التجربة الإخوانية في الميزان: كيف تبني الأصولية وعياً زائفاً؟

التجربة الإخوانية في الميزان: كيف تبني الأصولية وعياً زائفاً؟

التجربة الإخوانية في الميزان: كيف تبني الأصولية وعياً زائفاً؟


16/03/2024

كان حسن البنا، في الثامنة عشر من عمره، حين سقطت الخلافة. كان أصغر من رشيد رضا بجيلين، على الأقل، ويشاطره نقمته على الدولة الحديثة، لكنّه على عكس رضا، الذي شَهَر هتافه يائساً في وجه العالم بعودة الخلافة، سار بخطى وئيدة لإعادة الإسلام إلى العالم ضدّ دولة لا تضع الدين على جدول اهتماماتها، مفروضة على شعب يتألم منها دون أن يعبّر عن آلامه بلغة واضحة، أو هكذا تَصَوّر.
سيمتدح البنا الإمبراطورية الآفلة، ويعرج بحياءٍ بالغ على أخطائها، لكن أياً كان ما كانت عليه فإنّ جذر الهزيمة هو التقسيم الغربي لأمة الإسلام، وزراعة الجسم الغريب المسمَّى "القومية" في نسيجها، وبما أنّ عودتها مستحيلة؛ فإنّ الدولة الإسلامية المرجوَّة ستقوم مقامها في الإصلاح، بل ستكون هي محور الإصلاح ودليله.

اقرأ أيضاً: الإخوان والقضية الفلسطينية.. هكذا يسرقون التاريخ!
لم تكن هناك، على الإطلاق، محاولة من قبل الشاب الناقم لخلق نبالة وراثية جديدة، أو إسناد شرف قيادة الإسلام إلى نبالة قائمة (أسرة محمد علي) فالبنا في مبتدأ الأمر ومنتهاه لم يكن سليلاً لعائلة مرموقة، ولا هو محامٍ لعائلات حاكمة مغدور بها؛ بل هو ابن الأنتلجينسيا (طبقة المتعلمين) المُحبطة والمشوشة، ودليلها على حصتها من الاغتراب.
أيديولوجيا الضلال التاريخي
بوسع أيّ متأمل في التحولات الاجتماعية التي شهدها المجتمع المصري في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين؛ أن يلاحظ المشاعر الصاخبة والمشوَّشة التي جرى استقطابها لصالح تقليدية محدثة، أو في إطار مذهب دين/ سياسي، يمزج العناصر التقليدية (الطائفة، المجتمع العضوي، سلطة الأب الزعيم، توظيف النصوص الدينية في العمليات السياسية)، في نسيج واحد مع عناصر تحديثية (رفض التقليد الديني، التمرد على المؤسسة الدينية، التنظيم على أسس لينينية، لغة سياسية حديثة متجاوزة للتراث) ضدّ عدوّ واقعي أو متخيَّل (لا فرق)، هو: التغريب، الإرساليات الدينية، الجاليات الأجنبية، العلمانية التي فتتت المجتمع المسلم، وإسناد كلّ مشكلات البلاد لوجود هذا العدو الذي هو باختصار مؤامرة غريبة على الإسلام.

استطاعت جماعة الإخوان أن تجذب العمال المستخدمين في شركات أجنبية بأن نسبت بؤس حالهم إلى كون أصحاب الأعمال "نصارى"

السؤال الأكثر أهمية فيما يتعلق بأيّة ظاهرة أيديولوجية هو: كيف يمكن أن تخلق عقدة لمنظومة أفكارها بمجرد أن يقبل بها المتلقي سيقبل بكلّ ما في المنظومة من هراء وسذاجة ولاعقلانية واضحة وضوح الشمس؟
في تاريخ الأدلجة؛ هنالك مثال فجّ على تزييف وعي المجتمع، وهو المثال الألماني (الذي درسه سلافوي جيجك بحنكة وبراعة)؛ فحتى يقبل الألماني بالمنظومة الفكرية النازية غير العقلانية، عليه أن يقبل بفكرة "المؤامرة اليهودية" عليه وعلى بلده، وعندما يسلّم بذلك؛ لعجزه عن امتلاك تفسير واضح ومنطقي لسبب الانحلال الأخلاقي في المجتمع الألماني (وهو الرأسمالية التي فكّكت البنية التقليدية للمجتمع من دون أن توفر بديلاً آخر، تماماً مثل حالة مصر في الفترة التي أنتجت أمثال حسن البنا) سيسلّم بكلّ محاور المنظومة الأيديولوجية.
المؤامرة، إذاً، هي عقدة المنظومة، وبمجرد الاقتناع بها سيقبل الفرد تفاصيل لا نهائية يقدمها الخطاب مهما وصلت درجة لا عقلانيتها؛ فحتى يقبل المصري بأنّ الدولة الإسلامية ملاذه الأخير في العالم عليه أن يقبل بقمة الدوغمائية الكامنة في فكرة المؤامرة الغربية على الإسلام.

 


سيكون علينا أن ألا نستهين بذكاء أيديولوجيي الإسلام السياسي، كما يفعل مؤرخو اليسار دائماً (يتساءل المؤرخ الراحل رفعت السعيد في كتابه الشهير عن حسن البنا عما إذا كان المرء مطالباً بأن يأخذ الإسلام السياسي على محمل الجدّ؟) حين يدرسون عدم إعارة الإخوان المسلمين أيّ انتباه للأسباب السياسية والاقتصادية للأزمة التي مرّ بها المجتمع المصري في الثلاثينيات، ونسبتها مسؤولية ذلك إلى الأقليات اليهودية والمسيحية.

 

اقرأ أيضاً: من الأرشيف البريطاني: كيف خدم "الإخوان" لندن؟
لنعترف بالاستعلاء اليساري الدائم على الجماعة؛ فهي لا تمتلك العدة النظرية، ولا المفاهيمية، ولا الرؤية السياسية اللازمة لطرح برنامج سياسي يليق بمنظمة جماهيرية وكيان سياسي؛ وأنّها بتحويلها الأنظار عن الأسباب الحقيقية للأزمة الاقتصادية والاجتماعية، عبر استغلال المشاعر الشعبية المستاءة من الامتيازات التي تتمتع بها الأقليات الأجنبية والدينية؛ فإنّها بذلك تعكس "جهلاً منقطع النظير" بواقع الحال، ورغبة شريرة في التشويش على الجهد الوطني المبذول من قبل التيارات العقلانية.
وهناك بالطبع أساس لتلك الرواية؛ فجماعة الإخوان المسلمين لم تطور عبر عقدين من التمدّد واكتساح الساحة السياسية، برنامجاً سياسياً يتصدى للمشكلات الضخمة التي واجهت مصر قبل 23 تموز (يوليو) 1952؛ من قبيل الإصلاح الزراعي (هناك طرح ليبرالي في المسألة قدمه ميريت بطرس غالي، وطرح يساري قدمه راشد البراوي) ومنظومة العمل المجحفة بحقّ العمال، ومشكلات التعليم وانحصاره في طبقة العليا (طرح طه حسين، المكروه من قبل الجماعة، ونفّذ برنامجاً لمجانية التعليم) وهكذا.

اقرأ أيضاً: "العقول البيضاء".. خطة الإخوان لصناعة المتطرفين
وعلى هذا، رأى اليسار أنّ للجماعة مشروعاً يتيماً هو إحباط الحركة الوطنية بحكم عمالتها للإمبريالية والطبقة الحاكمة؛ في وقتٍ رأى فيه الليبراليون في نشأة وازدهار الجماعة محض مؤامرة على "الوفد"، حزب الليبرالية المصرية العريق، وهناك أساس أكثر صلابة لهذه التهمة، يتمثل في تحالفها مع الملك وأحزاب القصر.
وتتغاضى هذه الاتهامات عن بديهية مفادها؛ أنّ برنامجاً لحركة تدور في كنف الدين لا يملك الأفق ولا الطاقات اللازمة لحيازة رؤية سياسية تقدمية، إضافة إلى الطابع القصدي في عمومية الأيديولوجية الإخوانية؛ فالجماعة بحرصها على العموميات المستندة إلى الدين استطاعت أن تتفادى الانقسامات الناتجة عن الاختيارات السياسية والاجتماعية التي تطلب برامج شتى.
مَن يضلّل مَن؟
السؤال الذي شغل كافة الاتجاهات السياسية في مصر (عدا الإخوان بالطبع)، هو: هل كانت الجماعة تقصد تضليل الجماهير عن مشكلات البلد وأسبابها وسبل علاجها، أم كانت أيديولوجيتها مختلطة؛ حيث لم يدرك قادتها أنفسهم طبيعة المشكلات السياسية والعملية الناتجة عن وضعها موضع التطبيق؟
يجزم المؤرخ المُكرّس، عبد العظيم رمضان، في دراسته الشهيرة عن الإخوان، بأنّ الجماعة ضلّلت الجماهير عن قصد، وأنّها خدعتهم بأنّ ليس لها إلا أغراض دينية محضة، وليست سياسية، ويلحّ رمضان على أنّ هذا هو سرّ انتشارها السريع.

الاستعلاء اليساري الدائم على الجماعة ينصب على أنها لا تمتلك العدة النظرية ولا المفاهيمية ولا الرؤية السياسية اللازمة لطرح برنامج للجماهير

في المقابل؛ كان المؤرخ الأبرز، طارق البشري (قبل تحوله إلى الإسلاموية)، أكثر كرماً مع الجماعة في كتابه بالغ الأهمية "الحركة السياسية في مصر: 1945-1953"؛ باعتبارها نفسها قد خدعتها أيديولوجيتُها، ويختصر البشري مشكلة تلك الأيديولوجيا في "الغموض".
أما من أين يأتي الغموض؟ فالبشري يؤكّد أنّه ناتج عن التحليل الديني للمجتمع، وهي مهمة مستحيلة وتُنتج كوارث نظرية وسياسية بالضرورة؛ إذ لا يمكن تحليل المجتمع دينياً إلا على أساس طائفي أو تكفيري، وبالفعل -في سياق النفخ في الحماسة الدينية لأعضائها ومحبيها- نسبت الجماعة كلّ مشكلات المجتمع إلى الإلحاد والانحراف، الناتجَين عن المؤامرة الغربية، وبالتالي سيكون "الإسلام هو الحلّ" لهذه المشكلات جميعها.
وضع البشري يده على عنصر الخلل في أيديولوجيا الجماعة (التي عاشت أكثر مما ينبغي لمنظمة من صنفها)؛ فقد كان من المحتم أن تنتج تبسيطية مخجلة من هذا النوع كوارث مجتمعية، لم تظهر بشكل كافٍ مع مؤسسها حسن البنا، الذي عصمت شخصيته القيادية الآسرة الجماعة من اختبارات المحيط السياسي وانشقاقات الداخل، لكنّها ظهرت وقت المحنة الناصرية مع سيد قطب.

"الحركة السياسية في مصر: 1945-1953"
وهناك مثال يمكن أن يُقرّب ذلك: في مقاربته للهيمنة الغربية على المجتمع؛ رأى البنا أنّ النضال ضدّ الإمبريالية هو تجلٍّ للصراع الأزلي بين الشرق والغرب، وهو بذلك يستعمل لغة أبناء جيله (بل يتوافق مع كاتب لطالما عُرف بعدائه للجماعة وهو عباس العقاد) ولا يخرج عن ترسيمات خطاب الأصالة السائد آنذاك، وهو خطاب حاول احتواء آثار الحداثة وإخضاعها إلى خصائص وأخلاقيات محافظة يتميز بها الشرق، كما تصور منتجوه، على النقيض من الغرب المادي المنحل أخلاقياً.

اقرأ أيضاً: مصر عصيَّة على "الإخوان"
وذلك على عكس خليفته، سيد قطب، الذي رأى أنّ الصراع ضدّ الإمبريالية ليس اقتصادياً ولا سياسياً، بل هو "صليبي" حصراً، وبالتالي حين عادى البنا النخبة السياسية والثقافية برّر عداءه باغترابها عن الواقع المصري وتعلقها بالغرب، بينما قطب وصمها بالكفر والجاهلية، ولم يكن البنا ليشعر بخيبة أمل وهو يرى إلى أين تؤدي أفكاره.
فنّ الحلول الزائفة
حتى عام 2013، عام السقوط التاريخي للإخوان المسلمين، لم تكن تخلو محطة مترو في القاهرة من ملصق (لن ينتهي الغلاء حتى تتحجب النساء)، ولم يكن الذين لم يبلعوا (الطُعْم) العقدة الإخوانية "المؤامرة الغربية على الإسلام" بقادرين على استيعاب كيف يتدنى تفكير الإنسان (الحيوان العاقل) إلى هذا المستوى! لكن "جراب" الجماعة مليء بحلول أكثر عبقريةً وإبداعاً! وهذه الحلول لا تخرج إلّا بعد أن تغلق الجماعة المجال الأيديولوجي بإحكام على نفسها.

اقرأ أيضاً: تُقْية سياسية أخرى لإحياء تنظيم الإخوان
فقد استطاعت شعارات الإخوان: "القرآن دستورنا"، و"الرسول زعيمنا" (وهو شعار صُمِّم خصيصاً كمناكفة سياسية مبتذلة لشعار الوفد "النحاس زعيمنا") أن تكتسب شعبيةً مهولة في الثلاثينيات والأربعينيات، ويسود تفسير الباحث الهولندي المختص بالتاريخ الاجتماعي، رول ماير، في كتابه "الدراسات التاريخية المصرية المعاصرة"، ومن بعده المؤرخ الناصري سابقاً، الإسلامي لاحقاً، طارق البشري (في كلّ كتبه تقريباً) لهذه الشعبية، ومفاد هذا التفسير؛ أنّ ما جعل شعبية شعارات الإخوان ممكنة هو أنّ المجتمع المصري وقع فريسة البلبلة الناتجة عن التحول السريع إلى النظم الغربية في التشريع والإدارة.

تمكّنت جماعة الإخوان من أن تستغلّ، بدهاء، المشكلات الاجتماعية للدعاية لتطبيق الشريعة
ويستشهد ماير بمؤسسات المحاكم المختلطة التي لم تكن تطبق قوانين غير مفهومة بالنسبة إلى المصريين فحسب، بل إنّ هذه القوانين لم تكن تعمل لصالحه، مثلما هو الحال بالنسبة إلى الفلاحين، الذين أخضعوا للقوانين الغربية فيما يتعلق بالصفقات وعقود الإيجار الزراعي.
لكنّ تفسير ماير تجاهل أمرين:
1- أنّ قوانين المحاكم المختلطة كان مجرد فرع في منظومة تشريعية كاملة أثبت كفاءة لم يعهدها المواطنون، الذين اعتادوا على مستوى ضئيل من الكفاءة التشريعية لدى الفقهاء والقضاة الشرعيين.
2- الفلاحون الذين يستشهد بهم ماير كمتضررين من تطبيق القوانين الغربية الجائرة، ومن ثّم اجتذبهم شعار تطبيق الشريعة؛ هم الطبقة الوحيدة في مصر التي حققت استعصاءً تاريخياً على الجماعة، ولم تكن يوماً ضمن قاعدتها الاجتماعية.

اقرأ أيضاً: الكذب الأبيض المقدّس: الاختراق الإخواني للسويد
في روايته "يوميات نائب في الأرياف"، التي تدور أحداثها في ثلاثينيات القرن الماضي، رصد توفيق الحكيم رفض الفلاحين المصريين للقانون المدني المصري، المأخوذ عن "قانون نابليون"؛ لأنّهم كانوا يملكون مفهوماً مختلفاً للعدالة والجريمة والخطأ والصواب، وهذا التباين بين مفهومَين مختلفين تماماً عن الحقّ والواجب، هو ما سمح لرول ماير والبشري وبرتران بادي، بدرجة ما، في كتابه: الدولة المستوردة"؛ بأن يقدّموا تفسيرهم للانقسام بين تشريع مألوف وآخر مفروض.
لكنّ الريف في الثلاثينيات لا يمكن اتخاذه مقياساً عاماً، أو أحادياً، لاحتياجات المصريين القانونية، لسببين: أولهما؛ أنّ للريف قانونه الخاص، وهو ليس الشريعة (فيما عدا الأحوال الشخصية وبشكل نسبي جداً)؛ بل الأعراف الموروثة وبعضها يتضاد مع الشريعة أصلاً، وثانيهما: أنّ المدن، وليس الريف، كانت آنذاك محور الحياة الاجتماعية، وهي تختلف كلياً عن الحياة الراكدة في الريف، وتتّصل بشكل عضوي بالعالم الخارجي، وتطلّبت أنماط الحياة الحديثة فيها تشريعات تواكب المتغيرات الكبرى الفاعلة في أحشائها.

اقرأ أيضاً: لماذا يُخفي الإعلام الإخواني عمل الجماعة في أوكرانيا؟
وبالتالي؛ يجب البحث عن تفسير أكثر إقناعاً، وهو ما نجده في الأيديولوجيا، وليس في مصدر التشريع، ويمكننا القول إنّ اللاعقلانية التي نشرها الإسلام السياسي (وواسطة العقد فيها هي شيطنة القانون الوضعي واعتباره اعتداءً سافراً على سلطة الله) هي التي اختلقت الانقسام القانوني في المجتمع؛ بوضعها الشريعة كطرف مُقصى دون ذنب، وتجب استعادته بأيّ ثمن من أجل إكمال دين المسلم (الذي لا يكتمل وشريعته مهملة)، ومن أجل حلّ المشكلات الناتجة عن التحديث. المزاوجة بين الاعتبارات الدينية والدنيوية مهنة إخوانية بامتياز.

 

"بيضة" الشريعة وحجر السياسة
تمكّنت جماعة الإخوان من أن تستغلّ، بدهاء، المشكلات الاجتماعية للدعاية لتطبيق الشريعة في أسلوب تتأثر به المشاعر الدينية الكامنة بطبيعة الحال؛ فالدعوة إلى إلغاء الربا وجدت استجابة مباشرة من قبل التجار الصغار المكبلين بالقروض، وكذلك ملّاك الأراضي المحاصرين بالإجراءات المجحفة، التي تسلكها البنوك الزراعية، كما لاقت الدعوة إلى إغلاق محلات الخمور ترحيباً حاراً من الأغلبية الفقيرة المنزعجة من اغتراب الصفوة وتعاليها (لم تكن دعوة للقضاء على تعاطي الحشيش لتلاقي صدى مماثلاً في مصر في كلّ مراحل تطورها الاجتماعي).

اقرأ أيضاً: شبكات التمويل الإخوانية: من الطرق البدائية إلى "أوف شور"
كما استطاعت الجماعة أن تجذب العمال المستخدمين في شركات أجنبية؛ بأن نسبت بؤس حالهم إلى كون أصحاب الأعمال "نصارى لا يريدون الخير للمسلمين".
بوضع الأمور في سياقها التاريخي؛ سنجد أنّ الجماعة استثمرت في إحباط الأغلبية من الأعمال الصادرة عن حزب الوفد، وبدلاً من تنمية حسّ نقدي لدى الجمهور لواقع البيئة السياسية المأزومة، اعتمدت على غياب هذا الحسّ العقلاني في أدلجة الناس عبر إغراق المجال العام بالمشاعر السلبية، تجاه النخبة السياسية (المغتربة) وبالأفكار المسبقة المبسّطة عن ضرورة عودة السياسة إلى الدين من أجل تخليص الجمهور من إحباطاته التي نمّتها مسبقاً.
كانت الجماعة، كما يقول التعبير الشعبي المصري: "تلعب بالبيضة والحجر"؛ فهي تدين الوفد على ضعف أدائه في ملف القضية الوطنية بمواجهة الاحتلال وتقلّب جماهيره عليه، في وقتٍ لا تنطق فيه بحرف واحد ضدّ الاستعمار! وقد استفادت من هذا الموقف المراوغ استفادة قصوى؛ بأن حمت أعضاءها (المدجّنين على المستوى الوطني والصاخبين على المستوى الاجتماعي) من ملاحقات البوليس السياسي (التابع للإدارة الاستعمارية)، التي طالت كلّ أطياف الحركة الوطنية المصرية.

اقرأ أيضاً: قطر والإخوان المسلمون... علاقات قديمة ودائمة
في المقابل؛ أتاح هذا الموقف للوفد أن يتهم الجماعة بأنّها حجر عثرة أمام الحركة الوطنية وحزبها الأكبر، ولليسار بأن يتّهمها بأنّها تعمل في خدمة المصالح الاستعمارية، وغالباً ما يتم الاستشهاد في هذا السياق بوثيقة "نحو النور"، وهي أول وثيقة سياسية أصدرتها الجماعة، من أيّ ذكر لمسألة إنهاء الاحتلال.
ولم يشفع للجماعة مطالبتها بإصلاحات داخلية؛ فسلّة إصلاحاتها المأمولة لم تضمّ أكثر مطالبها التقليدية: تطبيق الشريعة وإغلاق بيوت الدعارة وصالات القمار، وهي مطالب لم يرَ فيها ممثلو الحركة الوطنية أيّ تهديد على استبداد الملك ولا وصاية الاحتلال.
بل إنّ هذه المطالبات أضافت لسجل الجماعة السياسي الشائن وصمة جديدة حين اندلعت المواجهات المسلحة بين فدائيي الحركة الوطنية وبين الجنود البريطانيين في منطقة القنال؛ إذ حوّل حسن الهضيبي دفّة اهتمام الجماعة إلى "الحرب المقدسة" على بيوت الدعارة و"الكباريهات"، وهو ما ظهر كتشتيت الانتباه عن النضال الثوري.
ولم يكن الهضيبي نشازاً على لحن الجماعة؛ بل تجلٍّ لمنطقها بتحويل نفسها إلى "ممثل للإسلام" مترفّع عن السياسة اليومية التي يؤدي الانخراط فيها إلى التشابه بين الجماعة وبين الكيانات السياسية الأخرى، وكان في ذلك السبب الأوليّ لصعودها والسبب المؤجَّل لانهيارها.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية