لم ينزل قرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الخاص، بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، برداً وسلاماً، على جموع الشعوب العربية والإسلامية، فضلاً عن الأصوات العالمية الأخرى، التي اصطفت بضميرها الإنساني، ضد غطرسة العدو الصهيوأمريكي، ومواقفه العدوانية، على الحقوق التاريخية المهدورة للشعب الفلسطيني، والتعدي على مقدراته وممتلكاته، وتعمّد تصفية وجوده، أرضاً وشعباً وتراثاً.
ومن التحركات التي جاءت مساندة للحق الفلسطيني ورداً على قرار ترامب، مؤتمر "الأزهر العالمي لنصرة القدس"، الذي استضافته العاصمة المصرية القاهرة، وعقدت فعالياته على مدار اليومين الماضيين؛ حيث شارك فيه أكثر من 86 دولة.
وضم المؤتمر نخبة من المهتمين بقضية المسجد الأقصى والقدس وكل محبي السلام من جميع أنحاء العالم، بما في ذلك عدد من الحاخامات اليهود، ممن لهم مواقف واضحة في معارضة السياسات الإسرائيلية والأمريكية والتصدي لها، بشأن المدينة التاريخية المقدسة.
أحمد الجمل: الإجماع على جوهرية القضية الفلسطينية
وعن الرسائل التي يقدمها المؤتمر قال الكاتب والباحث المتخصص في قضايا التجديد الديني أحمد الجمل لـ"حفريات": إنّ تنظيم مؤسسة الأزهر لمؤتمر "نصرة القدس"، الذي شهد حضوراً عربياً دولياً مكثفاً، له "دلالة كبيرة" على دور الأزهر "القيادي" في المنطقة وفي العالم الإسلامي بأسره، وأنّ انعقاد المؤتمر في مصر، وبرعاية الرئيس عبد الفتاح السيسي، له أبعاد سياسية أيضاً؛ فهو "يرسل رسائل إلى الدول الغربية، بمواصلة الدولة المصرية التصدي للقرار المشؤوم، الذي أصدره ترامب، والذي يعتبر اعترافاً ضمنياً بأنّ القدس عاصمة "إسرائيل" وهو مقدمة لشرعنة الاحتلال والانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين".
دعا شيخ الأزهر للرد على قرار ترامب بتفكير عربي وإسلامي جديد يؤكد عروبة القدس وحرمة المقدسات
حضور ممثلين عن 86 دولة مختلفة في المؤتمر، إلى جانب عدد كبير من الشخصيات العامة والسياسية والدينية؛ الإسلامية والمسيحية، وحتى رجال دين يهود، بالإضافة إلى الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، والبابا تواضروس، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، والراهب اليهودي "مائير هيرش"، رئيس حركة "ناطوري كارتا"، له دلالات عدة، وفق الجمل، من أبرزها "جدية القضية والإجماع على جوهريتها، وأنّ القدس عاصمة فلسطين وهي قضية محورية بالنسبة لعدد كبير من الدول، منها إسلامية، وأخرى مؤمنة بالسلام وتنصر الحق التاريخي للفلسطينيين في وطنهم".
ولفت الباحث إلى أنّ هذا المؤتمر لم يكن الأول أو الوحيد لنصرة القدس، كما يشير اسمه، فالأزهر كان ناصراً وداعماً للقدس، على مدار تاريخه، منذ حرب 1948، وعقد 11 مؤتمراً، منذ الاحتلال الإسرائيلي إلى العام 1988، وهو ما يمثل دوراً إيجابياً، يسلط الضوء على القضية الفلسطينية، كل فترة "حتى لا تنسى، وكي تعرف الدول الغربية أن عروبة القدس وإسلاميتها، قضية ممتدة وحاضرة، في الوعي العربي ولا تقبل النسيان.
استعادة الوعي بالقضية الفلسطينية ومكانة القدس
وكان شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، اقترح في كلمته خلال الجلسة الافتتاحية للمؤتمر، اعتبار "2018 عاماً للقدس الشريف"، بغية التعريف بالقدس وقضيتها ومكانتها الدينية والحقائق التاريخية حولها، وإيجاد الدعم المادي والمعنوي للمقدسيين، وعمل ذلك من خلال عدة أنشطة ثقافية وإعلامية متواصلة، تتعهده المنظمات الرسمية، كجامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، والمؤسسات الدينية والجامعات العربية والإسلامية، ومنظمات المجتمع المدني، وغيرها.
وحثّ شيخ الأزهر في كلمته حول قرار ترامب أنه "يجب أن يقابل بتفكير عربي وإسلامي جديد، يتمحور حول تأكيد عروبة القدس، وحرمة المقدسات الإسلامية والمسيحية، وتبعيتها لأصحابها وضرورة أن يتحول هذا التأكيد إلى ثقافة محلية وعالمية، تحتشد لها طاقات الإعلام العربي والإسلامي".
حاخام يهودي: نرفض كل المزاعم الصهيونية حول أحقية الصهاينة التاريخية في فلسطين والقدس وتمثيلهم لليهود
في المقابل، اعتبر البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، أنّه "من المؤسف أن تكون مدينة القدس مسرحاً للصراع والاقتتال"، ووصف قرار ترامب، بـ"الظالم والجائر"، مشيراً إلى "رفضه الظلم والقهر عبر استغلال النصوص الدينية".
وقال: "إذا كانت القدس تمثل رصيداً تاريخياً للشعب اليهودي، فهي تمثل تاريخاً حياً وذكريات حاضرة بقوة في وعي ووجدان المسيحيين والمسلمين على حد سواء”.
وتحت عنوان: "الهوية العربية للقدس ورسالتها"، عبر الحاخام ميرهيرش، زعيم حركة "ناطوري كارتا"، اليهودية، خلال كلمته بالجلسة الرئيسية التي عقدت الأربعاء 17 كانون الثاني (يناير) الجاري، عن رفضه لكل المزاعم الصهيونية، حول أحقيتهم التاريخية في فلسطين والقدس، وكذا تمثيلهم لليهود.
وقال ميرهيرش: "ليس ثمة حقوق لهؤلاء الصهاينة، وقادتهم، في تمثيل الشعب اليهودي، أو التحدث باسمه، وإن لفظة "إسرائيل" التي يستعملونها، ليست إلا تزييفاً مشيناً، وليس هناك ثمة ارتباط بين هؤلاء الصهاينة، وقادتهم، كذلك، مع الشعب اليهودي وشريعته، وليسوا يهوداً على الإطلاق".
آليات الحفاظ على الوجود العربي بفلسطين
وركز المشاركون في المؤتمر على تعزيز الموقف العربي والإسلامي تجاه القدس، واستعادتها كقضية العرب، من ناحية الهوية والوجود، الذي يحاول العدو الصهيوني، إبادته وطمسه، عبر القتل والتزوير والدعاية المضادة.
وكما عبر البيان الرسمي للأزهر عن أهمية استعادة "الوعي بقضية القدس، والتأكيد على هويتها العربية، واستعراض المسؤولية الدولية تجاه المدينة المقدسة، باعتبارها خاضعة للاحتلال، والتأكيد على أنّ القانون الدولي يلزم القوة المحتلة "إسرائيل" بالحفاظ على الأوضاع القائمة على الأرض".
وطرح المؤتمر ثلاثة محاور، تناوب الحضور على الحديث فيها؛ حيث جاء الأول، بعنوان: "الهوية العربية للقدس ورسالتها"، يرافقه عدة عناوين فرعية، تتناول المكانة الدينية العالمية للقدس، والقدس وحضارتها في التاريخ والحاضر، وأثر تغيير الهوية في إشاعة الكراهية، وتفنيد الدعاوى الصهيونية حول القدس وفلسطين.
وفيما يتصل بالمحور الثاني للمؤتمر، المعنون بـ"استعادة الوعي بقضية القدس"، فتطرق إلى قضايا المركز القانوني الدولي للمدينة المحتلة، والدور السياسي في استعادة الوعي، والدور الثقافي والتربوي في قضية القدس، وأهمية الدور الإعلامي في استعادة ذلك الوعي العام بالقضية العربية.
السلام يبدأ من استعادة هوية القدس العربية
وناقش المحور الثالث للمؤتمر "المسؤولية الدولية تجاه القدس"، مسؤولية المؤسسات الدينية والمنظمات الدولية، والمجتمع المدني العالمي تجاه قضية القدس.
وشدد المؤتمر، في اليوم الثاني من انعقاده على جملة أهداف ملحّة، أجملها الأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط في كلمته، وهي أنّ القدس الشرقية أرض محتلة؛ كما أنها عاصمة للدولة الفلسطينية، التي لن يتحقق الأمن والسلام والاستقرار في المنطقة إلا بقيامها حرة مستقلة ذات سيادة، على خطوط الرابع من حزيران 1967، وفق قرارات الشرعية ذات الصلة ومبادرة السلام العربية.
سياسة العدو الصهيوني تستهدف تصفية الوجود العربي في فلسطين وتهميشه بالإبادة وهدم البيوت وسحب الهويات
من جهته قال رئيس الأكاديمية الفلسطينية للشؤون الدولية بالقدس الدكتور مهدي عبد الهادي "إنه جاء من القدس يحمل رسائل للعالم، وهي رسالة عربية، فالقدس يعيش حالة غير خلاقة، ولكن الشعب العربي يريد حقوقه المسلوبة وكرامته وحريته ووجوده، في هذه الأرض ولن يفرط فيها، ورسالة وطنية مفادها، أنّه ما أخذ بالقوة لا يرد إلا بالقوة، وأن الأيادي المرتعشة لا تبني، وأننا لن نفرط في قدسنا أبداً ما حيينا".
وأردف رئيس الأكاديمية الفلسطينية أنّه يتوجه برسالة مقدسية للجميع، من خلال حراك الشباب الوطني، فالوطنية؛ هي الالتصاق بالأرض الفلسطينية والصمود في مواجهة الاحتلال، والتعريف بصمود الشباب المقدسي، ضد محاولات إقصائه عن بيته ومسجده وثقافته وعمله، وضد بناء المستوطنات، وضد تدنيس مقدساته الإسلامية والمسيحية.
عباس: أمريكا اختارت تحدي العالم
ثمة سياسة ممنهجة لدى العدو الإسرائيلي، تستهدف تصفية الوجود العربي في فلسطين، وتهميشه، وحصار ذلك التواجد وآثاره من خلال عمليات الإبادة المستمرة، وهدم البيوت ومنع تصاريح البناء، فضلاً عن سحب الهويات وعدم تجديدها، في مقابل، زرع المستوطنات، بصورة مستمرة، بين مدينة القدس وفي قلب الأحياء العربية فيها والضفة الغربية، مما يؤدي إلى وجود أغلبية يهوديةـ في المدينة تعزل الوجود العربي.
وفي هذا السياق قال الرئيس الفلسطيني محمود عباس، في كلمته، إنّ الولايات المتحدة، بقرارها حول القدس، اختارت أن تخالف القانون الدولي، وأن تتحدى إرادة الشعوب العربية والإسلامية، وجميع شعوب العالم، كونه يناقض الإجماع الدولي الذي رفضه العالم، في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وأوضح أبومازن أنّ فلسطين حصلت على 705 قرارات من الجمعية العامة للأمم المتحدة، و86 قراراً من مجلس الأمن منذ 1948، لكن هذه القرارات لا تُطبق على أرض الواقع؛ وتساءل: ماذا على الشعب الفلسطيني أن يفعل إن كانت أعلى منصة في العالم، وهي الأمم المتحدة، لم تنصفنا!
القدس العاصمة الأبدية لفلسطين
وأجمع المؤتمرون على عروبة القدس؛ حيث أعلن المؤتمر عن توصياته المؤكدة على أنّ القدس هي العاصمة الأبدية لدولة فلسطين المستقلة والتي يجب العمل الجاد على إعلانها رسمياً والاعتراف الدولي بها وقبول عضويتها الفاعلة في كافة المنظمات والهيئات الدولية.
كما شدد البيان على كون القدس حرماً إسلامياً ومسيحياً مقدساً، عبر التاريخ، فضلاً عن أن عروبة القدس أمر لا يقبل العبث أو التغيير وهي ثابتة تاريخياً منذ آلاف السنين، ولن تفلح محاولات الصهيونية العالمية في تزييف هذه الحقيقة أو محوها من التاريخ.
وأعاد البيان التأكيد على الرفض القاطع لقرارات الإدارة الأمريكية الأخيرة والتي لا تعدو بالنسبة للعالم العربي والإسلامي وأحرار العالم، أن تكون حبراً على ورق، فهي مرفوضة رفضاً قاطعاً وفاقدة للشرعية التاريخية والقانونية والأخلاقية التي تلزم الكيان الغاصب بإنهاء هذا الاحتلال وفقاً لقرارات الأمم المتحدة الصادرة في هذا الشأن. وحذر المؤتمر من عواقب هذا القرار إذا لم يسارع الذين أصدروه إلى التراجع عنه فوراً.
كما طالب المؤتمر بتسخير كافة الإمكانات الرسمية والشعبية العربية والدولية؛ الإسلامية، المسيحية، اليهودية، لإنهاء الاحتلال الصهيوني الغاشم لأرض فلسطين العربية.
ودعا المؤتمر حكومات دول العالم الإسلامي وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي والأمم المتحدة ومنظمات المجتمع المدني إلى التحرك السريع والجاد لوقف تنفيذ قرار الإدارة الأمريكية، وخلق رأي عام عالمي مناهض لهذه السياسات الجائرة ضد الحقوق والحريات الإنسانية.