الشيخ علي جمعة: السهام الطائشة وسطوة الشعبويين

الشيخ علي جمعة: السهام الطائشة وسطوة الشعبويين

الشيخ علي جمعة: السهام الطائشة وسطوة الشعبويين


20/03/2024

دخل الشيخ علي جمعة -المفتي السابق عضو هيئة كبار العلماء- آخر المعاقل الباقية للتيارات السلفية والإخوانية والشعبوية والإلحادية، وهو معقل الشباب والأطفال، من خلال برنامجه (نور الدين)، وهو البرنامج الأعلى متابعة من بين البرامج المصرية المختلفة.

قضى الشيخ عدة أعوام يُدرِّس في الأزهر وأروقته، وقد خرَّج جيلاً صار اليوم من العلماء والفقهاء، وهو في هذه الأعوام كان يشرح دقائق المسائل التي تناسب الأكاديميين وحدهم، ثم انتقل إلى العمل المؤسسي مفتياً لجمهورية مصر العربية، فحوّلها إلى مؤسسة كبيرة الشأن، بعد أن كانت الصورة الذهنية للإفتاء محصورة في استطلاع هلال رمضان، وأكمل الدكتور شوقي علام البناء، وزاد عليه، ثم قضى الشيخ جمعة عدة أعوام يحارب الإخوان والتيارات السلفية، فألف في ذلك الكتب، وألقى المحاضرات والخطب والدروس، وخلال ذلك تولى العمل الخيري، فأطعم الفقراء والمساكين، وكفل الأيتام، وأنفق على طلبة العلم، وأخرج الغارمات من السجون، وبنى مدارس، ومراكز صحية، وأسهم في بناء مستشفيات، ودور أيتام، وتطوير بعض القرى.

ثم انتقل من خلال برنامجه (نور الدين) إلى آخر معاقل ضحايا الوعي المغلوط، إلى الأطفال والشباب، فطرح بكل جرأة القضايا المسكوت عنها، كقضية العلاقة بين الجنسين، ومسألة دخول الجنة لغير المسلم، ووجود الله، والتجميل، وهو الطرح الذي رآه البعض طرحاً منضبطاً توعوياً جريئاً، وأنّ المجتمع في أمس الحاجة إليه،  ورآه البعض الآخر من المتطرفين -ومن غير المتطرفين-، طرحاً خاطئاً.

هناك ملاحظة أولية تتعلق بالتأثير القوي للشيخ علي جمعة، والضراوة والتكالب في الهجوم عليه، ومرد ذلك لأنّهم يعرفون أنّه لا يمثل نفسه، بل هو رأس مدرسة علمية لها حضورها الكبير في الأوساط الفكرية والأكاديمية والشرعية وصناعة الفتوى في مصر وخارجها، ومع ذلك فالقضية أبسط من أن يتعامل المجتمع مع كلامه على أنّه  قانون واجب التنفيذ، فالشيخ يقدم رؤية شرعية معاصرة، أعملَ عقلَه في النصوص، فاستنبط رأياً يحتمل الصواب والخطأ، لك أن تأخذ به، أو بخلافه، ولك أن تقبله أو تنتقده، وهو اشتباك حرك المياة الراكدة، وخلق مناقشات جادة، تأييداً أو اعتراضاً، وإن كان قد دخل على المناقشات أسلوب السفه والتشويه والسبّ والحماس الأهوج والشعبوية من بعض دعاة التدين، وبرعاية ومباركة من بعض دعاة الاعتراض الجاد.

الهجوم على خلفية الخلاف الفكري والإيديولوجي

الرمز السلفي عبد العزيز بن باز له كلام عن العلاقة بين الجنسين، سمّاه "صداقة"، ووضع ضوابط لإباحتها، أخفّ من الضوابط التي وضعها الشيخ علي جمعة، والرمز الإخواني يوسف القرضاوي أباح هذه العلاقة بالضوابط نفسها، وزاد عليهما أن جعل العلاقة بين الجنسين "مطلوبة"، وليست فقط "مباحة"، ومع ذلك لم ينل يوسف القرضاوي وعبد العزيز بن باز أيّ هجوم أو اتهامات بالدعوة للانحلال والفسق والميوعة، مع أنّ كلامهما وكلام الشيخ علي جمعة يخرج من مشكاة واحدة، وينتهي إلى نتيجة واحدة.

قضى الشيخ عدة أعوام يُدرِّس في الأزهر وأروقته

وتفسيرنا لذلك أنّ القضية لا علاقة لها بالفقه أو الورع أو الدين، وإنّما هي خصومات فكرية وإيديولوجية وحزبية، يحكمها موقف الشيخ القوي والرافض للتنظيمات الإسلاموية، وقبول المسألة أو رفضها، حسب اسم القائل وميوله وفكره، انحراف تولى كبره عدد من تيارات وتنظيمات التطرف الديني، ووقع سياسيون وإعلاميون وباحثون ومفكرون ونشطاء وعلماء في هذا المنهج غير السديد. 

الخوف من سطوة الجماهير آفة المتصدرين للدين

تتمثل معضلة ما يقدمه الشيخ علي جمعة في إقناع الناس بفكر غير الذي تعودوا عليه، وهو أمر ليس بالهين اليسير، ولا يعمل عليه إلا الندرة من العلماء، وهنا ملاحظة متعلقة بمسألة الاشتباك مع هذه المسائل، فأكثر العلماء والمشايخ يُؤثرون السلامة، ويختارون الكلام في المتفق عليه، طلباً للسلامة، وخوفاً من الألسنة وسطوة الجماهير، وطلباً لراحة البال، لكنّ الشيخ علي جمعة تعود منذ زمن ألّا يخشى سلطة الجماهير وسطوتها، فهو يشتبك ويتحاور بكل هدوء وشجاعة، ويترك النشء يطرحون أسئلتهم بكل حرية، ويجيب بكل حب وهدوء، مع حضور النكتة والقفشات الدائمة، والزي المتأنق الذي يرتديه، غير عابىء بسطوة الجماهير، ولا بالكتائب الإلكترونية، ومن لحق بهم من تيار التخلف الديني، ولا يتحسب آراء الناس خشية حصائد ألسنتهم، ولا يغازل العوام، ولا يخشى المجترئين، ولا يطلب مرضاة الطوائف المختلفة، ماضياً في تشخيص العلل، وأدواء المعرفة، كاشفاً زيف الطوائف المشاغبة والمتطرفة، الذين يسميهم -خوارج العصر- جرياً على تسمية عدد من العلماء الأزهريين القدامى لهم بخوارج العصر-، لكنّ البعض -ونحن نتفق معهم في هذا- يرون أنّ بعض ما يقوله الشيخ يحتاج تفسيراً وتوضيحاً بصورة أكبر، لما فيه من التباس على البسطاء والأميين.

الهروب الكارثي من خلال سلاح التحريم المطلق

إنّ الاشتباك في مثل هذه القضايا، وإن كان يثير اضطراباً وقلقاً في المجتمعات قبل نشأة التيارات المتطرفة، وانتشار الفضائيات، ووسائل التواصل المختلفة، فإنّه اليوم واجب، والساكت عن الاشتباك في هذه القضايا -إن كان عالماً بها- فسكوته يكون طلباً للسلامة، وخوفاً من سطوة الجماهير يرقى ـ من وجهة نظرنا- لأن يكون خيانة للأمانة، وفي النهاية تبقى هذه النوعية من المسائل غير محسومة، وليس لها إجابات جامعة مانعة يتفق عليها الجميع، فالمحبّ سيقبلها، والمعارض سيرفضها، وخالي الذهن يفكر ويتأمل ويقبل ويرفض ويناقش، وهي حالة مطلوبة.

إنّ الاشتباك في مثل هذه القضايا، وإن كان يثير اضطراباً وقلقاً في المجتمعات قبل نشأة التيارات المتطرفة، وانتشار الفضائيات، ووسائل التواصل المختلفة، فإنّه اليوم واجب

الخطورة الكبرى هي إغلاق هذه الأبواب بسلاح التحريم، فالتحريم مطلقاً مفسدة عظيمة، لأنّ التواصل أو الاختلاط بين الجنسين -على سبيل المثال- موجود في الحرم والمساجد والمدارس والجامعات، فالمنع المطلق لا يختلف عن الإباحة المطلقة في نتائجه الكارثية، فالصداقة أو الزمالة -سمّها ما شئت- بين الجنسين، أو عبر وسائل التواصل أمر واقع وحاصل ومفتوح على مصراعيه، والشأن في ترشيده وليس منعه، أمّا حديث: نمنع أو لا نمنع، فقد تجاوزه المجتمع، وصار مستحيلاً، وبقي الشأن في ترشيد الموجود الحاصل الذي لا مفر منه. 

إنّ الخطاب التقليدي المتوقف عند أدبيات التحريم - هكذا على العموم-، والتعامل مع المجتمع بفقه البداوة، كأنّه لا يصلح إلّا للقرية التي يقيم الشخص فيها، تجاوز المجتمع بقفزات كبيرة، يقول الباحث عبد السلام صلاح: "طريقة الإغلاق بالتحريم جُربت، ونتائجها هي عدم اكتراث بعض الناس بالدين أصلاً، والمناقشة التي تجري بين الشيخ علي جمعة والأطفال ليست فتاوى متتالية، وهي عملية سماع للجيل، وفهم للمسائل والمشكلات، والشيخ قد يظل إلى نهاية الحلقة في عملية تصوير المسألة، ويُضيق أو يوسع النقاش لبلورة الأمر، وهذا يؤكده ما جاء في الحلقة الثالثة من وضوح عن الحلقة الثانية".

وأضاف: "فكرة البرنامج مهمة، ولا يكفيها هذا الوقت القصير، فالشيخ عرض قواعد كليّة ومعايير واضحة، في حلقتي العلاقة بين الجنسين، لا أتصور أن يختلف عليها عاقلان، إنّما كل الاختلاف في التصورات الذهنية، فأنت تتصور شكلاً ما من العلاقات ترفضها بناء على العادات والتقاليد، ربما لم يخطر هذا الشكل على بال الشيخ، وربما يختلف أيضاً عن تصورات السائلين...، وهنا تأتي أهمية المعايير التي لا رقيب عليها إلّا ضمير الإنسان وربّه، وحالة القلق الدائم على الغير والانشغال به تخصك وحدك، ونحن نتكلم عن المسائل التي لم يتعرض الشارع لتحريمها، وقد يشتبه الناس في إباحتها، أمّا المحرمات، فقد شدد الشيخ على تحريمها".

الدكتور أحمد نبوي الأزهري -أستاذ بجامعة الأزهر- أثنى على هذا الطرح قائلاً: "الصلاح + العلم + الوعي+ إدراك الواقع + الشجاعة = الشيخ علي جمعة، وقد علمتنا التجارب والأيام على مدى ربع قرن أنّه فارق عن كل أهل زمانه بنصف قرن".

بل يصحح الواقع، ويقاوم المد الطاغي والمتطرف

ما علاقة الشيخ علي جمعة بالواقع؟ كيف يفهمه، ويفهم العصر وسماته؟ وهو صاحب كتاب (سمات العصر)، يقول أحمد الدمنهوري -باحث أزهري- ما ملخصه: إنّ منهج الشيخ علي جمعة قائم على التصالح مع الواقع، وعلى تصحيح أعمال المسلمين قدر الطاقة، ففي التصالح مع الواقع يقدم طريقة مغايرة للخطاب الإسلامي الشائع منذ زمن، ففي مقالة عنوانها: (النموذج المعرفي وتجديد الخطاب الديني)، يقدّم المفتي نماذج للخطاب الإسلامي يقول إنّها جميعاً مرفوضة، ويذكر منها منهج الاجترار، الذي قال فيه المفتي السابق: إنّه يتمثل فى التمسك بمسائل التراث تمسكاً يحكي صورتها دون الوقوف عند مناهج التراث، حتى يمكن تطويرها، أو الاستفادة منها حتى على حالها، إن كانت تصلح لذلك، فهو منهج ماضَويٌّ، إن صحّ التعبير، يريد بإصرار أن نتغاضى عن واقعنا، وأن نستمر في واقع قد تغيرت عليه الحياة، حتى رأينا كثيراً من الناس يخرجون من دين الله أفواجاً لظنهم أنّ هذا هو دين الله، وأنّ دين الله بذلك من طبيعته ألّا يصلح لزماننا هذا، وهو وهم خاطئ، لأنّه مخالف للحق والواقع، وفي كتابه (النماذج الأربعة في التعامل مع الآخر)، يدعو الشيخ للتواؤم والتصالح، مستنداً إلى السيرة النبوية، ويطرح أفكاراً جديرة بالتأمل؛ لهذا فالعصبية في مناقشته غير مجدية".

فكرة البرنامج مهمة ولا يكفيها هذا الوقت القصير فالشيخ عرض قواعد كليّة ومعايير واضحة في حلقتي العلاقة بين الجنسين لا يختلف عليها عاقلان إنّما كل الاختلاف في التصورات الذهنية

"وأمّا تصحيح أعمال المسلمين قدر الطاقة، فلأنّه يعتقد -هو وجلّ الفقهاء- أنّ خروج المسلم من المذهب الفقهي، ولو إلى رأي ضعيف، خير من أن يخرج من الدين، وبناء على هذا الأصل تراه لمّا تولى الإفتاء جعل معتمد الفتوى في دار الإفتاء ليست المذاهب الأربعة السنية المجمع عليها فقط، بل جعل معتمد الفتوى ما سمّاه "الفقه الوسيع"، الذي يرجع إلى المذاهب الثمانية، وليس هذا منهجاً ابتدعه في الإفتاء المصري، ومن آثار منهجه هذا: الإمساك بالمسلم من التلفت من الدين، ومن الوقوع في الإلحاد، ومن اعتباره الإسلام خارج الزمان، وفي جانب آخر ضياع للهوية".

ويضيف الدمنهوري: نحن أمام خيارين في محاولة هداية الناس: تصحيح أعمالهم خوفاً عليهم من الخروج من الدين، أو مقاومة المدّ الشهواني الطاغي الذي هو مآل التصحيح، والمفتي اختار الأول، وهو اختيار يراه الباحث غير سديد"، وكلام الباحث يبطل بكلمة الشيخ علي جمعة في الحلقة السادسة، والتي قال فيها: إنّ الحرام حرام حتى لو اجتمع الواقع كله على تحليله، ولا يجوز تغيير الدين والأحكام من أجل موافقة الواقع، فالواقع هو الذي يتغير، وليس الدين والحرام والحلال"، ومن هنا بطلت فكرة الدمنهوري من أنّ منهج الشيخ هو تغيير الدين من أجل موافقة الواقع.

الجنة ليست حكراً على المسلمين

قضية متعلقة بمدى وصول الإسلام الصحيح لغير المسلم، فالله الحق العادل لن يعذِّب شخصاً لأنّه لم يؤمن بدين وصله مشوهاً منقوصاً على غير صورته الحقيقية من القائمين عليه وأتباعه، والواقع أنّ الإسلام يصل مشوهاً منقوصاً للمسلم، فضلاً عن وصوله مشوهاً لغير المسلم، وتبقى المسألة في حقيقتها في علم الغيب من علم الغيب.

غلاف كتاب "سمات العصر" للشيخ علي جمعة

الشيخ شلتوت، والطاهر بن عاشور، والإمام أبو حامد الغزالي، وغيرهم كثيرون، تناولوا هذا المسألة، قال الغزالي في كتابه: (فيصل التفرقة بين الكفر والزندقة) "إنّ  الرحمة تشمل كثيراً من الأمم السالفة، وإنّ أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان تشملهم الرحمة، إن شاء الله، أعني الذين هم في أقاصي الروم والترك، ولم تبلغهم الدعوة، فإنّهم (3) أصناف: صنف لم يبلغهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم أصلاً، فهم معذورون، وصنف بلغهم اسمه ونعته وما ظهر عليه من المعجزات، وهم الكفار الملحدون،  وصنف ثالث بين الدرجتين، بلغهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم ولم يبلغهم نعته وصفته، بل سمعوا أيضاً منذ الصبا أنّ كذاباً ملبساً اسمه محمد ادَّعى النبوة، كما سمع صبيانُنا أنّ كذاباً يقال له المقفَّع تحدى بالنبوة كاذباً، فهؤلاء عندي في معنى الصنف الأول، فإنّهم مع أنّهم سمعوا اسمه سمعوا ضد أوصافه"، أ.هـ، فهؤلاء من غير المسلمين في رحمة الله وجنته، لعدم اطلاعهم على حقيقة الإسلام، وصورته النقية، ولم يكونوا من أهل النظر والفكر.

وفي الآية (62) من سورة البقرة: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون"، نقاش علمي جرى بين أهل العلم، دخل فيه شيخ الأزهر محمود شلتوت، وكتب أحد علماء الأزهر المغاربة كتاباً صغيراً بعنوان: (التحقيق الباهر في معنى الإيمان بالله واليوم الآخر)، ولا يمكن اختصار المسألة بهذا العرض السريع، فالمسألة فيها أقوال ومناقشات وبحوث دقيقة معروفة عند أهل التخصص.

ويبقى النقاش المبني على العلم، وتبادل وجهات النظر، في جوٍّ خالٍ من التكفير والتخوين والاجتراء، يثري العلم ويخدم المجتمع، مهما كانت آثاره على الشخص جرّاء الشعبوية والحماس الطائش والتشويش.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية