توفي الخميس الحاج محمد المختار، الابن الوحيد الباقي من أبناء المجاهد الليبي عمر المختار. ولهذه المناسبة، أعادت الإعلامية صوفية الهمامي نشر حوار أجرته قبل عقد من الزمان مع الحاج محمد، نشرته صحيفة الهدهد العربية.
بدأت الهمامي حوارها ذاك باستذكار واقعة هبوط العقيد الليبي الراحل معمر القذافي في مطار روما وعلى صدره أوسمة ونياشين وصورة عمر المختار الذي أعدمه الايطاليون شنقًا أثناء احتلالهم ليبيا. بحسبها، كان للصورة في ذلك المكان والتوقيت دلالتها الرمزية التي لا تُخفى، لكن هناك من يقول إن علاقة العقيد بالمجاهد ملتبسة، فهو الذي أمر بنقل ضريحه من بنغازي الى منطقة صحراوية اسمها السلوق، لأنه "لا يحتمل أن يكون لأحد في الجماهيرية شعبية كبرى غيره".
قتل الأسد
في أثناء الحوار، أخبر "الحاج محمد" الهمامي بأنهم إخوة ستة، إلى جانب عبد الله وعمر ويونس وصفية وفاطمة، "وجميعنا من أم واحدة ومن عمر المختار... الأسد".
فعمر المختار بالنسبة إلى ابنه هو الأسد الحقيقي الذي قتل الأسد الذي كان يحكم غابة الجبل الأخضر بعد أن احتار في أمره جميع الثوار والمارين عبر شعاب الغابة، "ذهبوا إلى عمر المختار وقالوا له عجزوا عن اقتناص هذا الأسد الذي التهم عددًا منهم، فتنحنح ولم يتكلم، نظر إليهم، عدّل وضع بندقيته ودخل الغابة. شقيق عمر المختار، أي عمي محمد المختار الذي قدم أربعة شهداء من أبنائه من اجل ليبيا، كان من روى لنا هذه القصة حين كنا صغارًا، في اليوم الموالي كان الأسد جثة باردة في الغابة، انتظر عمر المختار خروجه أكثر من عشرين ساعة في مسلكه اليومي وواجهه وقتله، أسد قتل أسدًا".
سألت الهمامي الحاج محمد: "كم مرة رأيت فيها الأسد وهل تتذكر ملامحه؟" أجابها: "صراحة لا اذكره جيدا، فأنا أصغر إخوتي الستة وآخر فرد على قيد الحياة، عمري اليوم 86 عامًا، لم نكن نفقه ما يقوم به عمر المختار ولم يكن لدينا إدراك بالأشياء، كان عمر المختار يتواجد قليلًا بيننا في أيام الهدنة مع الطليان لكنه في العموم كان يغيب كثيرًا، أحيانًا يتجاوز غيابه السنة أو أكثر، بدأنا ندرك الأحداث عندما اشتّد القتال بين عمر المختار والطليان وكبرنا في السن. ولمّا أحس بالخطر الذي يمكن أن يلحق بعائلته، بعث بنا جميعًا إلى الأراضي المصرية، فلم نتمكن من رؤيته جيدًا".
ست نساء
بحسب ابنه، تزوج عمر المختار ست نساء. لكن، كيف كان يلتقيهن وهو المطارد باستمرار؟ "في أيام المفاوضات والهدنة مع الطليان، كان يقيم بينهن أشهرًا، لكن ما إن يكتشف المماطلة وشراء الوقت من قبلهم حتى يحمل بندقيته ويدخل الجبال ويتركهن ويتركنا، ثلاث من زوجاته غيبهن الطاعون وثلاث بقين على قيد الحياة بما فيهن أمنا التي سبق وقلت لك أنها هاجرت بنا إلى الأراضي المصرية بطلب من عمر المختار قبل رسم الحدود بين ليبيا ومصر، وماتت هناك هي الأخرى".
يضيف متذكرًا آخر مرة شاهد فيها عمر المختار: "المشهد الذي نقش في ذاكرتي ولن يمحى من ذهني لأنه الأخير الذي رأيته فيه وأنا ابن العشر سنوات هو زيارته لنا ليلًا، وقبل مغادرته في تلك الليلة أيقظ أهالي النجع كلهم، وأمّ بهم صلاة الفجر ثم ودعهم وركب حصانه واختفى في الظلام".
