الإخوان.. وخوارزميات السياسة المرنة

الإخوان.. وخوارزميات السياسة المرنة

الإخوان.. وخوارزميات السياسة المرنة


04/05/2024

أيمن خالد

يمكن قراءة "مسألة السياسة" على شاكلة قراءة خارطة واسعة للطقس، فالغيوم هي واحدة، غير أنها تهبط بين متغيرات المكان، فما بين فيض المطر وشح الهطول، وعصف الرياح وسكون الموج، ثمة قراءة للمطر وفق عنصر المكان الذي هو فيه، ففي مكان يعيد نسج الطاقة وفي آخر تتحول البلاد إلى بحيرات من الطين، وفي مكان آخر قد تدخل العواصف بيت الترويض، وفي غيره قد تقتلع كل شيء، وشح المطر لا يعني شح القدرات إذا ما نجحت زراعة العقول.

فالمسألة هي السياسة والسلطة، وهنا تبرز الأيديولوجيا التي تصبح أداة نمو الوعي، أو تصبح أداة لنقل شريحة واسعة إلى ما تحت مستوى الوعي خلاف مقومات البيئة المحيطة، في مشهد ينتهي بانقسام يزداد طولاً وعرضاً، فتصبح الأيديولوجيا هي الحامل الفعلي للكينونة المجتمعية الجديدة، بينما الهدف هو استغلال هذه الكينونة للإتيان بالسلطة والتي هي المطلب الفعلي، هنا تُسقط السلطة الجديدة ثوب الأيديولوجيا وتمضي "كـسلطة" فقط، تمارس طقوس المصالح من جانب، وتترك طرفي المجتمع يغوصان في صراع الأيديولوجيا، فالسلطة هي السلطة، وأما الجسم الذي صنع هذه السلطة فالحصة الوحيدة التي يجلبها لنفسه هي الشعارات.

في الثورة الفرنسية انتصرت الأيديولوجيا، وهلك المجتمع في صراع طويل، وفي الثورة البلشفية انتصرت النظرية، بينما غرق الشعب بالهزيمة البنيوية ليحاول استعادتها بعد 70 عاما من الشقاء.

من هنا يبرز أهمية نظام السلطة الوراثي، والذي أثبت أنه ضمانة مفصلية مهمة في حياة الفرد والدولة، فالنظم الوراثية العربية بقيت في منأى عن الصراعات الدموية، التي ذهبت إلى غيرها، ما يجعلنا نعيد التأكيد على نظرية مجتمعية متوارثة وقديمة في الشرق، هي البيعة، ولها خصوصية، وقد لا تتوافق في بعضها مع النظم السياسية الغربية المعروفة، لكنها هي البيئة التي إذا تجاوزناها كسرنا قواعد الاستقرار. فمسألة البيعة للسلطة وعزلها عن التداول العام تجعل المنتج العقلي يذهب نحو الإبداع في مختلف نواحي الحياة، وهنا تنمو السياسة المرنة، لأنه وعبر التاريخ، بمقدار التصارع على السلطة وكثرة طلّابها من الداخل، فذلك يضعفها، وقد أدى ذلك إلى هلاك امبراطوريات عربية قديمة. لأن الدولة التي تقف على قدم الحذر تقل فيها البنية المرنة، بينما إذا ما ترسخ الاستقرار، كانت الدولة مرنة في الداخل، مرنة في الخارج، قوية في مرونتها أكثر مما هي قوية ببنيتها الصلبة، وهو ما يجعل الأزمات تمر من جوار الأنظمة العربية الملكية الوراثية، بينما تعصف في غيرها، والفاصل بين الأمرين، لغة الأيديولوجيا.

جاءت الأيديولوجيات كوسيلة لإعادة إنتاج المجتمع، وكانت تحتاج دوماً إلى مساحة نظرية تبرر فيها الفعل الذي تذهب إليه، لذلك نشأت فكرة القومية مع الانقلابات العسكرية، ونشأت مع الماركسية فكرة الحتميات التاريخية، التي التقطها فيما بعد الإسلاميون، وأصبحت في مخيلتهم مسألة السلطة ترتكز على مفهوم واحد
هو تنشيط الأيديولوجيا بين جمهور المتدينين، ثم تكون الولادة الحزبية الإسلاموية أمام هدف اصطياد الجمهور لأن السلطة بلا جمهور مستحيلة، ولأن فكرة الانقلابات العسكرية غير متاحة، بسبب مفهومية البيعة الراسخة في المجتمع.

من هنا كان مشروع الأيديولوجيا الإسلاموية، التي اخترقت الشارع العربي أول الأمر عبر الإخوان، وبهذه الأيديولوجيا يصبح الدين غطاءً مشروعاً للفعل السياسي المشين الذي يسعون إليه، وهكذا كانت خديعة الإخوان الكبرى أنهم اختبأوا خلف الدين واتجهوا نحو السلطة، وابتكروا حكاية المرشد، الذي هو صاحب البيعة بعدما ألقوا عليه هالة الدين والسياسة معاً، والذي يحاط بجمهرة من الخبراء في كيانية الإخوان الجديدة، وهو ذات المشهد في الثورة الإسلامية الإيرانية، ولكن ما بعد انتصار الثورة في إيران طويت صفحة الماضي وأدخل الجميع قسراً تحت عباءة الأيديولوجيا، وهو تماماً ذات الفعل يتمثل في جماعات الإسلام السياسي السنية على اختلاف أماكنها، فهي عندما تمسك بمساحة جغرافية مهما تكن صغيرة، تجد لغة الإقصاء والتفرد والاستبداد الذي لم يمارسه ربما طغاة القرون الوسطى.

ثمة مسافة كبيرة بين المرونة السياسية وبين المعادلات الصفرية التي جلبها الإسلام السياسي، فالمرونة أصيلة في تراثنا وهي مستمدة من جوهر صلح الحديبية، ومن جوهر حلف الرسول صلى الله عليه وسلم مع قبيلة خزاعة وهي قبيلة تعبد الأوثان في وجه خطر أكبر اسمه قريش آنذاك، من هنا إن اللغة الصفرية التي يطرحها الإسلام السياسي ليست أصيلة في التراث والدين، وإنما هي مجتزأة تنطلق من وراء التفكير الأحادي الذي يجلس وراء النص.

فمثلاً، خالد بن الوليد أصبح سيف الله المسلول ليس لأن سيفه أصاب كثيراً من خصومه، ولكنه حصل على ذلك المسمى لأنه انسحب بالجيش الصغير من مؤتة، ولم يرسل الناس للهلاك كما في غزّة، بل حافظ على الجيش وحقن الدماء، ثم إنه لم يخض حرباً بعد مؤتة إلا ونصب خيمة الحوار قبلها مع الخصم، باستثناء قصة مالك بن نويرة والتي ظلت حديث المستشرقين.

أما معادلة صلاح الدين الأيوبي، فقد حاور خصومه، وفاوضهم، وعقد معاهدات كثيرة للصلح، وعندما جاء فتح القدس أبى أن يكمل المسيرة بالسيف، وذهب إلى الحوار الذي أفضى بمنح مفاتيح القبر المقدس للمسيحيين الشرقيين، وبذلك جفف مبررات الصراع الديني بين المسلمين وبين الفرنجة.

ما يسعى إليه تحالف الإخوان حماس، هو تلك المعادلة الصفرية، وليس معادلة صلاح الدين الذي أعطى الساحل الفلسطيني آنذاك للفرنجة، وأخذ القدس ونابلس والخليل، ما يعني الضفة الغربية اليوم.

من غرائب التاريخ أن العرب لم يستخدموا مطلقاً مصطلح الحروب الصليبية طوال ألف سنة من تاريخ الأمة، بل كانوا يسمونها حروب الفرنجة، والسبب أن العقل العربي المرن لا يريد أن يوقف الناس على طرف، بينما في عصر الإخوان المسلمين ذهبوا إلى الترجمات المنسية في الغرب وأعادوا نشر مصطلح الحروب الصليبية في بلادنا لكي يعيدوا معادلتهم الصفرية التي لا تنتمي للدين ولا الأمة.

معادلات الإخوان المسلمين بقيت صفرية، ليس فقط مع السلطة المستقرة التي يسعون إلى إسقاطها، بل حتى مع الأفراد، فمن ليس معهم فهم يرونه ضدهم، وهكذا يدخل الفرد إلى الإسلام بنطق الشهادتين، ولكنه لا يدخل إلى جماعة الإخوان المسلمين إلا إذا أثبت لهم الفرد (الولاء المطلق للجماعة).

عن "العربية"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية