صورة الأم في التراث الشعبي

صورة الأم في التراث الشعبي

صورة الأم في التراث الشعبي


21/03/2024

تتجلى صورة "الأم" في مواطن مهمّة وشديدة التأثير داخل موروثنا الشعبي، فالأمومة بوصفها مظلة العنصر الأنثوي، تحتفظ داخل ذاكرتها الشفاهية بمنظومة كاملة من العادات والتقاليد والمعتقدات والمأثورات الشعبية، فتُعدّ الأم حافظة للتراث، والتراث يعني الإرث المادي واللّامادي الذي توقف عن أداء وظيفته في حياة الناس، وبالتالي أصبح التراث المادي مكانه داخل المتاحف أو الأماكن الأثرية المفتوحة، التي تضم بيوتاً ومعماراً قديماً، وبه آلات وأدوات عمل زراعية ومنزلية حُفظت لتعبّر عن فترة تاريخية واجتماعية قديمة مندثرة.

أمّا فيما يخص المأثورات، فهي كل ما توارثته الأجيال، وانتقل من الآباء إلى الأبناء شفاهياً، مثل: العادات والمعتقدات والتقاليد والأعراف والأغاني والحكايات والأمثال الشعبية، تلك المأثورات تمكنت من الصمود عبر الزمن، وتميزت بإعادة الإنتاج، وما تزال تؤدي وظيفة سلوكية مهمّة في حياة الناس والعقل الجمعي، وذلك بالإضافة إلى الجانب المادي من المأثور، والذي يتمثل في فنون التشكيل الشعبي والحرف اليدوية، وأيضاً فنون الأداء الحركي الذي يتجسد في الرقصات والألعاب الشعبية.

وتلك المنظومة لا يمكنها أن تنفصل، ولكن وجد التصنيف بغرض الدراسة الأكاديمية والحرص على ضبط المصطلحات المتعلقة بالتراث والمأثور داخل الثقافة الشعبية، وتلك المنظومة الاجتماعية التي تمثل طرفاً أصيلاً في التكوين السلوكي والاجتماعي، وتُشكّل وعياً عميق الجذور داخل الذاكرة الشعبية، توضح ممّا لا يدع مجالاً للشكّ أنّه لا يوجد إنسان لا يخضع  لسطوة وتأثير التراث والمأثور الشعبي.

الإنسان والتراث الشعبي

يقول عالم الفولكلور السويسري ريتشارد فايس (Weiss): توجد الحياة الشعبية والثقافة الشعبية دائماً حيث يخضع الإنسان كحامل للثقافة في تفكيره أو شعوره أو تصرفاته لسلطة المجتمع والتراث، ويقول علاوة على ذلك: يوجد في داخل كل إنسان شد وجذب دائمان بين السلوك الشعبي وغير الشعبي، ولذلك لدى كل إنسان موقفان مختلفان؛ أحدهما فردي، والآخر شعبي أو جماعي.

ومن أهم الكنوز البشرية التي اعتنقت الموروث الشعبي، وكانت حاملاً لتلك الثقافة وحافظت عليها هي الأم؛ العنصر الأنثوي الأهم في منظومة التراث، فالنساء بشكل عام، والأمهات بشكل خاص، يمتلكن أنواعاً متعددة من أشكال الموروث الشعبي داخل ذاكرتهنّ وفي صدورهنّ، فالنساء بالأساس هنّ من حافظن على الحكايات والأمثال وأيضاً المعتقدات وعادات الطب الشعبي، وكل ما يتعلق بدورة الحياة من المهد إلى اللحد.

وللمرأة دور بارز في ميدان الأدب الشعبي، خاصةً في أدب المناسبات العائلية، ويقول (رشدي صالح): إنّ ذلك الأدب من صُنع المرأة لا الرجل، وأشدّ الأنواع اختماراً البكائيات، فهي تمثل لنا مشاعر مضغوطة اختمرت في نفسية المرأة حقبة طويلة، فأصبحت حين تقعد للبكاء تستقطب ميراثاً عريضاً من الضغط والخسف، فلا تبكي الميت بقدر ما تبكي نفسها، وليس من الغريب أبداً أن تكون البكائيات هي فنّ التسرية لدى المرأة كلما خلت إلى نفسها.

