمل الخيري والاجتماعي، ويشرف على تسييرها أشخاص عرفوا بانتماءاتهم إلى منظمات دعوية كجماعة الدعوة والتبليغ.
وكان رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، شوقي الطبيب، قد صرّح مؤخراً بحصول جمعيات تونسية، تنشط تحت الغطاء الديني، على تمويلات في شكل تبرّعات بالعملة الصعبة من أبناء الجالية التونسية بالخارج، وذلك تحت ذريعة القيام بأعمالٍ خيرية في تونس؛ ليتبين لاحقاً أنّه لا أثر يذكر لتلك المبالغ في تونس، ولم يتم التصريح بإدخالها إلى التراب التونسي عبر المسالك القانونية.
اقرأ أيضاً: حركة النهضة في تونس: تهم بتأسيس جهاز سري واغتيالات محتملة
وفي هذا الخصوص، يرى الخبير الأمني علي الزرمديني، في تصريحه لـ "حفريات"؛ أنّ هذه الجمعيات، هي الغطاء الخلفي لممارسات الأحزاب ذات المرجعية الدينية، في مقدمتها حركة النهضة، وإن تخلّصت من جانبها الدعوي، إلا أنّ بداياتها كانت عبر الخيمات الدعوية، والاستقطاب لتسفير الشباب خارج البلاد، وهي كذلك منفذ لهم من أجل صرف الأموال والاستقطاب والدعوة لتحريك الآلة الانتخابية.
ويضيف الزرمديني؛ هذه الجمعيات تستثمر أموالها المتأتية من الداخل والخارج، التي لا تخضع لمراقبة الدولة، وتعمل على توظيفها في أعمال مبنية على الغموض والتستّر، وتعلنها على أنها أعمال اجتماعية.
من جهته، يقول نائب عن الكتلة الديمقراطية بالبرلمان، زهيّر المغزاوي، في تصريحه لـ "حفريات": "إنّ هذه الجمعيات هي مجرّد أذرع لأحزاب دينية محظورة، وأخرى معلومة كحركة النهضة"، لافتاً إلى "ضرورة إصدار قانون ينظّم تمويل الجمعيات، ويراقب الأموال المتأتية من الخارج، لأنّه جزء أساسي في محاربة التطرف".