ونفى محمد المختار أن يكون أبوه معلمًا كما أظهره الفيلم المعروف، "فهو لم يكن مدرسًا بالمعنى المتعارف عليه بل كان مبشرًا بالإسلام، المخرج أراد إضافة بعض الأحداث على الفيلم لعله كان يريد أن يومئ إلى دور عمر المختار في تحريك المشاعر النضالية لدى أتباعه والمحيطين به من خلال الوعظ والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كما كان شيخًا لزاوية عين كلك حيث قضّى فترة مبشرًا بالإسلام في تلك الأصقاع النائية. وبعد وفاة محمد المهدي السنوسي في عام 1902، عين شيخًا لزاوية القصور. فهو كان عالمًا كبيرًا".
قبضوا على المختار
من لا يعرف عمر مختار، يخاله يشبه أنطوني كوين، الممثل الأميركي الذي أدى دوره في فيلم مصطفى العقاد. يقول الحاج محمد: "عندما أشاهد الفيلم أحسن أنني أمام عمر المختار وليس الممثل الأميركي، كنا في الجبل الأخضر حين حضر أنطوني كوين مع المرحوم مصطفى العقاد فكل من رآه من أهالي النجع وتحدث إليه استغرب الشبه الكبير بينه وبين عمر المختار. ظل فترة يسأل عن كل كبيرة وصغيرة تخص المختار: كيف كان يمشي، كيف يتكلم، كيف يحرك يديه، كيف يجلس... كما تدرب على لباسنا التقليدي الليبي. ووضع النظارة بالطريقة التي كان يبدو بها عمر المختار. لكن الفيلم الطويل كان مختصرًا مقارنة بسيرة المختار".
يروي محمد لصحيفة الهدهد: "في معركة السانية في أكتوبر 1930، سقطت من الأسد نظارته، وعندما وجدها أحد الجنود الطليان أوصلها إلى غراتسياني، الضابط الإيطالي الذي قال: ’الآن أصبحت لدينا النظارة، وسيتبعها الرأس يوماً ما‘، وفعلًا كان له ما تمنى، فمساء الخميس 10 أيلول 1931 أسر البطل عمر المختار عندما كان يستطلع منطقة سلنطة وسط كوكبة من فرسانه الثوار. وكان غراتسياني سفاح ليبيا متواجدًا في روما تأكله الكآبة والحزن من فشله في القضاء على المجاهدين في برقة، فقرر السفر إلي باريس للاستجمام والراحة تهربًا من الصحافة التي بدأت أقلامها اللاذعة في إيطاليا تنال منه مشككة في قدرته على إدارة حلقة الصراع حين تلقى برقية مستعجلة من بنغازي مفادها إن عدوه اللدود عمر المختار وراء القضبان، فأصيب بحالة هستيرية لأنه لم يصدق الخبر (...)، فألغى اجازته واستقل طائرة خاصة وهبط ببنغازي في نفس اليوم وطلب إحضار عمر المختار إلي مكتبه كي يراه بأم عينيه. واتفق مع المارشال بادوليو، الحاكم العام لليبيا، على إجراء محاكمة سريعة وخاطفة يوم الثلاثاء 15 سبتمبر 1931، الساعة الخامسة والربع، وبعد ساعة صدر الحكم بإعدام الأسد شنقًا حتى الموت".
برقة المهدأة
لكن غراتسياني كان معجبا بشخصية عمر المختار، وذكره في كتابه "برقة المهدأة" الذي ألفه عن عمر المختار، وترجمه سالم بن عامر إلى العربية. قال عنه: "عندما حضر أمام مكتبي تهيأ لي أنني أرى فيه شخصية آلاف المرابطين الذين التقيت بهم في أثناء قيامي بالحروب الصحراوية. يداه مكبلتان بالسلاسل، رغم الكسور والجروح التي أصيب بها في أثناء المعركة، وكان وجهه مضغوطًا لأنه كان يغطي رأسه بالَجَرِدْ، ويجر نفسه بصعوبة نظرًا إلى تعبه في أثناء السفر بالبحر، وإجمالا يخيّل إلي أن الذي يقف أمامي رجل ليس ككل الرجال، له هيبته رغم مرارة الأسر، ها هو واقف أمام مكتبي أسأله ويجيب بصوت هادئ وواضح:
غراتسياني: لماذا حاربت بشدة متواصلة الحكومة الفاشستية؟
المختار: من أجل ديني ووطني.
غراتسياني: ما الذي كان في اعتقادك الوصول إليه؟
المختار: لا شيء إلا طردكم... لأنكم مغتصبون، أما الحرب فهي فرض علينا وما النصر إلا من عند الله.
غراتسياني: لما لك من نفوذ وجاه، في كم يوم يمكنك أن تأمر الثوار ليخضعوا لحكمنا ويسلموا أسلحتهم؟
المختار: لا يمكنني أن أعمل شيئًا، نحن الثوار سبق أن أقسمنا أن نموت ولا نسلم أو نلقي السلاح.
يستطرد غراتسياني حديثه: "وعندما وقف ليتهيأ للانصراف كان جبينه وضاء كأن هالة من نور تحيط به، فارتعش قلبي من جلالة الموقف أنا الذي خاض معارك الحروب العالمية والصحراوية. ورغم هذا فقد كانت شفتاي ترتعشان ولم أستطع أن أنطق بحرف واحد، فأنهيت المقابلة وأمرت بإرجاعه إلى السجن لتقديمه إلى المحاكمة في المساء، وعند وقوفه حاول أن يمد يده لمصافحتي ولكنه لم يتمكن لأن يديه كانتا مكبلتين بالحديد".
نقلوا الضريح
قال الحاج محمد لصحيفة الهدهد: "ترك لنا عمر المختار تاريخًا مجيدًا، من كان يصدق أنه قاوم الاستعمار وسكن العراء قرابة ربع قرن من الزمن، هذا لم يحدث أبدًا إلا مع الأسد، ذلك الشيخ الحكيم، وعودة غراتسياني بأدباش الأسد إلى ايطاليا ووضعها في متحف يعد شاهدًا وانتصارًا وكنزًا يذكره التاريخ للطليان". ويؤكد أنهم طالبوا إيطاليا باسترجاع الأدباش الخاصة بعمر المختار من أيام المملكة، "فالطليان سلمونا صور عمر المختار فحسب، وهي صور التقطت يوم القبض عليه ويوم إعدامه، وكنت أتمنى أن احتفظ بالنظارة وأضع باقي الحاجيات في المتحف لكنهم رفضوا بل لم يردوا علينا. اليوم جاء دور الشباب الليبي ليطالب بحاجيات عمر المختار، فهي ملكه هو وحده أما أنا فقد انتهى دوري. وللإيطاليين 4 من كبار الجنرالات مدفونين في الجبل يطالبون بهم، وهي ورقة في يد الشباب الليبي اليوم".
هل يذكر الحاج محمد ما قاله عمر المختار قبيل شنقه؟ يجيب: "كلماته يرددها الشعب الليبي دومًا، قال لهم: نحن لن نستسلم، ننتصر أو نموت، سوف تأتي أجيال من بعدي تقاتلكم، أما أنا فحياتي سوف تكون أطول من حياة شانقي".
لكن، ماذا عن هدم ضريح عمر المختار الذي كان حلية تزين جيد بنغازي؟
برأي الحاج محمد، أخذوه إلى مكانه الطبيعي. أين؟ "تم نقله إلى منطقة السلوق 50 كيلومترًا عن بنغازي، وهو المكان الذي صعدت فيه روحه. في إثر شنقه، سلمته السلطات الإيطالية إلى ليبيا فتم دفنه في مقبرة سيدي عبيد. وفي عهد المملكة في عام 1959، تم بناء ضريح كبير في بنغازي ونقلت رفات عمر المختار في حفل كبير ليكون قبلة السياح والزوار من جميع أنحاء العالم بمن فيهم الرؤساء العرب والأجانب الذين زاروا ليبيا؛ إذ كانت زيارة ضريح عمر المختار جزءًا من برنامجهم".
كان نقل الضريح أمرًا أصدره القذافي، فسره الحاج محمد بأنها "نوع من إعادة الاعتبار لأبي، لأن الضريح الحالي هو المكان ذاته الذي شنقه فيه الجنرال غراتسياني".
عن "إيلاف"