آلت الأوضاع السياسية المتوترة في العالم العربي إلى تفشي الطائفية بين الأفراد والجماعات وفي المؤسسات، فباتوا يعرفون أنفسهم من خلال الرموز الدينية وما تدل عليه من سلطة داخل المجتمعات، فتغدو هذه الرموز هويةً دينية ومذهبية تحجب الهويات الفردية ودلالاتها الإنسانية، وتحُول دون تشكل الهوية الوطنية الجامعة التي تعترف بجميع المذاهب والأديان والمعتقدات السياسية والاتجاهات الثقافية، والتي تفضي إلى هوية إنسانية في فضاء واحد ومشترك هو الفضاء الاجتماعي - الإنساني.
اقرأ أيضاً: التراخي القانوني يؤجج الصراعات الطائفية في مصر ويهدد العدالة
في مجتمع منقسم على نفسه إثنيات وعائلات وعشائر ومذاهب دينية، تعبّر الرموز التي يحملها الأفراد عن هذا الانقسام، وعن إمكانية النزاع الكامنة في شقوق الحياة الاجتماعية والإنسانية وفجواتها. فلهذه الرموز تأثير نفسي وسلوكي وثقافي، لا في من يحملونها فحسب؛ بل في نفوس من يرونها أيضاً، فتغدو نوعاً من لغة يتداولها الأفراد، لا بصفاتهم أفراداً؛ بل بصفة كل منهم جماعة قائمة بذاتها. إن للرموز الدينية أثراً قادراً على حجب شخصية الفرد الحقيقية وكيانه الإنساني.
إن للرموز الدينية أثراً قادراً على حجب شخصية الفرد الحقيقية وكيانه الإنساني
فقد بينت الحرب الدائرة في سورية، منذ أجهضت الثورة السلمية، واقع أنّ الأفراد المنخرطين في الصراع الطائفي والمذهبي ليسوا أفراداً أحراراً مستقلين؛ بل كائنات أيديولوجية وولاءات سياسية تعزز التفرقة الاجتماعية وتثير النعرات والعداوات النائمة أو الفتن النائمة في سرير التاريخ، وتغرس الخوف والرعب من الآخر المختلف؛ فأخذت كل طائفة أو مذهب تبرز رموزها الدينية المستوحاة من التاريخ الديني الموروث؛ فأسقطت التعددية الدينية في بؤرة موبوءة بالصراعات الطائفية والأيديولوجيا الدينية التي صارت هوية بأيقوناتها المتعددة وشعاراتها العلنية، والتي تحمل رسائل المعتقدات الدينية والإفصاح عن طائفة الأشخاص الذين يحملونها.
اقرأ أيضاً: الرؤية الطائفية للإسلام في وعي المسلمين اليوم
الرموز الدينية نوع من حرب صامتة ولغة تنابذ وتباغض، تزيد من احتدام الصراع والاقتتال الفعلي بين فئات المجتمع المختلفة دينياً وسياسياً وثقافياً وإثنياً وعرقياً، وتجعل العلويّ يظهر علويّته من خلال أيقونة سيف الإمام علي، (ذو الفقار)، والشيعيّ من خلال الخلعة أو الشريطة الخضراء، والدرزي من خلال أيقونة النجمة الملونة بألوانها الخمسة، والسنيّ المتشدد من خلال الهلال، مثلما يظهر المسيحي مسيحيته من خلال أيقونة الصليب بشتى أنواعه الذي يمثل كافة المذاهب المسيحية، أو السبحة المخصصة للمسيحين الكاثوليك، كما لا نستثني الحجاب للنساء المسلمات، أو زي الراهبات.
إنّ الأفراد المنخرطين في الصراع الطائفي والمذهبي ليسوا أفراداً أحراراً مستقلين
حتى اللباس العسكري في سورية بات يحمل مغزى دينياً واضحاً من خلال العبارات المطبوعة على قطعة من القماش تعلق على أحد أكمام البزة العسكرية؛ كشعار "قادمون" أو "لبيكِ يا زينب، لبيك يا حسين، لبيك يا سلمان" وغير ذلك من الشعارات المثيرة للمشاعر الدينية والمستفِزة للمختلفين والمختلفات من الطوائف الأخرى.
إذا تساءلنا عن أسباب يقظة الطائفية في المجتمع السوري، واحتدام النزاع الديني وطمس الهوية الوطنية واستبدالها بالهوية الدينية أو الإثنية أو الحزبية، لا يجوز أن ننسى أثر الرموز التي انتشرت منذ وقت غير قصير. وإذا ما دلت هذه الرموز على شيء إنما تدل على عدم وجود فضاء مشترك بين السوريات والسوريين. هذا الفضاء هو الدولة، التي يتساوى جميع مواطنيها ومواطناتها في الحقوق والواجبات.
نرى بسورية شباباً يحملون رموزاً مذهبية ويرسمون على أجسادهم وشوماً تميزهم عن الآخر
هذا إضافة إلى تغّول السلطة واحتكارها للثروات الوطنية وبسط سيطرتها على جميع مجالات الحياة، وصولاً إلى الحيوات الخاصة للأفراد، ومن ثم على المجتمع، الذي يعيد إنتاج الوعي السياسي والديني المتخلف، والمتوارث، ويعمل بالمسلمات الأيديولوجية التي ساهمت في ظهور الرموز الدينية والحرب الصامتة، إلى جانب الحرب الفعلية، فأكثر ما نرى في سورية شباباً وشابات يحملون رموزاً مذهبية أو يرسمون على أجسادهم وشوماً تميزهم من الآخر المختلف؛ إذن فالإشكالية في مثل هذه الحال إشكالية عميقة، إشكالية العلاقة بين الإرادة الحرة لأفراد المجتمع وإرادة السلطة، ومدى تأثير الثقافة والمعرفة المتوارثة، التي أنتجت وعياً اجتماعياً تقليدياً تابعاً للسلطة السياسية، ومحتمياً تحت عباءتها وعلى وجه الخصوص عند الأقليات الدينية، كالموحدين الدروز، والمسيحين والعلويين، بالإضافة إلى الإثنيات المتعددة، من أكراد وشركس وأرمن وغيرهم. فشعار حماية الأقليات الذي أطلقته السلطة، جعلت تلك الأقليات تأخذ موقفاً حيادياً من الاقتتال الدائر على الأرض السورية، لكنه بعد أن انجلت الأمور وأصبحت الحرب تُعرّف نفسها على أنها حرب طائفية، باتت تلك الأقليات تحارب بشكل صامت في إعلان رموزها الدينية على الملأ، وهي تجلس فوق بركان خامد من الحقد والكراهية مستعد للانفجار في لحظة المساس به.
الوطنية المؤسسة على العدالة والمساواة في وطنٍ يتسع لجميع المواطنين لا تستوجب هوية دينية
إنّ الهوية الوطنية المؤسسة على العدالة والحرية والمساواة، في وطنٍ واحد يتسع لجميع المواطنين، بغض النظر عن محمولاتهم السياسية والدينية والعرقية والإثنية، وبغض النظر عن الحالة الاجتماعية، لا تستوجب هوية دينية تعلن الحرب والنزاع بين الأفراد والجماعات المختلفين، والوصول إلى تلك الهوية يستلزم نبذ الطائفية ومحاربتها في (عقدٍ اجتماعي) يكفل لكل فرد حريته السياسية والدينية، وحقوقه المدنية، والعيش المشترك، لا "التعايش السلمي" الملغوم بالطائفية النائمة والعصبية والتعصب، وتشكيل وعي اجتماعي جديد يقبل الآخر المختلف ويعترف به خارج إطار رموزه الدينية والطائفية والمذهبية. الهوية الوطنية تحتاج إلى مواطنين أحرار ومستقلين ومواطنات حرائر ومستقلات.
اقرأ أيضاً: إيران.. الطائفية المؤدلجة والاعتدال الزائف