المرأة حاضنة للتراث

وهناك مناسبات للغناء وألوان منه وقفت على المرأة وحدها مثل: أغاني الختان، والاستحمام، والفطام، ومداعبة الأطفال، وتنويم الطفل، والمفاخرة بابنها، وعند استقباله بعد عودته من الكُتّاب أوّل مرة.

وفيما يخص الإبداع، نجد للمرأة فنونها الخاصة، مثل: الحُلي والأزياء، وفي مجال المعتقدات الشعبية نجد المرأة تتفرد بطقس الزار والشبشبة وحلب النجوم.

وبعد أن استعرضنا ملامح من دور المرأة كحاملة للتراث، ننتقل إلى الجانب الأكثر أهمية والذي يتمثل في مظاهر الأمومة داخل الثقافة الشعبية، على اعتبار أنّ المرأة هي العنصر الرئيسي والمبدع لهذه الموروثات التي تتعلق بالطفل منذ ولادته إلى أن يستقل بذاته.

وتقدّم أيضاً السّير الشعبية نماذج للأم لا يمكننا أن نجعلها تمرّ مرور الكرام  دون النظر فيما صورته السيرة وجسدته شخوصها من النماذج الأنثوية؛ وأبرز مثال على ذلك نموذج خضرة الشريفة،  فهي كانت بمثابة الشخصية المحورية في مفتتح أحداث السيرة، ومدى المعاناة التي عاشتها تحت وطأة الخزي "الباطل"، فمن خلال خضرة الشريفة أمّ البطل (أبو زيد الهلالي) تتكون لدينا رؤية تأويلية عن مدى الظلم الذي تعرّضت له، وبالإضافة إلى ذلك فهي من أسست وغرست البطولة في (أبو زيد الهلالي)، وجعلته ينشأ على قيم الشجاعة والفروسية والإقدام، وذلك لأنّها بنت الأشراف، فربما تلك الرؤية تجعلنا بديهياً نطمئن لما تحمله خضرة الشريفة في مكوّنها النفسي والاجتماعي من صفات الشرف والنُبل، وهي بكل تأكيد من كريم خصال العرب التي احتضنتها كمورث ثقافي ونقلته لابنها وجعلت منه بطلاً ليردّ اعتبارها فيما بعد. 

وعلى نحو آخر، تتجلى مظاهر الأمومة في الحياة الشعبية، منذ أن تلد الأم وتضع طفلها ذكراً، فتبدأ أولى مظاهر العادات الشعبية، أثناء احتفال (السبوع)؛ حيث إنّ هذا الطقس الاحتفالي يُعدّ موروثاً  شعبياً يضرب بجذوره في عمق الأساطير المتوارثة من حضارات العالم القديم، ويمتد حتى يومنا هذا، فمع هذا الاحتفال تبدأ منظومة العادات والمعتقدات وأيضاً الأغاني الشعبية في التضافر معاً مكوّنة هذا الاحتفال الخاص بالنساء والأطفال، ومن أشهر الأغاني الخاصة (بالسبوع): "حالاقاتك برجالاتك، حلقة دهب في وداناتك".

وأغنية "يارب ياربنا، تكبر وتبقى قدنا"، وأثناء رش الملح بغرض إبعاد العين الشريرة والحاسدة ترش الأم الملح وتقول: "يا ملح دارنا كتّر عيالنا"، وتدقّ الهون أيضاً للغرض نفسه، وهو إبعاد أيّ أرواح شريرة يمكنها أن تؤذي الطفل، ونرى عناصر ثقافية كثيرة داخل هذا الاحتفال، ويختتم  (السبوع) بـ: "اسمع كلام أمك، ماتسمعش كلام أبوك"، إلى أن تخطو الأم (7) خطوات فوق الطفل؛ الأولى بسم الله، والثانية بسم الله...، إلى السابعة: رقيتك رقوة محمد بن عبد الله، وينتهي الاحتفال ولا تنتهي مظاهر الأمومة خلال الأعوام الأولى من عمر الطفل.

احتضان الأم للطفل

هي فترة محورية فيها العديد من المظاهر الثقافية المتوارثة، والكثير منّا سمعها وتربى عليها، بل قالها أيضاً، سواء أكان رجلاً أو امرأة، فحتى وإن كانت هذه العادة المتمثلة في الغناء أو الحكي تخص النساء، فهذا لا يعني جهل الرجال بها، بل على العكس يعرفها الرجال، ولكن بروز دور المرأة ودورها الجوهري يجعل من الرجل في هذه المنظومة الخاصة بالأم والطفل عنصراً فرعياً متلقياً للحكايات والأغاني، ولكنّه ليس راوياً جيداً لهذا النوع من الإبداع.

فالأم أثناء فترة الرضاعة تغنّي وهي تهنن طفلها، ولدينا الكثير من أغاني المهد للطفل، وهذه الأغاني تُغنّى غالباً قبل النوم لتهدئة وتدليل الأطفال؛ ومنها: "خُد البزة واسكت، خُد البزة ونام، عشان لما تسكُت، أبوك يعرف ينام"، وكم منّا من سمع وغنّى هذه الكلمات، ولا يعلم أنّها من تراث الجدات الذي تواتر وتناقلته الذاكرة الشعبية الشفاهية وقاوم الزمن والتغييرات، وظل راسخاً في صدور الأمهات، فتغنّي الأم تلك الكلمات وهي تُرضع صغيرها.

وفي أوقات التهنين وتهدئة الطفل للنوم تغنّي الأم لطفلها بصوتها الهادئ:

"ياحبية من زمان، وأنتِ في أبراج الحمام

 ننه هوهُ،  ننه نام

نام يا حبيبي نام، وأدبحلك جوزين حمام

تاتا خطى العتبة، تاتا حبة حبة"...

وذلك مع التهنين وهزهزة الطفل حتى يخلد إلى النوم، وتستخدم الأمهات كثيراً الشخشيخة لتهدئة الطفل أثناء البكاء، وهذا يجعلنا نذكر التشابه الكبير بين هذه العادة وصلاصل حتحور الأم الكونية في الحضارة المصرية القديمة، وتلك الصلاصل أو شخشيخة حتحور كانت تمثل طقساً مهمّاً في تهدئة غضب الآلهة وإبعاد الأرواح الشريرة والمزعجة.

الأم وفن الحكاية

عندما يكبر الطفل، ويصل إلى الفطام، نجد أنّ الأم هي من تحكي وتروي وتُبدع في فن الحدوتة، فمن منّا لم ينشأ على حكايات أمّه والجدات؟ فهنّ بكل تأكيد كنز بشري حامل للتراث، وقبل البدء في إظهار دور الأم في الحواديت لنتساءل ما الحدوتة؟

يُعرّفها طومسون أنّها قصة طويلة نسبياً تحتوي على موتيفات أو أحداث متتابعة تدور أحداثها في عالم غير واقعي، ليس له زمان أو مكان أو طبيعة محدودة، كما أنّها تمتلئ بالعجائب.

وهناك تعريف آخر: الحدوتة نص سردي قصير تتناقله الجماعة الشعبية، له بناء شكلي محدد، معظم رواته من النساء ومعظم جمهوره من الأطفال، للخوارق فيه الدور الأكبر، وموضوعه عبارة عن بقايا ديانات وأساطير قديمة، ويرتبط بأداء وظائف أساسية، كالتعليم والمحاكاة والتسلية.

ومن هنا تبدأ الأم في زرع منظومة القيم، وتبدأ التنشئة الأولى للطفل من خلال الحواديت التي تتمثل في الشاطر حسن، وستّ الحُسن، وفرط الرُّمّان، وغيرها من الحواديت والحكايات الموجودة في تراثنا الشعبي، وكل أطفال العالم ينشؤون على الحواديت، وتعتبر الأم والجدة الراوي لهذا النوع من الحكي، وليس في ثقافة معينة بل في كل العالم، بل والأكثر غرابة أنّ كثيراً من الحواديت تتشابه إلى حدٍّ كبير مع نظيرتها في ثقافات الشعوب الأخرى، مثل بياض الثلج Snow White القصة الألمانية وشبيهتها ستّ الحُسن والجمال، وقصة سندريلا الألمانية، وشبيهتها بدر الصباح، وأيضاً رادوبيس الفرعونية.

وعندما تبدأ الأم في الحكي لطفلها أثناء الخلود إلى النوم لا بدّ أن تروي الافتتاحية التقليدية للحدوتة التي تُعتبر أيضاً من أهم خصائص الحدوتة، فتقول:

"كان يا مكان يا سادة يا كرام، ما يحلى الكلام إلا بذكر النبي عليه الصلاة والسلام"،

"كان يا مكان في سالف العصر والأوان، كان في...".

وتبدأ الأم بأن تحكي الحدوتة لأبنائها بأسلوب شائق وجذاب، وتعطي من خلال الحدوتة قيمة أخلاقية تتمثل في معاني الخير والأمانة واحترام الكبير والعطف على الصغير، وبالنسبة إلى الفتيات يتعلمن من الحواديت عدم الانسياق وراء الغرباء، ومساعدة الأم في المنزل، وأيضاً مساعدة كلّ محتاج حتى تصبح جميلة مثل ست الحُسن، ويجب أن يسمع الولد كلام والديه، وأن يكون شجاعاً حتى يكون مثل الشاطر حسن، وغيرها من الحكايات التى يحاكيها ويتعلمها الأطفال، فتكون الحدوتة حجر الأساس الأوّل في تنشئة الأطفال على معاني وقيم الحق والخير والجمال، وهذا ما يحتاجه الطفل في الأعوام الأولى من حياته.

ثم تختتم الأم الحدوتة في عدة سياقات: "توتة توتة، خلصت الحدوتة... حلوة ولا ملتوتة؟ أو: "عاشوا في تبات ونبات، وخلفوا صبيان وبنات".

الأم وممارسات الطب الشعبي

يندرج الطب الشعبي داخل منظومة علم الفولكلور كفرع من المعتقدات الشعبية، وهو أيضاً مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمعارف الشعبية، وتتميز الجدات والأمهات في الثقافة الشعبية باعتمادهنّ على الكثير من المعارف الشعبية الخاصة بالطب الشعبي والمعالجة بالأعشاب والرقى والتعاويذ وغيرها من الوصفات... وتلجأ الأمهات كثيراً إلى ما يُعرف بالطرق التقليدية في علاج الأطفال من المغص عن طريق غلي اليانسون والأعشاب لتهدئة معدة الطفل.

وعند السُعال غلي ورق الجوافة، وعندما يُصاب الطفل بجرح تسدّ الجرح بالبُن، وعندما تشعر الأم أنّ طفلها محسود تقوم بقراءة الرقى عليه، وتقول: "بسم الله أرقيك من كل شي يؤذيك، الله يشفيك".

وأحياناً تقوم بإطلاق البخور، وفي بعض الحالات المرضية المستعصية على الأم في المنزل تلجأ إلى طرق شعبية أخرى كالذهاب إلى شيوخ الأضرحة أو زيارة الأولياء والقدّيسين والتوسل إليهم من أجل طلب الشفاء، وهذه العادة المرتبطة بزيارة الأولياء طلباً في الشفاء لها عمق حضاري في الحضارة المصرية القديمة؛ حيث كان المصريون قديماً يذهبون إلى المعابد التي خُصصت للطبيب إمحوتب، ويلتمسون من روحه العلاج، وعُثر على نصوص دوّنها المصريون بأنفسهم يشكرون روح الطبيب إمحوتب على مساعدة المريض والشفاء من الأمراض.

فهذه العادة متوارثة من التراث المصري القديم، ولم تنشأ من فراغ، وإنّما لها جذر حضاري عميق في الذاكرة الثقافية لدى الثقافة الشعبية المصرية.

وتتجلى مظاهر الأمومة في الأمثال الشعبية ونصائح الأم لابنها بعد أن يبلغ مرحلة المراهقة، وتحتضن ابنتها وتعطيها هذا المخزون من الموروثات المتمثل في الحكايات وغيرها من عناصر الثقافة الشعبية، وتنصحها عند اقتراب الزواج، وهناك عادات لا حصر لها في هذا الاحتفال؛ بداية من تجهيز العروسة، وتنظيف جسدها وتزيينه بالحنّاء وغيرها من الأعشاب، ويتخلل كل هذا الأغنية الشعبية وما تحمله من معاني تُجسّد شكل العلاقة الزوجية، وربما بها بعض المحذورات، ولكنّ العقل الجمعي اتفق على تلك الكلمات، وما زالت تحفظ وتؤدي وظيفتها لمن يحفظها، فكل هذا الموروث الضخم يتجسّد في الأم وما تحمله من موروث مرتبط بأبنائها منذ الولادة، وحتى ترى أحفادها وتُصبح جدة تروي الحكايات لأحفادها، ولا يسعها إلا أن تقول: أعزّ الولد ولد الولد.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية