صفحات مطوية من مواجهات الدولة المدنية مع الدولة الدينية

صفحات مطوية من مواجهات الدولة المدنية مع الدولة الدينية

صفحات مطوية من مواجهات الدولة المدنية مع الدولة الدينية


24/05/2023

“جدلية الصدام الحتمي بين معسكر من يحتكرون الحقيقة الذين فوضوا أنفسهم متحدثين باسم السماء، وبين معسكر الباحثين عن الحقيقة وسط ركام تاريخ كاذب، قام البعض من المؤرخين بكتابته”.. هذه واحدة من العبارات الدقيقة التي اختارها المفكر المصري إبراهيم عبدالرحمن ليقدم بها كتابه الجديد “الصراع بين الدولة المدنية والدولة الدينية” الصادر مؤخرا في القاهرة عن دار الفنون والأبحاث العلمية.

رصد المفكر في هذا الكتاب العديد من القضايا والجولات والمعارك الثقافية بشأن الهوية والأوليات من خلال المنظور الحضاري، والذي يجب النظر به إلى الكثير من الأحداث التي مرت بها المنطقة العربية، وفي القلب منها الدولة المصرية.

حاول المؤلف فك شيفرة مظاهر ومكنونات الصراع بين الدولة المدنية والدولة الدينية، فمنذ إعلان كمال أتاتورك نهاية الخلافة العثمانية وتأسيس الدولة المدنية العلمانية في تركيا منذ نحو قرن، ظن الكثيرون أن الدولة الدينية في الشرق الأوسط لفظت أنفاسها الأخيرة.

واستعان الكاتب إبراهيم عبدالرحمن بعلاقاته في حي حلوان بجنوب القاهرة واحتكاكه مع مفكرين مصريين وعرب من مشارب مختلفة لتأطير سرديته الفكرية، مستفيدا من موهبته الفطرية في عالم الصحافة التي تدخل في عمق القضايا، ويعود الفضل فيها إلى الكاتبين الراحلين، أحمد بهاءالدين وإحسان عبدالقدوس، إلى جانب دراسته للقانون وعمله في المحاماة.

ما حدث عقب إعلان أتاتورك، أكد أن هناك اتجاهين متضادين تتبع خطوطهما المؤلف بدقة، أحدهما رحب بانتهاء الدولة الدينية ودعا إلى ترسيخ وتدعيم الدولة المدنية كسبيل لتحقيق منجز حضاري يتواءم مع العصر الجديد.

بينما الاتجاه الآخر، رأى أن الإعلان التركي جاء نتيجة ظروف سياسية وعسكرية ولا ينبغي الرضوخ أو الاستسلام لها، ومن الضروري تأسيس الدولة الدينية في صورة الخلافة الإسلامية السنية أو الإمامة الشيعية كي يسترد العالم الإسلامي ماضيه المجيد حين كان يحكم ويتحكم في جزء كبير من العالم.

وتعد الحروب التي خاضها بابا روما ضد مخالفيه في أوروبا ومن أسماهم “بالهراطقة” لمخالفتهم له في الرأي وقتل فيها الآلاف من المسيحيين، دليل على المخاطر التي تنطوي عليها السلطة المطلقة والافتتان بها، والتي عززتها الحرب الطاحنة بين الدول الكاثوليكية وألمانيا البروتستاتنية، حيث تسببتا في استفاقة العالم على كابوس كبير.

وتجسد هذا الصراع بصور أخرى على الساحة العربية، إذ تم التعبير عنه في شكل تنظيمات إرهابية تسعى سريعا نحو دهس قواعد الدولة الوطنية، وقد يكون أحدث طبعاتها تنظيم داعش، لكنه ليس النهاية، فمن الممكن أن تظهر أسماء جديدة.

وأوضح المفكر المصري إبراهيم عبدالرحمن أن الصراع قديما لم يكن متكافئا، فالدولة الدينية تمتد جذورها إلى أكثر من أربعة عشر قرنا، وقد ترسخت مكوناتها في وجدان الشعوب الإسلامية، على عكس الدولة المدنية بتاريخها القصير.

وكشف عبدالرحمن لـ”العرب” قصة صدور الكتاب عن دار الفنون، والتي تؤكد وجود بعض الحسابات التي تحد من أفق الدولة المدنية ويجب التصدي لهذه العقول المتجمدة بدعم من أصحاب العقول المنفتحة.

وقال “توجهت بمسودة الكتاب إلى هيئة تابعة لوزارة الثقافة المصرية، لكن محاولتي لم تنجح، لأنهم أكدوا وجود سقف معين للنشر حول القضايا التي يتضمنها، فالهيئة لا تحتمل أفكار الكتاب باعتبارها هيئة حكومية، وكان من الأمثلة على ذلك ما ذكرته بين ثنايا الكتاب حول دور الأزهر”.

وأوضح المؤلف أن دور الأزهر إيجابي في نشر الإسلام الوسطي، مع انتقاد يتمثل في إصرار بعض العلماء والشيوخ على التشبث، في مؤلفات صادرة عن الأزهر، بأن الإسلام دين ودولة، ووفق تعبير المسؤول عن النشر في وزارة الثقافة أن الأزهر هيئة حكومية لا يمكن التعرض لها.

وأضاف لـ”العرب” أنه توجه بالكتاب إلى عدد من دور النشر الخاصة، ورحب معظمهم به، لكن ما وقف حجر عثرة أمام النشر هو العجز المالي لديهم، ومعاناتهم نتيجة ارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه المصري، وما تمخض عن ذلك من قفزات مستمرة في أسعار الورق الذي يتم استيراده بالكامل من الخارج.

وكانت مصر في معظم الأحيان ولاية تابعة لعواصم الخلافة المتعددة في مراكزها الرئيسية، فلم تكن لها ناقة ولا جمل في هذه الأمجاد العنترية، لكن من الصحيح القول إن الجماهير في مختلف الولايات التابعة لعاصمة الخلافة كانت تعتبر في خيالها أن انتصارات دولة الخلافة “انتصار لها تعتز به وتمجده وتحلم بتكراره وكان هذا عنصرا إيجابيا ومؤثرا لصالح دعاة الدولة الدينية”.

وكان الواقع يؤكد أن هذا “المجد” استأثرت به عاصمة الخلافة، حيث تستولي على غنائمه، بينما شعوب الولايات التابعة للخلافة هي من دفعت ثمن الانتصارات العسكرية بزيادة الضرائب بحجة تمويل جيش الخلافة دون أن تحظى بعائد حقيقي.

وبدا حظ دعاة الدولة المدنية بائسا في هذا الصراع، فتاريخها في مصر لم يتجاوز سوى سنوات قليلة، ولا تعد شيئا في تاريخ الزمن، فلم تبدأ فعليا إلا بإعلان دستور عام 1923، ولم تستقر إلا أعواما قليلة لا تتعدى الثلاثين عاما، حيث انقلبت ثورة 23 يوليو 1952 على الدستور.

ووجه المؤلف جانبا من رأيه إلى الشباب، وتمنى أن يتمكن هؤلاء من التصدي للخطر الذي يحيق بهم، كما تمنى أن يسهم هذا الكتاب في تصحيح صفحات من التاريخ المصري والعربي المزور، والذي كتبه ما يسمى بـ”ترزية التاريخ على مقاس الحكام”.

ووصل الكتاب في إحدى أهم محطاته السياسية شغفا، وهي محطة ثورة الثلاثين من يونيو 2013 التي أطاح فيها المصريون بنظام حكم جماعة الإخوان بعد نحو عام من الوصول إليه، ولم يخف إبراهيم عبدالرحمن سعادته الجمة بها ووصفها بـ”ضربة قوية لمخططات استغلال الدين والإساءة إليه لضرب الدولة الوطنية المدنية في مصر”.

وسألت “العرب” المؤلف حول ما يعتقده البعض من أن المعركة مع الدولة الدينية واستغلال رموزها للدين لأغراض شخصية قد انتهى في مصر بنجاح هذه الثورة؟

فأجاب أنه من خلال الرصد العلمي لما يدور في المجتمع المصري ودهاليز السياسة، يؤكد أن المعركة مستمرة واستغلال العاطفة الدينية المتجذرة في مواجهة الأفكار التنويرية لا يزال حاضرا، مع ملاحظة أن هذه الحرب الضروس يتم فيها استخدام أسلحة غير نظيفة، ويجري الضرب فيها تحت الحزام من خلال تشويه السمعة والتكفير.

وأشار إلى أن مصر استفادت كثيرا من تجربتها مع الحملة الفرنسية، ثم انفتاح محمد علي باشا المبكر على الغرب وحرصه على إرسال بعثات خارجية، وأنه شخصيا ينظر بتقدير لتجربة كل من السعودية والإمارات في التحول الحثيث نحو المدنية.

وشدد في تصريحه لـ”العرب” على وجود تقدم كبير في هذا المضمار بالإمارات، بينما التحديات التي تواجهها السعودية كبيرة وتعوق تحقيق طفرات صادمة، وهو ما يحدث حاليا عبر تحجيم نفوذ هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعيين البعض من أفراد عائلاتهم في مناصب مدنية مؤثرة، فنجاح هذه التجربة سوف تكون له دلالات عميقة على المنطقة العربية.

عن "العرب" اللندنية




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية