منذ دخول الإخوان المسلمين معترك السياسة والانتقال المبكر في مطلع الأربعينيات من مربع الدعوة والتزكية والتربية، إلى الاحتكاك المتكرر مع الحكومات والسعي للوصول إلى الحكم، كان الأفراد دوماً هم الحلقة الأضعف والمطية الأسهل والقربان الذي تتاجر بهم الجماعة.
قيمة الفرد في التنظيم الإخواني
فور مقتل رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي على يد عنصرين من عناصر الإخوان المسلمين، ومحاولة تفجير مكتب النائب العام لإخفاء أدلة وخطط الجماعة ونظامها العسكري، لم يتردد حسن البنا في إصدار بيانه المشهور العام 1949 الذي حمل عنوان "ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين" قائلاً "وقع هذا الحادث الجديد – حادث محاولة نسف مكتب سعادة النائب العام، وذكرت الجرائد أنّ مرتكبه كان من الإخوان المسلمين، فشعرت بأنّه من الواجب أن أعلن أنّ مرتكب هذا الجرم الفظيع وأمثاله من الجرائم، لا يمكن أن يكون من الإخوان ولا من المسلمين". ببساطة جرّد البنا هذين الشابين الإخوانيين من انتمائهما للتنظيم؛ بل وانتمائهما للإسلام، ما أفضى لاحقاً إلى اعتراف المتهم عبدالمجيد أحمد حسن على بقية المتهمين من الإخوان تأثراً ببيان حسن البنا، الذي أصابه وأصاب المتهمين بالصدمة، بالرغم من أنّ فهم أحد قيادات النظام الخاص للبيان وهو محمود الصباغ، أنّه كان مجرد شكل من أشكال المداراة والتقية السياسية التي طالما لجؤوا إليها.
لم يتردد البنا فور قتل عنصرين إخوانيين للنقراشي بإصدار بيانه المشهور: ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين
هذا الموقف يكشف قيمة الفرد في التنظيم الإخواني؛ حيث يبقى وقوداً لحركة التنظيم وتأمين الوصول للأهداف، دون أن يحفل بحقوقه في المشاركة بتحمل نصيبه من خيارات اشترك في صناعتها، فالفرد في الإخوان هو مجرد جندي في جيش قيادته لا تعطي له أي حق؛ بل تفرض عليه فقط لوناً صارماً من ألوان الطاعة للقيادة الملهمة والمعصومة، التي يعتقدون أنّ الله ناصرها حتى وإن أخطأت؛ لأنها تدافع عن دينه وشريعته كما تركز الدعاية الإخوانية.
جنود برسم تبرُّؤ القيادة
تبقى تعليمات حسن البنا لأعضاء الجماعة حاسمة في تحديد أدوار الأفراد "كن جندياً في الثكنة ينتظر الإشارة"، بما يذكر بحسن الصبّاح زعيم فرقة الحشاشين الذي كان يفتخر بأنه إذا أمر أحد أتباعه أن يتردى من شاهق لفعل على الفور.
لكن الفارق أنّ استلاب البنا لأعضاء وقواعد الجماعة كان أقوى من الصبّاح؛ حيث لم يلجأ لمخدر مادي كالحشيش؛ بل لما هو أخطر وهو المخدر الفكري ببرمجة العقل على قناعات، تجعل الفرد ينظر لنفسه بدونية مرضية، وأنّه قليل بنفسه كثير بإخوانه كما علّمته الجماعة، سليب الإرادة في مواجهة القيادة التي يمثلها المرشد.
الفرد الإخواني مجرد جندي تحت قيادة تفرض عليه لوناً صارماً من الطاعة العمياء
لم يجد التنظيم بأساً في أن يتبرأ من أفراد تحلوا بما يعرف في التنظيم بتمام السمع والطاعة، وحملوا السلاح وخاطروا بأرواحهم في سبيل التنظيم، لكن حين استشعر خطرهم على وجوده ضحى بهم دون أن يرف له جفن.
الأمر تكرر تاريخياً في العام 1954 حين دفعت عناصر الجماعة للصدام مع النظام السياسي، وكلفت مجموعة باغتيال الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في ميدان المنشية، وعندما فشلت المحاولة نفى الإخوان علاقتهم بالعملية، وأطلقوا حرباً مع النظام ذهبت بأرواح الكثير من المغرر بهم ممن صدقوا قيادة الجماعة، وتصوّروا أنّهم ينصرون الدين بالتآمر على الوطن، والمشاركة في إضعافه وهو يخوض الحرب مع إسرائيل.
سقط في المواجهات التي أطلقتها الجماعة مع الدولة والنظام السياسي الكثير من البسطاء، ولم تتوقف القيادات أبداً عن المتاجرة بدمائهم بعد أن يقضوا بالحديث عن الشهادة في سبيل الله، التي لم تكن سوى حرب للوصول على الحكم لم تتوقف كما في العام 1965، حين دفعت عناصر جديدة للصدام مع النظام وقوعاً تحت تأثير أفكار سيد قطب وتكفيره للنظم والمجتمعات، وهو ما أطلق موجات تكفيرية ظلت تنتج آثارها عنفاً وتخريباً وقتلاً أصاب الآلاف بوزر تلك الأفكار.
استخفاف بالبسطاء
يحكي أحد قيادات الإخوان على لسان مسؤول المكتب الإداري بمحافظة الجيزة محمد الصروي، أنّه في العام 2000 أجري استطلاع رأي بين أعضاء مجلس الشورى بالمحافظة حول اشتراك الجماعة في انتخابات تجديد نصفي لأعضاء مجلس الشورى المصري آنذاك، فرفض الأعضاء المشاركة بنسبة 85% في تأكيد على أنّ تلك المعركة لا تستحق ما سينفق فيها من أموال وتضحيات، لكن أعضاء مجلس شورى الإخوان فوجئوا بقرار مكتب الإرشاد بالمشاركة في الانتخابات رغم تصويت مجالس شورى المحافظات بالرفض، ما أغضب "الصروي" الذي تمتم في لحظة انفعال قائلاً "طبعاً إخواننا في المكتب (يقصد مكتب الإرشاد) مش مهم عندهم كم أخ يعتقل أو يموت في الانتخابات طالما هم في أمان".
سقط في مواجهات الجماعة بسطاء كثيرون لم تتوقف القيادات أبداً عن المتاجرة بدمائهم
وفي ذات الليلة التي أفضى فيها بكلماته الصادقة قرر المرشد فصله ليس فقط من إدارة المكتب؛ بل ومن عضوية مجلس الشورى، لأنّه تجرأ بالحديث عن أخطر نقطة في سلوك قيادة الإخوان، وهي الحرص الدائم على التضحية بالبسطاء من أعضاء الجماعة، ودفعهم إلى أتون محرقة تلو الأخرى، ثم المتاجرة بدمائهم بعد أن يموتوا، والحديث عنهم باعتبارهم شهداء الجهاد في سبيل الله، وهم في الحقيقة شهداء مشروع الجماعة السياسي وأحلام القيادة في الحكم.
هي ذات الجماعة التي واصلت في مراحل أخرى المتاجرة بدماء أبنائها حينما دفعت البسطاء للدفاع عن مقر مكتب الإرشاد بالمقطم العام 2013 كما لو كان الكعبة التي يحج لها المسلمون، ليدفع هؤلاء إلى معركة تحت أجواء فوضى عارمة فيما عرف إعلامياً بأحداث مكتب الإرشاد وما تلاها من أحداث، توّجتها الجماعة باعتصامي رابعة والنهضة اللذين اعترفت قيادات الجماعة دون خجل بعبثيتهما، على لسان المتحدث الإعلامي لحزب الحرية والعدالة الإخواني المنحل حمزة زوبع الذي قال في برنامجه عبر قناة "مكملين" في آب (أغسطس) 2015 "كنا نعلم أن هذا الاعتصام لن يرد مرسي إلى منصبه، قد يسأل البعض لماذا كنتم تقولون للناس في الاعتصام مرسي سيعود غداً أو بعد غد؟ لأنّه كنّا نريد أن نصل إلى نقطة التفاوض"، لترد عليه عضوة من الإخوان معبرة عن صدمة قواعد الجماعة من هذا العبث بأرواح الناس "حسبنا الله ونعم الوكيل، غررتم بنا وتهاونتم في دمائنا، قيادة فاشلة ومن فشل إلى فشل".
لكن هذا الفشل المتكرر لم يدفع قواعد الجماعة للتوقف للحظة واكتشاف مدى انتهازية القيادة ومتاجرتها بدمائهم؛ فمع أن الكثيرين من قواعد الجماعة غادروا المشهد بالكلية بعد فض اعتصامي رابعة والنهضة، لكن دون الدعوة لمحاكمة تلك القيادة التي تاجرت تاريخياً بأرواح الأعضاء وآلامهم في مرحلة تلو أخرى، وعلى مدار حكم كل الأنظمة السياسية ملكية وجمهورية، في معادلة لم تتغير؛ بسطاء يدفعون للذبح من أجل التنظيم في معارك غير متكافئة مع الدولة والمجتمع، ويسقط الضحايا وتتجسد خطايا القيادات الذين يتاجرون بالدماء التي شاركوا في سفكها، ثم تعود تلك الجموع لتكرار الأمر دون اعتبار، في تكرار لأسطورة سيزيف وصخرته.