الانسحاب الروسي من خيرسون بين العسكري والسياسي

الانسحاب الروسي من خيرسون بين العسكري والسياسي

الانسحاب الروسي من خيرسون بين العسكري والسياسي


14/11/2022

يطرح انسحاب القوات الروسية من خيرسون جملة من التساؤلات حول طبيعة وأهداف هذه الخطوة، تتراوح الإجابات عنها ما بين وصفها بانتكاسة روسية جديدة في إدارة حربها على أوكرانيا، أو أنّها خطة تكتيكية جاءت في إطار خطوة إلى الخلف من أجل خطوتين إلى الأمام، وأنّ القوات الروسية ستعود إلى احتلال خيرسون عمّا قريب بعد إعادة تجميع قواتها، خاصة أنّ تصريحات رسمية روسية تؤكد أنّ خيرسون ما تزال جزءاً من الأراضي الروسية التي تم ضمها إثر استفتاء نهاية أيلول (سبتمبر) الماضي.

ورغم تعدد السيناريوهات التي يمكن أن تفسر هذا الانسحاب، إلا أنّها لا تخفي حقيقتين  مترابطتين شكّلتا مرجعية في تطورات هذه الحرب؛ الأولى مرتبطة بالتطورات الميدانية في ساحات المواجهة العسكرية بين القوات الروسية مع القوات الأوكرانية، والثانية سياسية عكستها تطورات "الحوارات بين موسكو مع واشنطن والعواصم الأوروبية" على خلفية هذه الحرب.

فعلى الصعيد العسكري، لعله من غير الممكن عزل الانسحاب الروسي من خيرسون عن سلسلة من "الانتكاسات" الروسية الميدانية شكّلت عنواناً للقيادة العسكرية الروسية منذ بدء الحرب، بما فيها الانسحابات من محيط كييف، ومن خاركوف ومناطق أوكرانية أخرى، ولاحقاً الهجوم الأوكراني المضاد في ليمان، وكان القاسم المشترك في تبرير تلك الانسحابات من قبل الجانب الروسي أنّها تكتيك هدفه "إعادة انتشار للقوات الروسية"، وهو ما قوبل بانتقادات واسعة من "جنرالات روس"، وبدت معها تبريرات روسية بأنّ "صمود" الجيش الأوكراني مرتبط بالدعم العسكري الأمريكي والغربي لأوكرانيا، ومشاركة حلف الناتو في المعارك بمستويات مختلفة غير مقنعة لكثير من الروس والمتابعين، لا سيّما بعد تسريبات حول "استعانة" الجيش الروسي بطائرات إيرانية مسيّرة، وبصواريخ قصيرة المدى من كوريا الشمالية.

الانسحاب الجديد من خيرسون، غير معزول عن التغيير المستمر في الأهداف الروسية المعلنة لهذه الحرب؛ ما بين الحيلولة دون انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، وبين مواجهة الغرب في استحضار لإيديولوجيا ومفاهيم الحرب الباردة

بيد أنّ هذا الانسحاب الجديد من خيرسون، في الوقت عينه، وعلى أهمية خيرسون الإستراتيجية لارتباطها بشبه جزيرة القرم، غير معزول أيضاً عن التغيير المستمر في الأهداف الروسية المعلنة لهذه الحرب؛ ما بين تغيير نظام كييف، بوصفه نظاماً نازياً، والحيلولة دون انضمامه إلى حلف الناتو، وبين مواجهة الغرب في استحضار لإيديولوجيا ومفاهيم الحرب الباردة، وتزامن كل ذلك مع طرح روسيا أوراقاً جديدة ومتتالية: "قنبلة أوكرانية قذرة، وتحضير لتفجير محطة زباروجيا النووية، وتهديدات بوقف اتفاق تصدير الحبوب من الموانئ الأوكرانية، وتوظيف ورقة الغاز والنفط الروسي، وتشكيل تحالفات عالمية بمشاركة فاعلة من موسكو، في إطار تحقيق هدف وقف القطبية الدولية وقيادة أمريكا للعالم".

ورغم أنّ سيناريوهات ما بعد الانسحاب من خيرسون ما تزال مفتوحة على احتمالات عديدة بخصوص مستقبل الحرب، بما فيها احتمالات استمرار الحرب في جبهات مختلفة يفترض أن يتم نقل القوات الروسية التي تم سحبها من خيرسون إليها، وتحديداً في جبهات الشمال،  "لوغانتسك"، إلا أنّ احتمالات توقف العمليات القتالية يبدو احتمالاً قائماً لأسباب عسكرية وأخرى سياسية تعكس تطورات واتجاهات الصراع التي تشهد تحولات متسارعة على كافة الصعد.

العمليات القتالية في جبهات المواجهة بين أوكرانيا والجيش الروسي أصبحت مرتبطة بعنوانين وهما: قدوم فصل الشتاء وما يعنيه من صعوبات يبدو أنّها ستكون عقبة تواجه أوكرانيا وروسيا، رغم مقولات إنّ الشتاء "تاريخياً" كان إلى جانب موسكو في معاركها، لكنّ انطلاقة الحرب في شباط (فبراير) الماضي ألقت  شكوكاً في استمرار صوابية هذه المقولة، حينما ثبت أنّ الشتاء لم يكن لصالح القوات الروسية التي دخلت الأراضي الأوكرانية، لأسباب مرتبطة بعدم جاهزية القوات الروسية، وإمدادات الأسلحة الغربية لأوكرانيا، والتي يبدو أنّ تقديرات روسية لم تكن واقعية حول فعاليتها في صمود أوكرانيا.

غير أنّ مفردة أخرى تحولت إلى عنوان جديد في مسارات الأزمة الأوكرانية؛ وهي   "المفاوضات" بين موسكو وكييف لوقف هذه الحرب وإنهائها، ربما تفسر ما جرى في خيرسون من انسحاب روسي، خاصة أنّها جاءت بعد الإعلان عن اتصالات روسية ـ أمريكية، على مستوى مجلسي الأمن القومي ووزراء الدفاع في واشنطن وموسكو، تزامنت مع تحولات في مواقف القيادة الأوكرانية، التي أصبح التفاوض "بضغط أمريكي وأوروبي" مقبولاً لديها، بعد أن كان التفاوض مرفوضاً ومشروطاً بقبوله مع قيادة روسية جديدة.

المرجح في المدى المنظور هو أن تشهد المواجهات القتالية في أوكرانيا انخفاضاً ملحوظاً، بمبررات روسية وأوكرانية مختلفة، دون أن تتوقف الحرب

سيناريو انطلاق مفاوضات بين موسكو وكييف يبدو أنّه أصبح وارداً في ظل تحولات في المواقف الروسية، و"تململ" في الداخل الروسي من قبل جماعات ضغط ليبرالية وأخرى قومية، أصبحت تطرح تساؤلات علنيّة حول جدوى هذه الحرب، و"الانتكاسات" الروسية على المستويين، العسكري والسياسي، وموقع روسيا بوصفها قوة دولية، وبالتزامن فإنّ تساؤلات أخرى أصبحت تطرح في أمريكا وأوروبا حول حقيقة هذه الحرب، وما يمكن أن تحققه للغرب، بعد تداعيات كورونا وضغوطات ما بعد حرب أوكرانيا في ملفي الطاقة والغذاء وأزمات التضخم والارتفاعات المتتالية في أسعار السلع والمواد.

ومع ذلك، فإنّ المرجح في المدى المنظور هو أن تشهد المواجهات القتالية في أوكرانيا انخفاضاً ملحوظاً، بمبررات روسية وأوكرانية مختلفة، دون أن تتوقف الحرب، وربما يتم التوصل إلى هدنة بوساطة صينية أو تركية، تمهد لانطلاق مفاوضات تتجاوز جغرافية أوكرانيا، لتصل إلى رسم إستراتيجيات جديدة، تبدو معها كافة الأطراف الفاعلة في هذه الحرب أنّها حققت انتصارات، غير أنّ أسئلة معلقة ستكون مطروحة حول انعكاسات أيّ تسوية على أدوار قوى إقليمية شرق أوسطية، وتحديداً إيران وتركيا، في ظل علاقات "دافئة وتحالفية مع موسكو"، بالإضافة إلى أدوار المملكة العربية السعودية ومصر؟

مواضيع ذات صلة:

هل تعبت روسيا من الحرب في أوكرانيا؟

كيف تستفيد تركيا من الحرب الروسية في أوكرانيا؟

هل تتصدّع أوروبا بسبب حرب أوكرانيا؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية