اعتزل واصل بن عطاء مجلس أستاذه الحسن البصري، بعد اختلافهما حول حُكم مرتكب الكبيرة، فالأستاذ وضعه بمنزلة المنافق، بينما رأي بن عطاء أنّه فاسق، وفسقه لا يخرجه من الإيمان، لكن يحول بينه وبين الكمال، مثل هذا الخلاف الذي يبدو على بساطته، كان بذرة أشهر جماعة فكرية في التاريخ الإسلامي"المعتزِلة"، الذين أخذوا موقف الحياد من الأمور الملتبسة.
لكنّ خطاً تاريخياً بالغ الحساسية يفصل بين المعتزلة الأوائل الذين ظهروا منذ مقتل عثمان بن عفان، وبين التابعين الذين ظهروا في العصر الأموي، كتيار فكري جديد يعيد صياغة الدين بمنظور فلسفي.
فلسفة الحياد
"في النهاية لن نذكر كلام أعدائنا بل صمت أصدقائنا"، بتلك الكلمات استطاع المفكر الأمريكي مارتن لوثر كينج، وصف المحايدين باعتبارهم أشد المتواطئين في الهزائم الكبيرة، لكن هل نستطيع أن ننقض حيادية المعتزلة الأوائل الذين ابتعدوا عن جدليات السياسة منذ حرب الجمل عام 36هـ، وتفرّغوا للعبادات والعلوم، ونضع نصب أعيننا تساؤلاً مهماً: هل ثمة علاقة بين هؤلاء المعتزلة الذين امتنعوا عن الخوض في نقاش حكم الحرب بين العلويين وبني أميّة، وواصل بن عطاء الذي اعتزل جماعة مسجده، فسماه البصري هو وأتباعه بالمعتزلة؟
امتنع المعتزلة عن تكفير مرتكب الكبيرة وأعلنوا الحياد ثانية فهم لا يكفرون بني أمية ولا عليّ
هذا ما حاول تفكيكه المفكر والفيلسوف اللبناني حسين مروة، في موسوعته "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية"؛ حيث قام بالفصل التاريخي بين الصحابة الأوائل الذين تنحوا وأخذوا موقف الحياد من معركة الجمل أولاً، ثم الحرب بين علي بن أبي طالب ومعاوية، وأتباعه الذين امتنعوا عن الخوض في جدل الحسن بن علي مع يزيد بن معاوية، وتبعه صمت مطبق، حتى جاء واصل بن عطاء ليفتح الجدل حول مرتكب الكبيرة، وهو ما يحمل دلالات سياسية خطيرة، مفادها أنّ هؤلاء الذين ظهروا في عصر بني أمية، ليسوا سوى سلف للسابقين عليهم، وأنّ موقفهم وإن حمل صورة ظاهرها الجدال الفكري والعقائدي، إلا أنّه جدل ذو مغزى سياسي في المقام الأول، حيث امتنع المعتزلة لاحقاً عن تكفير مرتكب الكبيرة، وأعلنوا الحياد ثانية، فهم لا يكفرون بني أمية، ولن يستطيعوا تكفير عليّ وأتباعه، وهو ما سيفتح الباب على مصراعيه أمام فلسفة جديدة تغير أفق المنظومة الدينية بعد الفتوحات الإسلامية المتوسعة.
في منزلة بين المنزلتين
كانت الحيادية التامة هي موقف المعتزلة، الذين وقعوا في شرك التناقض القائم بين الخوارج، والجهمية، فبينما الخوارج يكفّرون صاحب الكبيرة، ويبيحون قتله وحربه محاربة الكفار، والجهمية الذين لم يكفروه، لكن أقّروا صحة إيمانه ما دام قد نطق بالشهادتين، وقع المعتزلة في خط الوسط بين المذهبين، فمرتكب الكبيرة ليس بكافر، وإيمانه موضعه القلب، بل هو فاسق في منزلة بين منزلتين، وهكذا استطاعوا الإفلات من الصدام الحتمي مع بني أمية، بل أخذوا موقفاً متشدداً في معارضة مظالم الأمويين.
رغم التوجه العقلاني للمُعتزلة إلاّ أنّ تزاوجهم مع السلطة أثار حفيظة العديد من الأتباع
ولعلّ الصيغة التي نشأ لأجلها المعتزلة تبدو ظاهرياً فكرية ترتدي ثوباً دينياً إلا أنّ أبعادها السياسية خطيرة للغاية، وهو ما كشف عنه الدكتور أحمد سالم أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة طنطا: "كل شيء في الدين له بُعد سياسي، نشأة المعتزلة في الأساس لها بعد سياسي؛ حيث بدأ الخلاف حول مرتكب الكبيرة، وقضية الإمامة وهل يجب الخروج على الحاكم، وهو ما كان بذرة علم العقائد وهو علم ذو أفق سياسي بامتياز؛ حيث وجد علم العقائد بعدما تفشى الاختلاف السياسي، وهو ما يثبت أنّ الأوضاع السياسية وقتها كانت المحرك لأي توجه أو تيار فكري أو ديني".
بواكير القومية العربية
لم يكن واصل بن عطاء مؤسس الجماعة وحده؛ بل رافقه في حمل الفكرة، عمرو بن عبيد الذي حمل الراية بعد وفاة ابن عطاء، وكان قد انضم للحركة العديد من الناس، الذي تخلوا عن فكرة الثورة ضد بني أمية، والخوف من عواقبها فاعتزلوا السياسة وجدلياتها، وكان بنو العباس أول من اعتزلوها وعلى رأسهم أبو جعفر المنصور الذي سيتولى لاحقاً الخلافة، وكان من أكبر مريدي عمرو بن عبيد.
وعلى الرغم من أنّ ابن عبيد وعدداً كبيراً من قادة المعتزلة لم ينحدروا من أصول عربية، إلاّ أنّ فكرهم ومواقفهم بشرت بنشأة مفهوم القومية العربية، هو ما أكده الدكتور محمد عمارة في كتابه "مسلمون ثوار" الذي رأي أنّ المعتزلة قادوا تياراً ثقافياً أثرى الحياة العربية، وجعل للأمة العربية هوية وثقافة وخلقت منظومة جديدة أصبحت مثل؛ الرحم الواحد الذي جمع بين الأعراق المختلفة تحت لواء العروبة.
وعلى الرغم من التوجه العقلاني الذي انتهجه المُعتزلة في أفكارهم، إلاّ أنّ التزاوج الذي حدث بينهم وبين السلطة في مرحلة ما أثار حفيظة العديد من الأتباع، وانحرف بالتوجه الفكري الذي مثله المعتزلة إلى قبلة سياسية، حسبما أكده لـ"حفريات" الدكتور محمد فياض أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة طنطا، الذي رأى أنّ تيار المعتزلة "مثّل التوجه العقلاني في العالم الإسلامي؛ حيث كان العمل بالفلسفة محرماً، فبرز المعتزلة في العصر الأموي، واجتهدوا في العلوم والمعارف، وكانوا أصحاب عقل بارع، بالإضافة لعلاقة جيدة أقاموها مع الأمويين، بلغت ذروتها في عصر الخليفة المأمون، الذي صدّر نفسه كراعٍ للفكر الحر، والتوجه العقلاني وهو ما لم يكن بحقيقة، هنا حدث التزاوج بين المثقف المعتزل وسلطة المأمون، وصار المعتزلة ضمن مثقفي البلاط".
بيْد أنّ استغلال المأمون للحضور العلمي"المعتزلي" الذي بلغ ذروته وقت حكمه، كان واضحاً، بحسب فياض "وقد تبلور هذا حين حاول المأمون فرض آراء المعتزلة على العوام، ومحنة خلق القرآن التي وضعت الحماعة وتاريخها الفكري على المحك، وأدت لحرق كتبها، بعدما علا شأن الحنابلة".
ثورة (التمكين)
انتهى حكم الأمويين بما له وما عليه، وما أفضى في النهاية إلى هبوط اضطراري للمعتزلة بعد تزاوجهم غير المحبذ مع السلطة، وجاء العباسيون بغير شورى، وهو ما لم يكن يرضي المعتزلة، وجاء بعد أبي العباس السفاح، الخليفة الثاني "أبوجعفر المنصور"، ابن الجماعة وتلميذ إمامهم المريد، والذي طارد وسجن العديد منهم، ممن ظلوا على وفائهم لفكرة الشورى، هو ما دفع بعض المعتزلة لاقتراح الثورة ضد العباسيين وطلبوا هذا من عمرو بن عبيد، وهو ما لم يكن محبذاً بالنسبة له؛ حيث رأى ما جلبته الثورات التي قامت ضد الأمويين على أصحابها، فنأى بنفسه أن يقع في مثل هذا الشرك، فدعا إلى نوع مختلف من الثورة حيث حض على (الإعداد والإستعداد) وأطلق على ذلك (التمكين).
الدكتور محمد عمارة الذي رصد حركة المعتزلة في الدولة العباسية، في كتابه "مسلمون ثوار"، يبيّن المفارقات التي حدثت في موقف المعتزلة من الأمويين الذين التحموا بهم ورفعوا مكانهم، خاصة في حياة واصل بن عطاء، إلى تولي المنصور الخلافة وانقلابه على رفاق دربه، وخشيته الكبيرة من ثورة المعتزلة، وتعذيبه لهم بالسحن والقتل والحرمان، حتى بلغ أنّه حاصر معلمه "عمرو بن عبيد"، الذي كان يخشاه أشد الخشية على الرغم من اطمئنانه أنّ المعتزلة لن يشهروا السلاح في وجهه، حتى اللحظة التي مات فيها بن عبيد وهو في طريقه إلى مكه، اضطربت مشاعر المنصور بين الحزن على أستاذه، والفرح بالخلاص من رأس المعارضة السياسية التي هددت عرشه.
ثورة النفس الزكية
يعد محمد بن عبدالله الكامل بن الحسن بن علي، أحد ثوار آل البيت، وحفيد رسول الله، وهو الذي قاد أول الثورات ضد العباسيين، والتي ستتوالى على مدار حكمهم، فقد بايعه أهل البصرة، وناصره كثيرون في مصر، كما بايعه عمرو بن عبيد قبل وفاته، ولكن خشي عليه أن تفشل ثورته كما فشلت الثورات ضد الأمويين، لذلك أمره بالإعداد والاستعداد لقتال المنصور، خرج قاصداً مقر الخلافة، ولكن خشية المنصور جعلته يزرع الجند في كل مكان، وألقى القبض على أهله ليضعهم في سرداب تحت الأرض حتى ماتوا جميعاً، حتى أنّه كان إذا مات أحدهم تركت جثته لترويع رفاقه، وهو ما عجل بثورة النفس الزكية، فخرج على الناس، واستقبلوه بحفاوة، ليأمر المنصور بحصار البصرة اقتصادياً ومنع عنها المؤن والطعام، وسد المخارج كلها وترك مخرجاً واحداً للفارين، حتى إذا أرادوا الخروج، وهكذا اشتدت الضغوط على النفس الزكية، ومن بايعوه.
ثم ألقى الحسن خطبته الأخيرة على الناس يحلهم فيها من بيعته، وتركه الجميع وظل ثلاثمئة رجل من مئة ألف، وهم من نصروه وقاتلوا حتى النهاية. واجه النفس الزكية ومعه 300 من أصحابه جيش المنصور الذي بلغ 4 آلاف فارس بأسلحتهم، ليقتل النفس الزكية وحده، كما تذكر روايات تاريخية، سبعين فارساً حتى قُتل، وقطعت رأسه ووصلت إلى المنصور، ليأمر، كما تزعم روايات، بتعليقها على باب المدينة لعدة شهور، كما قتل كل أصحابه وصلبت جثثهم على جوانب الطرقات، حتى اشتدت الرائحة على الناس فألقوها من فوق جبل سلع لتسقط فوق مقابر اليهود، لتكون تلك آخر الملاحم العظيمة للمعتزلة، وأول ثورة مسلحة ضد العباسيين الذين انقضّوا على مبدأ الشورى.