خطايا "الإسكندراني" في مدينة "الرب"

خطايا "الإسكندراني" في مدينة "الرب"

خطايا "الإسكندراني" في مدينة "الرب"


31/01/2024

ما زلنا أمام حالة من التباين حول التقييم الفني لفيلم "الإسكندراني"، للمخرج خالد يوسف، المأخوذ عن رائعة الكاتب المصري الراحل أسامة أنور عكاشة، والذي تدور مشاهده حول الحداثة المادية التي وضعت بصماتها على الأصالة وأفقدتها قيمتها التاريخية، في إطار رمزية الصراع القديم المتجدد بين الأباء والأبناء.

السهام النقدية الموجّهة للعمل الفني السينمائي، قادمة بقوة من واقع عين ومخيلة المتلقّي، وليس من وحي الناقد الفني، لا سيما وأنّ الجماهير تضع رؤيتها في حالة من التجرّد التام عن الإثارة والتشويه المتعمّد لطمس ملامح الأعمال الفنية، بخاصة التي تغوص في أعماق العاطفة الوجدانية والإرتباط الروحي لمعالم التراث التاريخي.

تمتّع المخرج خالد يوسف برؤية استشرافية مستقبلية، معتمداً على رمزية فلسفية في بلورة الصراع الاجتماعي والسياسي والمادي في قاع المجتمع المصري، سائراً في غالبية أعماله على منهجية ورؤية استاذه يوسف شاهين، ولعلّ من أبرزها "هي فوضى"، و"حين ميسرة"، و"الريس عمر حرب"، و"دكانة شحاتة"، و"كف القمر"، و"كارما"، انتهاء برواية "السلطان حامد"، والتي تحولت إلى عمل درامي، تحت عنوان "سِرْهُ الباتع"، ووثقت مشاهدها بطولة الفلاح المصري في مواجهة المستعمر الفرنسي.

ورغم توافر الأحداث والتحولات في رواية "الإسكندراني"، فإنّ المادة الفيلمية المأخوذة عنها، لم تقترب من "العقدة الدرامية" التي صاغها السيناريو الأصلي، في تجسيد التجريف الفكري والثقافي، واستبدال المعالم الحضارية، وإبراز ملامح التحولات التي نالت من المجتمع المصري.

المعالجة الدرامية التي أجراها المخرج خالد يوسف على الرواية الأدبية التي كُتبت سطورها في سبعينات القرن الماضي، في إطار رمزية تنازع الأجيال المختلفة فكرياً وثقافياً، لم تكن كافية بالقدر الذي يمنحها الملاءمة للمتغيّرات الزمنية التي اسقطت جزءاً من هوية المجتمع المصري بشكل عام، مكتفياً بالمضامين الأصلية للرواية، رغم تعدد وتنوع مفاهيم وطبقات الصراع بعيداً من المنحى التقليدي.

تجّلت الأخطاء الفنية للبناء الدرامي للفيلم السينمائي، في عدد من النقاط التي أضعفت من قوته الفنية وتأثيره الجماهيري، ربما أهمها أنّ تفاصيل الرواية الأصلية أقرب في إنتاجها للعمل التلفزيوني من العمل السينمائي، كما أنّ هزلية اللهجة الإسكندرانية التي ظهرت بعيدة من نمطها السليم والمعبّر عن تراثها الإنساني، وكذلك عدم تطرّق سرديته للمتغيّرات القريبة والآنية التي لاحقت الشارع المصري جراء الصعود والهبوط السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

حاول خالد يوسف تقديم فيلمه الجديد من خلال فلسفة قائمة على استثمار حيوية الصدام بين الأجيال المختلفة، في سياق من "الفانتازيا الشعبية"، التي يمرّر عبر طياتها رمزية التحوّل التاريخي والثقافي، لكن في الحقيقة تاهت المعالجة الدقيقة والسليمة لقضية التطور بين متطلبات واحتياجات الأجيال العمرية المخلتفة، والتي تعتبر حقاً مشروعاً في ذاتها نتيجة المتغيّرات الحياتية، طالما أنّها لم تنخلع عن الضوابط المجتمعية، حاصراً الأزمة في فكرة التمرّد والطغيان المادي، والانفكاك عن الموروث البيئي.

صنّاع سردية "الإسكندراني"، لم يكونوا على القدر المأمول في اختيار شخصية "الأب"، المعبّرة عن الأصالة والقيمة التاريخية لمدينة الإسكندرية، في ظل قيام الفنان بيومي فؤاد بتجسيد ملامحها، نظراً لانحصاره الدائم في الأعمال الفنية الكوميدية والساخرة، ما أفقدها جزءاً كبيراً من عمقها وتأثيرها واتزانها على الشاشة، رغم رحابة قماشتها الدرامية.

كما لم يستطع الفيلم تقديم الفنان أحمد العوضي، في بطولته السينمائية المطلقة والأولى، بعيداً من عباءته التي ظهر فيها في مشاركاته التلفزيونية السابقة، فضلاً عن تعمّد استنساخ تركيبة الفنان محمد رمضان، الممزوجة بسمات "البلطجة" و"السرسجة"، لمغازلة العالم السفلي من قاع المجتمع، والمعتمدة في النهاية على تجسيد ثالوث الجنس والعنف والمخدرات.

توظيفات جمال في البيئة والعمارة الإسكندرانية ومناظرها الخلابة، لم تكن حاضرة بقوة قي التيمة الفنية المقدّمة في فيلم "الإسكندراني"، في ظل الإكتفاء بالمشاهد الداخلية المصورة في "مدينة الإنتاج الإعلامي"، والتي طغت على الإطار الدرامي على مدار أكثر من ساعتين تقريباً.

رغم الإخفاقات التي لاحقت العمل الفني، فإنّه تمكّن من إبراز الطابع الفولكلوري الغنائي والفني، لـ"مدينة الرب"، الكوزموبوليتانية، وتراثها الشعبي المتناغم مع التركيبة الثقافية المتنوعة، مقدّماً أغانيها التي رسمت ملامحها الحضارية والتراثية على جدران الأزمنة المتعاقبة على تاريخها وثقافتها.

في اعتقادي أنّ فيلم "الإسكندراني"، جاء مخيباً لآمال الكثير من النقاد والمتابعين، والجماهير المتلقية كذلك، التي تعودت أن ترى في الأعمال السينمائية للمخرج خالد يوسف، إسقاطات فنية وجمالية معبّرة عن الواقع المعاش في إطار رمزي أو مباشر، بعدما خاب ظنها في قدرته على تحويل رائعة أسامة أنور عكاشة، إلى عمل فني يليق بتاريخه ومسيرته التي سطّرها على مدار سنوات طوال قبل وفاته في أيار (مايو) 2010.

عن "النهار العربي"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية